الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

كتاب "البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة، بحث في الوثائق" قراءة و رؤية

* نشر هذا المقال عبر ملحق شرفات الثقافي في حلقتين يومي 9 و 16 أكتوبر 2012م .

الجزء الأول من المقال :
 
المجموعة الكاملة لمجلدات الكتاب الــ 16

كانت الوثائق المتعلقة بالشأن العماني في دور الوثائق البرتغالية حديث الساحات العلمية والثقافية خلال العشرين سنة الماضية ، وكان الحديث عنها يدوردائماً حول ما يمكن أن تضيفه لمصادر التاريخ العماني فيما لو كشف عنها من سد لبعض الثغرات ، أو إضاءة لزوايا معتمة في تاريخنا ، خاصة و أن الحقبة التي سبقت قيام الدولة اليعربية والتي تعني عملياً سنوات الاحتلال البرتغالي للساحل ،وهي تنوف على المائة و العشرين سنة ،فهذه الحقبة كانت غامضة و شبه مبهمة ، و قلما تعرضت لها كتب التاريخ العماني ، خاصة فيما يتعلق بعملية الاحتلال نفسها ثم الاستعمار و البقاء في أمهات المدن الساحلية ؛بل إن الثورات و عمليات المقاومة التي واجه بها العمانيون الاحتلال البرتغالي قبل قيام الدولة اليعربية قلما كشفت عنها كتب التاريخ العماني أو الدراسات العربية إلا ما ندر من إشارات قليلة أوردتها مراجع غير عمانية ، و إن نقل منها بعد ذلك باحثون عمانيون و عرب ، إلى حد أن هذه الفجوات تصنع صورة خادعة بأن هذا الساحل سقط في قبضة البرتغاليين دونما مقاومة تذكر ، و لربما نبه  صدور كتاب مذكرات البوكيرك بترجمة: عبدالرحمن عبدالله في عام 1420هـ/2000م نبه مرة أخرى إلى الأهمية الهائلة التي تنطوي عليها الوثائق البرتغالية في هذا الصدد ، فقد أبانت مذكرات هذا الغازي البرتغالي أن الساحل العماني اشتعل بالمقاومة الضارية لموجات الغزو من سقطرى إلى جلفار، و لم تسقط المدن العمانية الساحلية إلا بصعوبة بالغة ، و هو ما يفسر صور الانتقام الوحشي الذي قام به "أفونسو دا البوكيرك" لهذه المدن.


صفحة  غلاف الكتاب
لكن سنوات متطاولة من الاستعمار طوال القرن الـ 16م والربع الأول من القرن الـ 17م بقيت غامضة أشد ما يكون الغموض ، الذي ما كان له أن يزاح ، وما كان لحلقاته المفقودة أن تكتمل إلا بالكشف عن هذه الوثائق ، بجمعها و تصنيفها و طباعتها ، ثم ترجمتها و نشرها ، هذا إضافة إلى ما تكشفه من رؤية البرتغاليين لسنوات الصراع بينهم و بين العمانيين الذي استوعب القرن الـ 17م بأكمله تقريباً.
لا شك أن هذا المشروع كانت دونه من المكابدات و التحديات الشيء الكثير ، خاصة في الوصول إلى الوثائق و في تمييز ما يتعلق بالشأن العماني منها ، إذ هي مهمة عسيرة للغاية في حالة دولة كالبرتغال لها تاريخ استعماري واسع زمنياً و جغرافيا، تمددت بين قارات ثلاث: أمريكا الجنوبية ،و إفريقيا ،و آسيا حيث مقر البرتغاليين في "جوا" الهندية و إلى ساحل الخليج العربي ؛أقول هذا تمهيداً لاستحضار أمرين مهمين للغاية ،أولهما: الأهمية الكبرى لهذه الوثائق في تغطية حقبة لا تقل عن مائتي عام من التاريخ العماني ، و من وجة نظر معادية حينها ؛ و ثانيهما :مدى المشقة في معالجة شأن هذه الوثائق سواء من الناحية الإجرائية أو العملية ،أو من ناحية اللغة التي تتعدد في البرتغالية بين برتغالية قديمة و حديثة ،أو من ناحية تشتت هذه الوثائق بين أراشيف برتغالية عدة و ربما أراشيف المستعمرات البرتغالية كذلك .
و بوسعنا اليوم أن نشعر بالاطمئنان و نحن نرى صدور الكتاب المعنون بــ " البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة ، بحث في الوثائق " و هو عمل كبير في 16 مجلداً فاخراً اعتمدت على الجمع و التصوير و التصنيف ، و ضمت هذه المجلدات 1500 وثيقة برتغالية تتعلق بعمان ، و قد عمل على تحقيقه و إعداد مادته كل من:الدكتور عبد الرحمن السالمي و الدكتور مايكل يانسن ، و قد طبع من قبل دار "فيليب فان زيبرين" ، و قد كشف عنه النقاب لأول مرة في
مؤتمر الفكر الإباضي الثالث الذي انعقد في مدينة نابولي الإيطالية خلال شهر مايو الماضي .
 

* العمانيون و ثنائية الممانعة و التواصل :

في تصديرهما للكتاب يؤكد كل من صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث و الثقافة و معالي الشيخ عبدالله بن محمد السالمي وزيرالأوقاف و الشؤون الدينية أن هذا الكشف الكبير ونشر هذه الوثائق سوف "يكشف غوامض كثيرة ما جلت أسرارها أقلام الباحثين بعد" و أنه سيمد الباحثين بمعلومات مذهلة تكشف عن بعدها المعرفي و التاريخي،و تضيء زوايا ظلت مظلمة خاصة في الجوانب التالية :
ــ الأحداث التاريخية التي تخللت تلك العلاقة من وجهة نظر البرتغاليين .
ــ عمليات التنافس و الصراع بين القوى الأوربية على المحيط الهندي ، و سواحل عمان والخليج .
ــ المعلومات الجغرافية و الثقافية و الدينية التي تعرضها التقارير البرتغالية عن عمان وسواحلها و جوارها.
ــ الانطباعات و التصريحات و الرؤى التي تنم عن الدوافع و الأهداف من وراء الصراع على عمان و المحيط.
و في رأيهما أن الصمود العماني في المواجهة و في تحرير الأرض في تلك المرحلة يرد إلى عاملين اثنين هما : " الريادة البحرية العمانية القديمة في المحيط الهندي،والقيم الدينية الإسلامية السمحة التي شكلت ثنائيتي الممانعة و التواصل في آن واحد " و هذان العاملان ونتائجهما هما أيضاً اللذان دفعا إلى إنتاج هذا العمل الوثائقي الضخم كما يبين ذلك التقديم.

الصفحتان الأوليان من تقرير برتغالي
 في 1698م حول حصار العمانيين لمومبسا

و بوسعنا القول هنا بأن حقائق التاريخ تثبت إدراك العمانيين التاريخي بأن التأثير الإقليمي والعالمي إذا ما أريد له أن يكون بعيد الغور و واسع المدى ، فلن يكون ذلك نتيجة مباشرة للعمل العسكري ،بل هو بالقيام بمهمة الناقل الحضاري ، و العمل العسكري هنا هو حماية و دفاع عن هذه المهمة الحضارية ضد غاز لم يكن لينتمي لا جغرافياً و لا حضارياً لمنطقة بحر العرب أو المحيط الهندي أو الخليج العربي ، و مهمة التجسير الحضاري هي رسالة نهض بها العمانيون قبل و بعد الاستعمار البرتغالي ، ولم تكن مرحلة الاستعمار البرتغالي تلك إلا استثناءً و عائقاً ما لبث أن انقشع ، لتعود المهمة الحضارية على أشدها ؛ و لقد حملت السفن العمانية من الأفكار و الرواد و السلع أكثر مما حملت من المدافع و آلة الحرب ،و يشهد على ذلك تاريخ طويل موغل في القدم لم يعرف حالة صراعية واحدة بين ساحلي المحيط في الهند أو الصين و عمان ؛بل سجل التاريخ كيف أن بعض حكام عمان تصدوا  لخطر القرصنة المهدد للساحلين العماني و الهندي في عهد الإمام غسان بن عبدالله (ت 207هـ) ،و ما زالت دلائل هذا الجهد الحضاري الدؤوب تظهر بين فينة و أخرى ، و لعل من أهم هذه الدلائل ما عرف بـ "سفينة التانج" التي ترجع للقرن الـ 9 الميلادي ،واكتشفت كنوزها في عام 1998م في بعض سواحل جنوب شرق آسيا ،لتمثل نموذجاً تاريخيا للتجارة العابرة للمحيطات و إسهام العمانيين فيها ،حيث لا تزال محتوياتها التي تبلغ 60 ألف قطعة مادة هائلة للدراسة و البحث.
إن ثنائية "الممانعة" و " التواصل" التي أشار إليها ذلك التقديم تمثل نضج الإنسان العماني والرسوخ المبكر لمفهوم الوطن لديه ، و قدرته على إنتاج الخيارات المناسبة لكل وضع تاريخي ، و إدراكه المبكر بأن الانغلاق لا يفضي إلا إلى الموات ، وأن الأمة التي تحمل رسالة للعالم هي أمة "الانفتاح الواثق" ، و إداركه أيضاً أن الانفتاح بلا هوية واضحة و قوية لا يؤدي إلا إلى التيه و الذوبان في لجج الحضارات الأخرى ،و فقدان الرسالة التي تضيف للعالم و تغنيه ، ومن ثم تلاشي القيمة.
و الإسلام بما هدي إليه العمانيون منذ وقت مبكر عبر مدرستهم العقدية و الفقهية هو الذي مكنهم ــ في آن واحد ــ من تمثل حصانة الهوية و رسالية الحضور الإقليمي و العالمي والانفتاح الواثق الواجب،و لذا كان جهدهم و أثرهم ضخماً و فارقاً في المسارين: مسار التواصل ،و مسار الممانعة و الدفاع.

رسالة نائب الملك في الهند إلى ملك البرتغال في 
 21 يناير 1718 حول الخطورة التي  يشكلها
العرب في الأقاليم الشمالية
من الضروري التأكيد هنا أن نشر هذه المجموعة "بأصولها الوثائقية" الآن و بترجمتها لاحقاً مهم للغاية و في هذه المرحلة بالذات لعدة اعتبارات منها: أن الإدعاءات التاريخية تتصاعد، وبعض من يطلقها اليوم هم شخصيات مرموقة ــ للأسف ــ لم يترددوا في ترويج مغالطات تاريخية تكاد تكون تزويراً للتاريخ ، وبعض هذه المغالطات قامت عليها جهود مؤسسات بسوء نية أو بدونها ، و قد تحركت في مساحات فراغ لم نشغلها كما يجب ، و إن تنبهت إلى ذلك مؤسساتنا مؤخراً؛ و من هذه الاعتبارات بل و من أهمها أن أجيالنا العمانية الصاعدة عليها أن تعيي أكثر من أي وقت مضى رحلة تشكل الوطن العماني المضنية ، وما التحديات و الأخطار التي أحدقت بعمان في مسيرة كفاح كان الإيمان بالله ثم بالوطن العماني في القلب منها؟ و أي جهود و بلاء قام به الأسلاف العمانيون ليبقوا الكينونة العمانية ثابتة و محصنة بل و ناشطة و رائدة ؛ كما يأتي هذا العمل الوثائقي بعد سنوات من نأي أجيالنا الراهنة عن التاريخ ،وهو أحد أهم محددات و مقومات الهوية ، لنسترجع من جديد أحاديث مرت سنوات طوال منذ سمعناها آخر مرة ، و لنكمل حلقات من تاريخنا لا يضير أن تكون بلسان غيرنا أو حتى "أعدائنا" حينها فــ "الحق ما شهدت به الأعداء" .

* المهاد التاريخي للمجموعة الوثائقية :

 من أجل وضع العمل في سياقه التاريخي يقدم المحققان (د.عبدالرحمن السالمي و د.مايكل يانسن) مهاداً تاريخياً مهماً ، لهذه المجموعة الوثائقية الضخمة ، يؤكدان من خلاله أن الأحداث التاريخية الفاصلة في القرن الرابع عشر الميلادي و بالأخص في النصف الثاني منه أدت إلى متغيرات جيوسياسية ألقت بظلالها على القرنين التاليين، فأحداث كقيام الدولة العثمانية و سقوط القسطنطينية عام 1453م ، و سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م ، و بدء عصر الاكتشافات و ظهور القوى البحرية الكبرى كالبرتغال و أسبانيا و هولندا و بريطانيا و فرنسا ، و بروز الملاحين الكبار الذين قادوا عمليات الاستكشاف كـ : كولومبوس و فاسكو دوجاما و ماجلان و غيرهم  ، ثم اكتشاف القارة الأمريكية ، و تحول طرق التجارة الاستراتيجية ، كلها أدت إلى نتيجة تتلخص في بداية حركة الاستعمار الأوربي التي استمرت طوال الخمسمائة عام التالية.



رسالة نائب الملك في الهند في 29 ديسمبر 1626م
إلى ملك البرتغال تتعلق بإرسال أسطوله لمساعدة مسقط
إذن فقد كان البحر هو ساحة الصراع و المنافسة سواء بين تلك القوى ، أو بينها و بين القوى الإقليمية الشرقية عسكرية أو تجارية ، و لذا فقد كان لهذه التدخلات الأوربية على عمان "عواقب جسيمة ، فباعتبارها أمة دربت على ارتياد البحر فقد فقدت الزعامة في تجارة الصين لصالح البرتغال " التي أسست في عام 1508م مركزاً دوليا لها في الهند في "جوا" يديره نائب للملك و رئيساً للأساقفة "مطراناً"، ونظر البرتغاليون إلى هذا الاكتشاف و الحضور في المحيط الهندي ، و تدمير التجارة العربية فيه، نظروا إليه باعتباره فتحاً عظيما رسخت صورته في نمط التفكير البرتغالي و الأوربي، و لقد كانت تلك هي الخلفية التاريخية لهذه المجموعة الوثائقية .
و يسوق المحققان سبباً رئيسياً يجعل من الاهتمام بالوثائق في هذه المرحلة أكثر أهمية ، وهو إعادة النظر في الصور القديمة للوجود البرتغالي في بحار عمان ، خاصة مع تعالي التساؤلات حول تأثير الدين في هذا الوجود ،المسيحية من جهة و الدين الإسلامي متمثلاً في المدرسة الإباضية من جهة أخرى .

كما يسرد المحققان قصة البدء في هذا العمل الذي كانت بذرته في عام 1994م حين زار وفد عماني الأرشيفات البرتغالية ، ثم الشروع في المشروع البحثي عام 2006م الذي شمل الأرشيفات البرتغالية الرئيسية ،خاصة الأرشيف الوطني و المكتبة الوطنية ،محددا هدفه في الكشف عن الوثائق البرتغالية المتعلقة بالوجود البرتغالي في عمان منذ عام 1508م ، و تسليط الضوء على علاقة عمان بساحل شمال الهند و شرق أفريقيا منذ منتصف القرن الــ 17م فصاعداً،وهو ما يعني تغطية مرحلة المواجهة العمانية للوجود البرتغالي في الساحلين الآسيوي و الأفريقي .

رسالة نائب الملك في الهند إلى القائد العام للأسطول الشمالي
في 21 نوفمبر 1715 مشيرة إلى هجوم عربي وشيك
و يسوغ لنا أن نقول هنا :إن هذه الوثائق و ما ينضاف لها من شأنها ــ في ما يتعلق بكتابة التاريخ العماني ــ أن تعيد كتابة تاريخ تلك المرحلة بالكامل خاصة الشق الأول منها (ما بين نهاية القرن الـ 15 و بداية القرن الـ 17 الميلاديين) ، إذ لا تعطي المراجع التاريخية العمانية و العربية صورة واضحة عن تلك المرحلة باستثناء إشارات عابرة و غامضة ، بني بعضها على كتابات أوربية ، بل يمكن القول ــ كما سبق ــ بأن القارئ العربي و العماني لم يعرف شيئاً ذا بال عن مواجهة طلائع الاستعمار البرتغالي في عمان و لا أعمال المقاومة له ، و لا الثورات التي قامت ضده إلا عندما ترجمت مذكرات البوكيرك و نشرت عام 2000م ، أما الشق الثاني منها (أي بداية القرن الـ 17م إلى نهايته) وهي المرحلة التي قامت فيها الدولة اليعربية و بداية عملية التحرير و مطاردة النفوذ البرتغالي في الشرق الإفريقي و سواحل الهند الغربية ،فرغم أن المراجع التاريخية العمانية تحتفي بهذه المرحلة و تؤرخ لها بشكل جيد ، إلا أنها ــ بطبيعة الحال ــ كتبت من وجهة نظر طرف واحد ، و بقي أن نعرف كيف كان البرتغاليون ينظرون لتلك المرحلة من الصراع ، و كيف تهاوى وجودهم تحت قوة الضربات العسكرية العمانية البرية و البحرية ،و المراجع العمانية ــ رغم تتبعها لتفاصيل الصراع في الربع الثاني من القرن الـ 17م وما بعده ــ إلا أن ثغرات بقيت فارغة ، و أسئلة ظلت معلقة في انتظار أن يفصح الكشف التاريخي عن شيء جديد بشأنها ، ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بوقعة "بتة" التي لا تذكر المراجع العمانية إلا اسم القائد العماني فيها "محمد بن مسعود الصارمي"  و قصيدته حولها ، و معركة "ديو" البحرية مع البرتغاليين ،و هما معركتان لا نعرف عنهما إلا أقل القليل ، و كذلك بعض الرسائل المتبادلة مع البرتغاليين التي أوردتها المراجع العمانية. و خلاصة الأمر أننا إزاء مرحلة طويلة جداً من التاريخ تكاد تصل لقرنين من الزمان ، و ما يتوفر حولها من المادة الوثائقية كان قليلا و غير كاف لإعطاء صورة مكتملة أو شبة مكتملة عما كان يجري بين الساحلين العماني و الهندي "البرتغالي" وصولاً إلى ساحل إفريقيا الشرقية ، و من شأن هذه المجموعة الوثائقية الضخمة أن تساعد كثيراً في رسم ملامح تلك المرحلة .

مذكرات كنيسة أوغسطين في المشرق محررة من
قبل الراهب سيماو داجراسا في 24 ديسمبر 1669 
تتعلق بالأنشطة الدينية للكنيسة في مسقط و صحار و دبا
و كما سبق و أشار المحققان فإن أهمية المجموعة يتعدى رصدها لجوانب الصراع و المنافسة إلى رصد العامل الديني المساوق لهذا الصراع ، فتصفح سريع للمجموعة سوف يدلنا على ما لحركة القسس و الرهبان من أهمية بالنسبة للبرتغاليين ،و اهتمام الوثائق بالحركة التجارية و المصالح المالية ،وهذان الأمران (الامتداد الديني و السيطرة على تجارة الشرق) أمران يرتبطان بأهداف الوجود البرتغالي في المحيط الهندي من حيث المبدأ ، و يؤثران بشكل حاسم في تحليل و تفسير الأحداث الواقعة في المحيط الهندي خلال القرنين الـ16 و الـ17 الميلاديين.
و يوضح المحققان أن هذه المجموعة المنشورة في 16 مجلداً تمثل الجزء الأول و الثاني من المشروع ، فالجزء الأول الذي يشمل المجلدات من 1-10 هي نسخ مصورة من وثائق الأرشيف الوطني البرتغالي ، بينما تمثل المجلدات 11-16 الجزء الثاني ، و تحتوي على صور من الوثائق المأخوذة من المكتبة الوطنية البرتغالية ، أما الجزءان الثالث و الرابع من هذا المشروع فهما يحتويان على الترجمات إلى العربية و الإنجليزية ، و هما ــ كما يفيد المحققان ــ في المراحل النهائية من الإعداد .
و بذلك فإننا أمام مشروع متكامل يستهدف وضع المادة الوثائقية بأيدي الباحثين مصورة و مصنفة أولاً ، ثم مترجمة ثانياً و بأكثر من لغة ، و على ذلك فإن هذا المشروع سيقدم خدمة نوعية شاملة عز نظيرها في كثير من مشاريعنا البحثية ، ما يفتح الباب أمام أفق من الأعمال البحثية التي كنا نطمح أن يعكف عليها باحثونا و مؤرخونا.
الجزء الثاني من المقال :

 


رسالة نائب الملك في الهند إلى القائد العام
للأسطول الشمالي في 21 نوفمبر 1715
مشيرة إلى هجوم عربي وشيك
كان من يمن الطالع أن يتزامن نشر الجزء الأول من هذا المقال مع الاحتفاء في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بصدور كتاب "البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة، بحث في الوثائق"، حيث احتفت دار "فيلب فون زيبرين" للنشر المرموقة عالمياً و المتخصصة في نشر التراثيات بهذا الكتاب في هذا المعرض الذي يعد أضخم معارض الكتاب الدولية و أكثرها أهمية ، و بذا فإن هذا الكتاب يعد أول كتاب عماني يحتفى به في هذا المعرض الشهير.
و نستكمل هنا الجزء الثاني من هذا المقال، منطلقين في ذلك من مقدمة الكتاب ، ومن عناوين الوثائق التي صنفها الكتاب و وضعت بحيث تلخص مضمون الوثيقة ،كاشفاً بذلك عن اهتمام البرتغاليين الشديد في نهاية القرن الــ 17م و بداية القرن الــ 18م بكل ما يجري في المحيط الإقليمي العماني ، خاصة بعد أن استكملت حركة التحرير العمانية تخليص الأرض العمانية بأكملها من الاحتلال البرتغالي ، و بدأت الأساطيل العمانية تمد جهدها التحريري نحو الخليج العربي شمالاً، وشرقاً نحو موانئ الساحل الهندي التي يسيطر عليها البرتغاليون كديو و منجلور ، وجنوباً نحو شواطئ الشرق الإفريقي في بتة و موزانبيق و زنجبار و مومباسا و غيرها .


سجل أحداث مدون في 22 ديسمبر 1727 
لرحلة سفينة برتغالية إلى ممباسا و بتة
مع وصف المناوشات مع العرب
و لأن هذه الحركة التحريرية كانت قد أوشكت في بدايات القرن الـ 18م على استكمال قرن منذ انطلاقتها ، فإن الخصومة و التوجس كانا قد تجذرا و اشتدا بين العمانيين و البرتغاليين ، حيث اتخذ الصراع من حوض المحيط الهندي و الخليج ساحة واسعة له، و لذا فإننا نجد أن الوثائق البرتغالية لا تكتفي برصد تحركات الأسطول العماني و تبادل المعلومات حولها ، بل تلتفت تلك الوثائق أيضاً إلى العلاقات العمانية مع القوى الدولية الأخرى كفرنسا مثلاً ، كما تكشف عن جهود حثيثة لبناء تحالفات تقف ضد العمانيين مع القوى الإقليمية المجاورة ، ومن الملفت للنظر أيضاً أن تتطرق بعض الوثائق لما يدور في الداخل العماني من خلافات و منازعات! مما يؤكد مرة أخرى الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها الكشف عن هذه الوثائق .

* حول الأرشيف البرتغالي :

من سجل الأحداث في الهند في 12 ديسمبر 1719
و وصف المعركة البحرية بين البرتغاليين و العرب
يضع المحققان فصلاً شيقاً للغاية يوضح تاريخ الأرشيف الوطني البرتغالي فيما يشبه سرداً لرحلة وصول هذه الوثائق إلينا،والتقلبات السياسية التي خضع لها نظام الأرشيف ، و كذلك الكوارث الطبيعية التي حلت بمقراته ، و عمليات النقل التي تعرضت لها الوثائق منذ القرن الـ 16م و حتى القرن الـ 20م سواء كان نقلاً من خط قديم إلى ما هو أحدث منه ، أو نقلا لمقره من بعض أبراج القلاع البرتغالية إلى بعض الأديرة ،وكذلك حالة الفوضى التي أتت عليه إبان دمج المملكتين الإيبيريتن (إسبانيا و البرتغال) في نهاية القرن الـ 16م و النصف الأول من القرن الــ 17م ، و تأتي أهمية هذا الفصل من ناحية أن الوثيقة سواء بوجودها المادي المتعين أو بمحتواها التاريخي و مضمونها تخضع لظروف الحفظ و التخزين و الفهرسة،و التوجهات السياسية أحياناً ، مما يجعل سرد تاريخ وصولها إلينا مهماً لبيان أي ثغرات واقعة أو متوقعة ، و هو ما يرتبط تلقائياً بالصورة الكلية التي تصنعها جزئيات الصورة التي تقدمها كل وثيقة، وملخص ما يشير الباحثان إليه هنا ،أنه و رغم كل تلك التقلبات فإن الأرشيف البرتغالي ظل في أعلى دوائر الاهتمام من قبل التاج البرتغالي ،و بقي مؤسسة مرعية يشرف عليها حراس و قيمون يعينون من قبل الملك منذ مرحلة مبكرة جداً في القرن الــ 15م ؛بل و قلبه منذ عهد الملك دي جاوو(1383-1433م)، و كانت تحكم العمل فيه لوائح منظمة ودقيقة وصارمة يتم تطويرها على مراحل متفاوتة ، كما خضع لعملية نسخ و إعادة تدوين للنصوص القديمة بخط جديد في مرحلة مبكرة في بداية القرن الـ 16م فيما سمي بمبادرة "القراءة الجديدة" ، ثم لإعادة تصنيف بسبب كارثة الزلزال الذي دمر لشبونة عام 1755م ، و هو ما يعني أن هذا الأرشيف برحلته الطويلة شكل تحدياً كبيرا للباحثين لفحص ما يقرب من 90000 وثيقة ،و فرز ما يتصل بالشأن العماني منها.



رسالة من ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
في 5 مارس 1620م تتعلق بإنشاء قلعة صحار
كما يتطرق الباحثان إلى "أرشيف جوا التاريخي" في الهند و "أرشيف ما وراء البحار" في لشبونة،و ما فيهما من مجموعات وثائقية مهمة ــ خاصة في الشأن العماني ــ و اللذان يحتاجان لمشروع بحثي مستقل سيبدأ قريباً ، و في هذا الصدد يورد الباحثان تفاصيل تاريخية حول حيثيات التوثيق البرتغالي، خاصة لوثائق المستعمرات البرتغالية فيما وراء البحار فيما يسمى بـ "كتب الرياح الموسمية" أو "الوثائق المرسلة من الهند" ،التي كانت تتبع إجراءات صارمة في إرسال الوثائق خشية عليها من السرقة أو التلف نتيجة هجمات الأعداء على السفن ، حيث يبعث منها عدد من النسخ في أكثر من سفينة ، لتبقى النسخة الأصلية في "جوا" أو "لشبونة"، و يجدر بالذكر هنا أن الباحثان يؤكدان أن شطراً من هذه المجموعات الوثائقية، خاصة ما يتعلق منها بــ "سكرتير حكومة جوا" قد نقلت من "جوا" إلى "لشبونة" بناء على مرسوم ملكي صادر عام 1774م ،وعلى ذلك فإن هذه الجوانب الإجرائية تؤكد أن الوثيقة ظلت في الإمبراطورية البرتغالية سواء في البرتغال نفسها أو في المستعمرات شأناً عالي المستوى .
و يذكر المحققان مثلاً أن بحثا في السجلات الديبلوماسية و بالذات في سجلات "الهبات" التي كان يعدها و يدققها الملوك البرتغاليون بأنفسهم فيما بين مرحلة الملك مانويل الأول(1495-1521م) و الملك جاواو الرابع(1640-1656م) فيما يتعلق بأسماء الأشخاص الذين تم تعيينهم في مناصب أمراء القلاع أو عمال أو مديرين أو كبار سماسرة في كل من مسقط و قلهات و صحار في عمان؛ فقد أسفر البحث عن كشف أكثر من 100 وثيقة تتعلق بعمان ، كما أن البحث في بعض السجلات المتعلقة بالامتيازات و الاعفاءات أو الحصانات أو منح ألقاب أو أوسمة من قبل المسؤولين الكبار الممثلين للملك في مناطق خارج البرتغال لأولئك الذين قدموا خدمات مميزة أو أثبتوا جدارة أو بسالة في ميادين المعارك كشف عن أكثر من 12 سجلاً تصف حدوث بعض هذه الأمور في عمان ،و معها أوصاف لإنجازاتهم و أعمالهم التي قدمت على أنها "بطولية" .



رسالة ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
 في 15 مارس 1649 يطلب منه المساعة
على كسب تأييد الشيوخ ضد الإمام
كما يتحدث الباحثان عن مجموعة أخرى من الوثائق المكتوبة باللغة العربية يبلغ عددها 97 وثيقة تتعلق بمراسلات من ملك هرمز و ملوك و أمراء منطقة الخليج العربي.
و هكذا فإنه في مجموعات متفرقة و متعددة المصادر في بعض الأحيان يكشف البحث عن وثائق ذات صلة بعمان قد لا تخطر على البال بادئ الرأي ، إذ يكشف البحث مثلاً عن وجود 12 وثيقة ذات علاقة بعمان في مجموعة من السجلات المالية البرتغالية تسمى "مجلس حكومة الهند الملكي للمالية" ،و مضامينها التزامات ملكية و مدفوعات مسؤولين و نفقات على مصانع و قلاع ، كما ترد إشارات "لافتة" لمسقط في مجموعة "محكمة المكتب المقدس للتفتيش" و هي إحدى محاكم التفتيش البرتغالية كما يظهر اسمها ، حيث ترد مسقط كمكان ولادة أو عيش أو عقوبة لعدد من المعتقلين أو المدانين في هذه المحكمة! ،و في مجموعة " القديس فنسنت" والمكونة من 26 مجلداً تتناول الشؤون الديبلوماسية في الحقبة ما بين القرن الـ 16م و 18م ،في هذه المجموعة يجد الباحثان 20 وثيقة ذات ارتباط بعمان ، و في مجموعة "المخطوطات المتفرقة من دير جراسيا" و هي مجموعة وثائقية متنوعة تتعلق بحكومة الهند خاصة في القرن الـ 17م و جد أكثر من 20 تقريرا و وثيقة تتعلق بالشؤون الكنسية في الخليج. و في مجموعة وثائق أخرى تسمى "مخطوطات المكتبة" تعود ملكيتها لأديرة و لرهبان من أتباع كنسية القديس "أوجستين" الذين كان لهم دور مهم في الهند ، وهي مجموعة ذات نفس أدبي و مضامينها في التاريخ و الرومنسيات و علم النبالة و السير الذاتية و الأعمال الدينية ، كما تضم وثائق إدارية كنسية ،يجد الباحثان أكثر من 20 و ثيقة تشير لعمان، هذا إضافة إلى مجموعات وثائقية شخصية جمعها أفراد ذو مكانة مرموقة ثم ضمت إلى الإرشيف الوطني البرتغالي لاحقاً ، و من أبرد هذه المجموعات مجموعة "دوم جاواو دو كاسترو" الذي كان حاكماً على الهند بين سنوات 1545-1548م و "مجموعة القديس لورانس" التي جمعها "دوم أنتونيو دو آتيدي" و غالبيتها تعود إلى "دوم ألفاروا دو كاتسرو" ، و أبيه "دوم جاواو دو كاسترو" و هي وثائق و مراسلات لهذا الحاكم و لمسؤولين محليين في موانئ آسيا ، ففي هاتين المجموعتين وجد الباحثان حوالي 36 وثيقة لها علاقة بعمان.
رسالة ملك البرتغال إلى نائبه بالهند
في 13 أغسطس 1710  تتعلق بالمفاوضات
مع العرب في مدينة ممباسا

*مجموعة المكتبة الوطنية البرتغالية :



هذا فيما يتعلق بوثائق الأرشيف الوطني البرتغالي بمجموعاته المتنوعة ، أما مجموعات المكتبة الوطنية البرتغالية التي تصل إلى 13400 وثيقة و 261 صندوقاً من المخطوطات إضافة إلى مجموعات أخرى ،فإن الباحثان يشددان على أهميتها النوعية خاصة من ناحية التفاصيل الواسعة و المتشعبة التي تحتويها 430 و ثيقة كشف عنها البحث ،وهي ذات علاقة بالشأن العماني .
و لعل أكبر حشد من هذه الوثائق المرتبطة بعمان تأتي في الفترة التي كان "دوم فرانسيسكو دي جاما" نائباً للملك في الهند في فترتين (1597-1600م و 1622- 1628م) خاصة المراسلات بين لشبونة وجوا ، و سجلات المجلس الاستشاري الذي كان يساعده في الهند و مجلس الإيرادات في جوا ،و الوثائق المالية المتعلقة بالتموينات لعدد من القلاع و الحصون في آسيا ، و كذلك في المذكرات القيمة و المفصلة التي كتبها "دوم ميغل دو نورونها"  أثناء توليه منصب نائب للملك على الهند في سنوات (1629-1635م)،هذا إضافة إلى وثائق أخرى تتحدث عن البعثات العسكرية في الخليج ،بما في ذلك الأفراد الذين طلبوا تولي مناصب في مسقط ،كما تكشف وثائق دينية كتبت أواخر ثلاثينيات القرن السابع عشر عن سير ذاتية لمبشرين عبر بعضهم مسقط و مناطق أخرى من عمان خلال رحلاتهم التبشيرية . و تكشف وثائق أخرى عن سفارات و مفاوضات و اتفاقيات موقعة مع قادة ذوي سيادة في بعض مناطق آسيا خلال الجزء الأخير من القرن الـ 17 و بداية القرن الـ 18م.
بيد أن "مجموعة بومبالين" الوثائقية هي الأهم في هذا الصدد ،فقد كشفت عن وثائق تعود إلى أواخر القرن الـ 17م حينما شكلت مسقط معضلة عسكرية كبيرة أمام البرتغاليين بسبب توغلات أساطيل الإمام في مناطق النفوذ البرتغالي شمال الهند، و على طول الساحل الإفريقي الشرقي ، إذ تقدم هذه الوثائق شرحاً مسهباً لسقوط مومباسا ذلك الميناء الإفريقي الهام في أيدي العمانيين نهاية القرن الــ17م ، كما تقدم دفاتر للسجلات الخاصة بأساطيل البرتغاليين التي حاربت ضد سفن الإمام في الربع الأول من القرن 18م .
*جهد مستمر توثيقاً و تحليلاً:
 

من سجل الأحداث في الهند في 12 ديسمبر 1719
و وصف المعركة البحرية بين البرتغاليين و العرب
من المهم أن ندرك هنا أن البحث في أكوام الوثائق الهائلة لابد أنه شكل تحدياً كبيراً للباحثين ، خاصة إذا ما نظرنا لحاجز اللغة التي تمثل البرتغالية فيه بأجيالها المختلفة عقبة كؤوداً ، و هو ما سنظل مدينون فيه لشغف البحث الذي تمسك به الباحثان ،والدعم المؤسسي الذي كان مؤازراً لهما و ممهداً السبل أمامهما ، و لا شك أن أي باحث جاد يدرك إلى أي حد يكون عمل من هذا القبيل مضنياً ، و محتاجاً لطول النفس و وفرة الموارد و سعة العلاقات ، و الباحثان مع ذلك ينبهان إلى أن هذا الجهد لن يكون نهاية المطاف نظراً لسعة و ضخامة مقتنيات المؤسسات الإرشيفية البرتغالية ، ومن ثم فإن أي وثائق سيعثر عليها مستقبلاً ستنشر في الجزء الثالث من هذه السلسلة مع الوثائق الموجودة في الأرشيف الدولي و مكتبة أجودا ، ما يعني أن على هذه الجهود أن تستمر توثيقاً و تحليلاً من أجل وعي أكثر عمقاً بالتاريخ ، خاصة و أنها  تقف أمام تاريخ هائل ، و مصادر تاريخية مشتتة.
و إذا كان هذا الجهد الكبير كتب له النجاح ــ بتوفيق الله ــ ثم بإرادات أحبت تاريخ عمان و صدقته الانتماء ، فكان أن وثق و نشر أصول هذه الوثائق لحفظ المصدر التاريخي في بداءته الأولى ، فإن أول النتائج التلقائية التي ستظهر قريباً كما يبدو هي ترجمتها باللغتين العربية و الإنجليزية ، لتسمح يومها بفتح باب ضخم من الدراسات التحليلية ،وهي حتماً ستسهم في سد الثغرات و إكمال الحلقات الناقصة ،و تجلية كثير من الملابسات،و إضاءة زوايا ظلت معتمة ردحاً من الدهر.
رسالة ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
في 12 ديسمبر 1636م
حول
 التدابير الاحتياطية المتخذة  في مسقط
و يأمره فيها بالتحقق من الذخائر المرسلة
إلى القلعة فيما إذا كانت كافية .
مع جلاء المعرفة و سطوع الحقائق يعرف عمان من لم يعرفها ، و يدرك الصورة باتساعها و بأبعادها العميقة وبتضحياتها الجسام من تباعد عن التاريخ من أبناء عمان ، حتى نحيى جميعاً على بينة من الأمر أمام العبر التي كتبتها سيرورة التاريخ على الأرض العمانية ، و دونها الحضور العماني على ساحلي المحيط الهندي ، في مرحلة تاريخية فاصلة كان من المفارقة أن توسم في التاريخ العربي بعصر "الجمود و الانحطاط" ، بينما كان الحضور العماني في أوج قوته و تأثيره وهو يقوم بمهمته الخالدة بين ثنائيتي "الممانعة" و "الانفتاح" ، متصدياً في مرحلة مبكرة من التاريخ العربي لأولى موجات الاستعمار وأكثرها طولاً في الزمان و المكان، و مبشراً ــ في ذات الوقت ــ بقيم الاستقلال و التحرر و العدالة .




الاثنين، 15 أكتوبر 2012

البعثات.. النوع مع الكم

* نشره ملحق وزارة التعليم العالي الصادر مع جريدة عمان "رؤى" 
الثلاثاء 18 سبتمر 2012م

لم تعد مسألة البعثات الخارجية لتمثل مشكلة فيما يتعلق بالكم بعد أن تدفق الدعم على هذا البند عبر مباردات عديدة من أهمها الأوامر السامية بالابتعاث للدراسات العليا و تخصيص موازنات مهمة لهذا الغرض ، و تحسين أوضاع المبتعثين،و غير ذلك من السياسات
التي ستشكل قفزة حقيقة ستنحسر بفعلها مشكلة الباحثين عن فرص التعليم العالي ، و لقد صنع هذا الدعم ارتياحا كبيرا لدى الرأي العام و أبان عن حقيقة أن قضايا تنموية كان ينظر إليها باعتبارها قضايا معقدة يمكن أن تجد الحل بسهولة عند توفر الإرادة و حسن الإدارة و سياسة فتح الأبواب و صناعة الفرص.
و أتصور هنا أننا لا يجوز أن نضيع الوقت قبل أن نعتني بالنوع أيضا أي نوعية البعثات خاصة الخارجية منها ، و هي البعثات التي تستثمر فيها موارد و أموال و جهود أكثر من غيرها بكثير ، و حس الاستثمار في الكادر البشري لابد أن يكون مرتفعا هنا ليس باعتبار كلفتها فحسب ، بل و باعتبار كونها جسرا حضاريا ناقلا للمعرفة و الخبرة.
إن هذا سيدفع تلقائيا إلى مناقشة نوعية التخصصات التي تقع فيها النسبة الأكبر من البعثات و كذلك ارتباطها بمدى الحاجة إليها و مدى اتصالها بسوق العمل ، و أيضا توزيعها على الدول و البلدان لضمان تعدد و تنوع المعرفة و الخبرة.
لكن من المهم جدا أن نناقش نوعية المبتعثين و كيف ينبغي أن نضمن إيمانهم و قدرتهم على النقل الحضاري للمعرفة ، و القيمة المضافة التي تأتي من وراء الاستثمار في الابتعاث ،في عالم أصبحت فيه المعلومة بسبب ثورة وسائط التقنية متاحة قد لا تحتاج إلى عناء و كلفة الرحلة في طلبها ، إذ المعلومة هي حد أدنى من الوعي بالحقائق ،و قد أصبحت شائعة و تكاد بعض مستوياتها أن تكون مجانية أو زهيدة الثمن ، لكن الذي ينبغي أن نسلح به أبناءنا المبتعثين هو القدرة على الوصول للمعرفة و ليس المعلومة فحسب ، لأن المعرفة هي خلاصة المعلومة و نتيجتها ،و الأهم من ذلك أيضا الوعي بالمنهج أي منهج الوصول للمعرفة إذ هو أهم أشكالها ، فهو الذي يزودنا بالقدرة على إنتاج المعرفة و توليدها بدل أن نكون مستهلكين لها فقط.
و لا يجب أن يفهم ذلك بأنه إخلال بمبدأ تكافؤ الفرص في الحصول على فرص الابتعاث ،بل إن الذي أعنيه هنا أن هناك طورا من الإعداد لمبتعثينا ينبغي أن يتم حتى نضمن أن هذه الفرص تذهب في الاتجاه الصحيح و أن الاستثمار في هذا المسار سيغني بلادنا بالمعرفة النوعية التي نحتاجها.
في تاريخ الابتعاث وجدنا أن إمام الشعائر للبعثة التي أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر هو الذي ترك الأثر الحضاري الأكبر لإنه اعتنى بالمعرفة، بما وراء المعلومة من فكر و ثقافة و نظام إداري و مجتمعي ، فقد سجل التاريخ لرفاعة رافع الطهطاوي سبقه و ريادته في محاولة تحليل أسباب التقدم ،بينما لم يذكر التاريخ شيئا لزملائه الكثيرين الذين وقف اهتمامهم عند حد البحث عن المعلومة.