الثلاثاء، 31 مارس 2015

الروح الوطنية الجامعة ،، وأحداث المرحلة

الروح الوطنية الجامعة ،، وأحداث المرحلة
محمد بن سعيد الحجري.

جريدة عمان 10 جمادى الآخرة 1436هـ/31 مارس 2015م

صبحك  عن  الظلما اعتزل
واسمك في عمق الذاكرات
حميد بن راشد الحجري

   يعيش العمانيون هذه الأيام ذروة من ذرى الروح الوطنية والشعور الوطني، ولأن الذرى الشامخة تُرى ولا تُحاط، فإن الكثيرين يستدركون حديثهم عنها قائلين إنها لحظة لا تستوعب الكلماتُ فيها المعاني، وهم صادقون في ذلك، ذلك لأنها ولو أحاطت بوصف المشاهد، فإنها لن تحيط بعمق المشاعر ولا بتدفق الأحاسيس ولا بتصاعد الروح الوطنية، ولعلها من اللحظات التي تنطبق عليها عبارة النِّفري الشهيرة: "إذا اتسعت الرؤية ضاقت العبارة"، لكن سواء امتلك البعض قدرته على التعبير عن اللحظة كما تستحق، أو تراجعت العبارات أمام جلال المعاني فإن العمانيين جميعهم يعيشون هذه اللحظة ويعرفون سرها، فهناك حقيقة تتجلى للجميع بأن ما يجري على عمان اليوم هو ملحمة وطنية، ونحن ندرك وسنزداد إدراكاً أن هذه الروح التي تسري في عمان اليوم ترسخ تلك المعاني والقيم الوطنية والإنسانية التي تزيد من صلابة الإرادة الوطنية ومن مناعتها وحصانتها، ونحن ندرك وسنزداد إدراكاً بأن هذا التعبير الوطني الجامع هو تعبير وحاجة في آن معاً، فالشعوب العريقة تحتاج لذلك، تحتاج لرموزها، وتحتاج للحظات تألّقها، وتحتاج لوقفات تصل فيها بالشعور الوطني إلى أوجه، نعم نحن نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لهذه المعاني والقيم، وسندرك أن أطفالنا وشبابنا الذين يتشربون بها اليوم هم في أمس الحاجة إليها في وقت تهبّ فيه كل هذه العواصف على العالم، وتقرع فيه طبول الحروب وتقف فيه الشعوب أمام المجهول، بينما يردد العمانيون أهزوجتهم الوطنية،
ويتعاظم مع الفرح شعور عميق بالنعمة الإلهية التي يعيشها العمانيون، وما الدعاء الذي تختتم به المناسبات الوطنية اليوم إلا تعبيراً عن هذه الروح التي تعرف نعمة الله على عباده، وهذا الإحساس بالنعمة وهذه الروح المبشرة بالخير هي التي تدفع العمانيين إلى كف الشرور وبذر الخير ورجائه للشقيق  والصديق وللبشرية كلها.

إن لعمان وضوحاً كبيراً في سياستها الخارجية يغني عن كثير من التحليلات التي يتخرّص بها البعض، فهناك جملة من القواعد الثابتة التي لا خروج عنها ولا استثناء أو انتقاص، ذلك أن اختراقاً واحداً لهذه القواعد الثابتة يلغي ثباتها بالكلّية، ثم لا تغدو الثوابتُ ثوابتَ بعد ذلك، وأولها ــ كما هو معلوم ـــ أن لا تتدخّل في الشأن الداخلي لأي بلد كما لا تقبل بالتدخل الخارجي من أي كان، ثم هناك قاعدة العمل الدائب على إقرار السلم والركون إلى الجهود السلمية في حل أي صراع ينشأ، وهناك قاعدة أن لا ركون لسياسة الأحلاف والانحيازات، ثم هناك قاعدة أساسية بل وتاريخية بأن شأننا المحلي والمشروع الوطني هو الذي يأخذ اهتمامنا وتنصب عليه جهودنا، إذ ليس لعمان أي أجندة خارج الأرض العمانية، وهذه القواعد كلها تعفي الكثيرين من هواجس الظنون، فلن يأتي من عمان إلا الخير ولن تبادر إلا بالخير، وحيادها حياد إيجابي يجعلها محط أنظار الراغبين في السلام حينما يدركون أن الحاجة إليه باتت ضرورة، وأن إعياء التطاحن قد أرهق الجميع، وأن الأوطان تتسع لكل أبنائها وأن أرض الله واسعة بقدر القلوب إذا اتسعت، وبقدر الإرادات الحرة المستقلة إذا وعت أن مصائر الأوطان لا يحددها إلا أبناؤها، وعندئذ إذا بلغت القناعة هذا الحد فإن عمان تبقى بوابة السلام التي لا تغلق.


لقد جرب العرب خلال السنوات الأربع الماضية كل أنواع الأجندات، وصنعوا ما يُتَخيل وما لا يُتَخيل من التحالفات التي تفكك بعضها واتصل بعضها، وسقطت أنظمة وقامت أخرى لتسقط من جديد، وجربوا الارتهان للخارج وجعلوا مصائر أوطانهم بأيدي غيرهم وتحول بعضهم إلى أدوات للقوى الإقليمية والخارجية يضرب أخاه ويقضي على وطنه، وظهرت قوى ظلامية لم يكن المرء ليتخيل أنها ستظهر من جديد، وتفككت دولٌ، ودولٌ تنتظر التفكك، فهل أجدى كل ذلك التدخل شيئاً؟ وهل تحقق لأحدٍ خيرٌ أم دارت عجلة الدمار على الكل؟ وخسرت الشعوب وحدتها وتآلفها وتمزق نسيجها الوطني فلم يرتفع ظلم ولم يتحقق عدل، بل زاد الظلم ظلاماً وغدت العدالة آخر المطالب وبحث الناس عن ساعة أمن كما يبحثون عن كسرة الخبز!


وحينما تتصاعد موجات اللغط والإرجاف عبر وسائل التواصل الاجتماعي فالأجدر بنا أن نتعاطى معها وفق هذه الروح، فللسياسة العمانية وسائل شرحها مع الأشقاء، والتشاورات السياسية لا تنقطع، وهي منفتحة على الكل، وهي واضحة في ثوابتها وفي منهجها وفي انتفاء أي غرضية إلا الخير منها، وكل هذه الجلبة التي تثار حين تشكل عمان موقفها الخاص لا يجوز أن تستفزنا عن روح المثابة العمانية، ولا أن تستدرجنا بالكلام عمّا نزهنا أنفسنا عنه بالسياسة والفعل، ولا أهم اليوم لكل أبنائنا وشبابنا من الوعي والحذر والتسامي والتنزه عن مستنقعات الفتنة، وستأخذ الأحداث مسارها للأسف ولن يتغير في عالم العرب شيء إلى الأفضل، وسيدرك الكل في يوم ما لم اتخذ العمانيون هذا الموقف كما حدث في التاريخ القريب والبعيد؟

لقد اختار العمانيون دوماً أن يشتغلوا بشؤونهم وانصرفوا إلى رسالتهم الحضارية إلى العالم عبر البحار وكانوا في يوم ما "دهليز الشرق وبوابة الصين ومغوثة اليمن" كما ينقل الاصطخري في "المسالك والممالك" عن البشاري، وفضل العمانيون أن يبقوا على استقلالهم الذي أقرهم عليه نبي الرحمة، رغم وجود الدول المركزية في دمشق وبغداد والقاهرة والأستانة، وحافظوا على هذا الاستقلال ضد كل قوة حاولت النيل منه وواجهوا أولى موجات الاستعمار في القرن السادس عشر، ورسالتنا الحضارية للعالم وعتها قيادتنا منذ أكثر من أربعين عاماً وهي تبني الروح العمانية بعد سنوات الجمود والعزلة، وحري بنا أن نستمر فيها وأن يكون العمل وتوجيه الشباب لها هو هم ليلنا ونهارنا، وهي من بعد تستوعب كل جهدنا وطاقتنا ومواردنا.

إن العمانيين لا يعرفون السياسات الثأرية المؤقتة، ولا يقررون سياستهم وفق مبدأ اللحظة، بل يتكئون على مسيرة تاريخ تقلبت بهم مسيرته على كل أحواله كما سبق أن قلنا عدة مرات، وهم يعون درس التاريخ، وخلاصاته تتأكد أمامهم يوماً بعد آخر، وخلاصاته والوعي بحقائق الجغرافيا والتوازنات الاستراتيجية واستحقاقات المستقبل الذي لا يبنى على الحقد كل ذلك جزء من تفكيرهم، وهم مشغولون اليوم بروحهم الوطنية التي جددها سلطانهم قبل أربعين عاماً، وعندما يحتفون بعودته لوطنه بهذه المسيرات الحاشدة التي لم تترك ولاية عمانية واحدة،
  فهم يحتفون أيضاً بهذه الروح التي استلهموها وجددوها، هذه الروح التي وعت التاريخ وخططت للحاضر وألهمت للمستقبل، وهم يحتفون أيضاً بهذا النهج الذي جعل من السِّلم سياسة، ومن الحفاظ على استقلال القرار الوطني ثابتاً من الثوابت، وهم يحتفون بهذه الحكمة التي جنبتهم شرور العالم ومخاطر الانزلاق إلى الفتن التي تستنزف الحالة العربية اليوم، وهم يحتفون بهذا الوعي الذي أنجز الوحدة الوطنية بفلسفة الحب والعلاقة الإنسانية والتراحم، التراحم الذي لم يعد له في دنيا العرب معنى أو قيمة!، وهم يريدون من إخوانهم أن يفهموهم وفق ثوابتهم الواضحة، ووفق مبدأ إرادتهم بأن يكونوا طريق سلام لا مسار حرب، ووفق أنهم معنيون بمشروعهم الوطني، ومعنيون بحفظ استقلالهم وإرادتهم وقرارهم السياسي، وهذا النهج هو قرار قيادتهم السياسية مثلما أنه حديث الروح الوطنية الجامعة في عمان من أقصاها إلى أقصاها، وما نراه من احتفالات اليوم هو مزيد من تعميق الإيمان بهذا النهج والوثوق به، بل والحاجة للتعبير عنه.

وإذا أردنا أن نختم الحديث عن هذه الروح الجامعة اليوم وما تتمثله فلعل من المناسب هنا أن نورد بعض أبيات "العازي" الذي ألفه أحد آبائنا وأنشده شبابنا في ولاية بدية في مسيرة الحب والوفاء التي انتظمت صباح السبت الماضي، فبعض تلك الكلمات المتمثلة للشعور الوطني تفسر كيف يرى العمانيون اللحظة، تقول بعض تلك الكلمات: 
غيرك دعا الناس ف محنْ * فرق شعوب(ن) في الشتات
صبحك عن الظلما اعتزل *  واسمك  ف عمق  الذاكرات

والحمد لله أولاً وآخراً..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق