الأربعاء، 12 نوفمبر 2014

حول خطاب جلالة السلطان.. تأملات في المضامين القيمية والمسؤولية الوطنية

حول خطاب جلالة السلطان
تأملات في المضامين القيمية والمسؤولية الوطنية
محمد بن سعيد الحجري - جريدة الرؤية
الثلاثاء 18 محرم 1436هـ/11 نوفمبر 2014م

"وما كل طول في الكلام بطائلٍ
ولا كل مقصور الكلام قصير"
أبو مسلم البهلاني،،

   أسبوع مرَّ منذ أن بُثّت الكلمة السامية لعاهل البلاد المفدى - حفظه الله - وما تزال الموجة العاطفية التي أنتجتها مستمرة حتى اللحظة، وهذا التلقي العاطفي العفوي هو أمر لا أرانا في حاجة لوصفه أو تفسيره، فقد عاشه كل منا بطريقته فتجاوز حدود التجربة الشخصية إلى أن يكون لحظة عاطفية جمعيّة نادراً ما تمر بها الشعوب، والعقل الجمعي العماني عاشها تجاه القائد الذي أعاد الروح الوطنية العمانية إلى أوج قوتها، ونسج علاقة فريدة بينه وبين شعبه سيتوقف أمامها التاريخ وأمام قيمها التي أسستها والنهج الذي صاغها، وكل منا ينظر إلى جلالته بوصفه أباً ووالداً كما ينظر إليه باعتباره سلطاناً وقائداً، إنّ تلك اللحظة العاطفية هي لحظة إنسانيّة بامتياز، ولاشك أنها ليست لحظة عاطفية للمواطنين الذين تلقوها فحسب، بل هي قبل ذلك لحظة إنسانية لمن قدمها مائدة من حب وفرح وشكر وتقدير لكل عماني، على حين كان هو لأول مرة يحتفل بالعيد الوطني فلا يكون في وطنه الذي بناه لبنة لبنة، ولا يكون بين مواطنيه الذين يرقبون ظهوره كل عام.
إن الخطاب على وجَازَتِه حمل من المضامين والرصيد الإنساني طاقة أحدثت كل ذلك الأثر المدهش؛ وإذا كانت خطابات القادة والزعماء تأتي لإحداث أثر على الجماهير ولتوجيهها وربطها بمصدر القرار والسياسات الأول، وهو تقليد سياسي لا يخلو منه أي نظام سياسي، فإن ذلك الخطاب قد أحدث من الأثر على الجماهير المتلقية ورفع من وتيرة المشاعر الوطنية ووثق من الروابط أضعاف ما قد تحدثه الخطابات السياسية الصرفة، لأن في طيه لغة خاصة توحي بها العبارات وتشع بها النبرات، وتفهم فحواها أذنُ تلقٍ جمعي تدرك ما معنى أن يقال لها هذا الكلام في هذه اللحظة وبهذه الصيغة وبهذا الإيجاز والتكثيف.

وإذا كنا جميعاً شركاء في حالة التلقي تلك فإننا كذلك لابد أن نكون شركاء في فهم مضامين سياسية وقيمية مهمة حملها الخطاب، فكل سياسة تنطوي على قيمة ومعنى وهدف، وسأتوقف لأركز هنا على نقاط يجب أن نقرأها من زاوية المسؤولية الوطنية، إضافة إلى نقطة تتعلق بقيمة كبرى تحملها خطابات جلالته وتلح عليها في كل مناسبة.

وأولها ما أشار إليه جلالة السلطان من أن هدف النهضة العمانية كان وما يزال بناء "دولة عصرية راسخة الأركان" وأن المضي في هذا الهدف لن يتوقف عند حد؛ لأنّ عمان "ماضية بكل عزيمة نحو مستقبل مشرق واعد من التطور والنماء"؛ إنّ النظر إلى المستقبل مهم للغاية هنا والإشارة إليه ليست بسطة آمال فحسب، بل علينا أن نفهم منه أن لا حدود للحلم كما أن التحديات لا تتوقف؛ وإذا كانت "النهضة" هي عنوان المشروع العماني، فإنّ مفهوم النهضة في ذاته ذو بعد حضاري وهو لا يتعلق بجانب من التطور الاقتصادي أو الاجتماعي أو السياسي بل هو مفهوم شامل تسير فيه أركان النهضة بتوازٍ وتناغم، وهذا التوازن هو الذي يضمن تجسيد مشروع النهضة في "الدولة الراسخة الأركان" لأن ما كان راسخ الأركان لا تهزه عواصف الدهر ولا زعازع الأزمات، ويواجه التحديات بعزيمة لا تلين.

وإذا كان تحليل معنى النهوض والنهضة أمر لا يتسع له هذا المقام، فإن تجسيد هذا المعنى في "الدولة الراسخة الأركان" أمر يجب أن نقرأه نحن من منطلق المسؤولية الوطنية، لنسأل أنفسنا ما الذي فعله كل منا ليزيد من ثبات الدولة الراسخة الأركان؟ وإذا كان هذا الحلم هو الذي ألهم جلالة السلطان أن يبذل له شبابه وجهد 44 سنة فكان مشروعه ومنجزه ومشروع الوطن ومنجزه، فما الذي نقدمه نحن اليوم ليستمر تحقيق هذا الحلم وليزداد ازدهاراً ورسوخاً وقوة؟ إنّ هذا السؤال يخاطب كل مواطن دون استثناء، المواطن الذي يقف اليوم على أي مصلحة من مصالح عمان في أي بقعة كانت، كما يتوجه إلى من يقودون مؤسسات وهيئات الوطن، لتكون فكرة "الدولة الراسخة الأركان" هي فلسفة العمل ومعيار الإنجاز، وأن ننفي كل ما يتعارض معها أو يشغب عليها.

إنّ النقطة الثانية التي يجب أن نقف أمامها على بعدها الإنساني في المقام الأول، هي حين توجه جلالة السلطان حفظه الله بشكره وتقديره إلى أبناء شعبه على مشاعرهم ودعواتهم، ودعا في ختامها الله بأن يحفظ أبناء عمان المخلصين ويرعاهم "كراماً أوفياء"، إذ في إشارة جلالته إلى الكرامة والوفاء باعتبارهما من القيم الأخلاقية العليا تنويه في ذاته إلى أنّ هذه العلاقة قامت بينه وبين شعبه على الوفاء المتبادل وعلى الكرامة، وإلى أنّه يشعر بهذا الوفاء المتدفق ويشكرهم عليه؛ وحين نقرأ هذا المعنى من منطلق المسؤولية الوطنية التي لا تستثني أحداً فإن الوفاء هو أحد القيم الكبرى التي صنعت المنجز الذي تعيشه عمان اليوم، الوفاء بالوعد الكبير بأن تكون عمان دولة راسخة، والوفاء بالحقوق التنموية لكل إنسان فيها، وأن يشعر مواطنها بالكرامة والشرف، وأن يقف أمام العالم ويقول بثقة وانفتاح بأنه عماني له وطن وله دولة تدرك انتماءها وتعرف تاريخها وتقدم رسالتها الحضارية.

أجل إنّ كل ذلك كان مساراً طويلاً وشاقاً من الوفاء لا حاجة لأن نفصل التحديات التي واجهته، وهو ليس وفاءً يتعلق بالحاضر وبأبنائه، بل هو كذلك وفاء لعمان ولتاريخها ولشهدائها ولتضحيات أبنائها وجهود أعلامها على امتداد حقب التاريخ لتبقى حرة ومستقلة، منتمية إلى دينها وحضارتها ولغتها ومنفتحة على العالم؛ وهذا الصدق والوفاء بهذا المعنى الواسع المتجاوز للحظة الواقع هو ذاته الذي نحتاجه اليوم لنحافظ على ما أنجز ولنعظِّمه ولنكثره، ومرة أخرى على كل واحد منا أن يسأل نفسه اليوم أين هو من هذا الوفاء؟ فهذه القيم الحاكمة لا تعرف ازدواجية التطبيق، فما الذي يبذله كل منا ليحمي هذا المنجز ولتوسيعه والعبور به إلى المستقبل، وتجاوز كل ما يمكن أن يواجهه من تحديات، وكيف نكون أوفياء للمشروع الحضاري بالدولة الراسخة الأركان؟!

إن هذه التساؤلات المتعلقة بالمسؤولية الوطنية لكن منا هي تساؤلات عامة تتفرع عنها تساؤلات تفصيلية عددها بعدد كل مصلحة من مصالح الوطن والمواطن، وكل وزارة أو هيئة أو وحدة إدارية أو خدمية، وكل موقع ووظيفة، وكل تخطيط وكل مشروع وكل قرار، فهذا المشروع الحضاري بالدولة الراسخة الأركان هو مشروع لكل عماني بغض النظر عن المواقع والمراتب، والله سائل كلاً منا أحفظ أم لم يحفظ؟ وفّى أم لم يفِ؟ وأمل جلالة السلطان أن يحفظنا الله جميعاً كراماً أوفياء.

إن التحية والتقدير التي يوجهها جلالته للقوات المسلحة هو أحد مظاهر التجسيد لهذا الوفاء وهو تعبير عن عرفان العمانيين جميعا لأبناء القوات المسلحة، وهو حق على كل عماني أن يشعر به حين يأوي إلى بيته آمناً مطمئنا، لكنه أيضاً إشارة ضمنية بأن مؤسسة القوات المسلحة هي حارسة على كل هذا المنجز في عالم شديد المخاطر وبالغ التعقيد، وجميعنا نرى اليوم في هذا العالم الذي يُفجأ بالأزمات بأنّ القوى النظامية المسلحة هي ضمانة أساسية لدولة المؤسسات الراسخة الأركان.

إن ثمة قيمة مضاعة في عالم اليوم الذي يتعاظم تعويله على الأسباب دون المسبب، ولكنّها قيمة حاضرة في كل خطاب لجلالته ولا تفارق أي خطاب بوجه أو بآخر، تلك هي قيمة الاعتماد على الله والتعويل على عنايته ومدده، وشكر توفيقه وتسديده؛ ذلك لأنّ القوى والموارد والإمكانات هي آثار لنعمته، وأن حسن تدبيرها هو قيام بحق المنعم والنعمة؛ ومن يعرف كيف تمضي حياة البشر اليوم إلى مزيد تعقيد وإبهام في الحسابات والتوقعات حتى لتكاد تتساوى الخيارات في كثير من الأحيان، وتُجهل آثار كثير من السياسات، وتقف فيه النظم والاقتصادات أمام خيارات صعبة وقرارات حرجة، ليدرك تماماً مدى الحاجة للتوفيق الإلهي ليهب الحكمة ويوجه للرشد ويهدي إلى الصواب... وكلنا نتوجه مع قائد البلاد بالدعاء إلى الله أن يحيط عمان وسلطانها وأهلها برعايته وحفظه وتوفيقه.
والحمد لله أولًا وآخراً..

الاثنين، 13 أكتوبر 2014

دعوة إلى عودة الروح .. بين يدي ندوة التعليم في سلطنة عمان، الطريق إلى المستقبل


دعوة إلى عودة الروح
بين يدي ندوة التعليم في سلطنة عمان، الطريق إلى المستقبل

محمد بن سعيد الحجري

جريدة الرؤية - الإثنين، 13 أكتوبر 2014م
"ولما كان التعليم هو الركيزة الأساسية للتقدم والتطور ولإيجاد جيل يتحلى بالوعي والمسؤولية ويتمتع بالخبرة والمهارة ويتطلع إلى مستوى معرفي أرقى وأرفع فإنّه لابد من إجراء تقييم شامل للمسيرة التعليمية من أجل تحقيق تلك التطلعات" من خطاب جلالة السلطان المعظم في الانعقاد السنوي لمجلس عمان 2011م.
"لذلك فإنّه من أولويات المرحلة التي نمر بها والمرحلة القادمة التي نستشرفها مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه وتطويرها بما يواكب المتغيرات التي يشهدها الوطن والمتطلبات التي يفرضها التقدم العلمي والتطور الحضاري" من خطاب جلالة السلطان المعظم في الانعقاد السنوي لمجلس عمان 2012م.


إن الفقرتين الآنفتين من خطابي جلالة السلطان المعظم -حفظه الله ورعاه- لابد أن تكونا عنواناً لهذه المرحلة التي يمر بها التعليم في وطننا، وطالما تحدثنا وتحدث كثير من المتابعين لشأن التعليم بأنّ ما نص عليه الخطابان الساميان من "تقييم شامل" و"مراجعة لسياسات التعليم" لابد أن يرتكز عليهما جهد المؤسسات المعنية بالتعليم في السلطنة بمستوييه الأساسي والعالي، لأنّ هذا التقييم وتلك المراجعة هي التي ستصنع منعطفاً فارقاً وانطلاقة جديدة لا تكرر ما شاب المرحلة الماضية ــ قبل الخطابين ــ من تجريب ونزعات جعلت الجميع على قناعة بأنّ هذا المسار لا يصل بنا إلى الوجهة الصحيحة، ولا يعطينا القدرة على مواجهة التحديات الماثلة، بل ويصنع تناقضات ويعاظم أزمات كلنا يدرك أنّ القطاعات التعليمية مرت بها وتمر بها.

اليوم بعد ثلاث سنوات من الخطاب الأول وسنتين من الخطاب الثاني على مؤسساتنا التعليمية بكل مستوياتها أن تسأل نفسها: كيف كان التقييم الشامل؟ وكيف كانت المراجعة؟ وهل صنعنا انعطافة جديدة أو انطلاقة مختلفة؟


والذين يشاهدون مجريات الأمور من خارج مؤسسات التعليم مثلنا، ويتابعونه متابعة الحريص على مستقبل وطنه، المدرك لما يحتاجه الوطن وتريده القيادة من التعليم، يعرفون أيضاً أن جهوداً بذلت وهي جهود مشكورة ومقدرة ومحترمة؛ منها مثلاً في قطاع التعليم العام زيادة أطقم الهيئات التدريسية والتوسع الواضح في التعيين، وتغييرات في المناهج، وتطوير لأنظمة الانضباط السلوكي، وتوسع في برامج التدريب، ورفع لأجور العاملين في سلك التدريس جاءت مع حزمة توحيد جداول الرواتب، ومن ذلك أيضاً دراسة دقيقة ومهمة قام بها البنك الدولي عن وضع التعليم في السلطنة باعتباره طريقاً نحو المستقبل؛ وفي التعليم العالي كان التغيير الأبرز هو التوسع الكبير في برامج الابتعاث الخارجي والداخلي وتحسين أوضاع الطلاب المبتعثين وربما غير ذلك مما يدركه من هم داخل مؤسسات التعليم أكثر منّا.

كل ما أشرت إليه سبب ارتياحاً ولا شك وصنع انفراجات في مسارات كانت متأزمة، وهذا أمر لا يسعنا إلا أن نحييه مع جهود مجلس التعليم الذي يؤول إليه اليوم صنع السياسات العليا للتعليم والذي كان آخر قراراته المهمة إعادة فتح برنامج التأهيل التربوي في جامعة السلطان قابوس الذي أغلق من سنوات غير قليلة.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه اليوم ونحن بصدد "ندوة التعليم في سلطنة عمان، الطريق إلى المستقبل" هل نجحت كل تلك الإجراءات في صناعة انطلاقة جديدة، وهل هذا هو التقييم الشامل والمراجعة التي نحتاجها ووجه بها جلالته مرتين في خطابين متتاليين، والتي هي عدتنا لمواجهة تحديات المستقبل؟

في تقدير الكثيرين أنّ المراجعة والتقييم الشامل لابد أن تفضي إلى بث روح جديدة، ولابد أن تكشف أولاً كل ما حدث في المرحلة الماضية من سياسات أوصلت التعليم إلى حالته الراهنة، حتى لا نعالج مشكلات الماضي بذات الأدوات التي تسببت في صناعتها، ومن الواضح أن التعليم في وطننا يحتاج إلى ما نسميه بــ "عودة الروح"، إذ إنّ مؤشرات غياب هذه الروح واضحة في ضعف الثقة بين أركان العملية التعليمية ذاتها، وبينها وبين المجتمع من جهة أخرى، وكذلك في فقدان الدافعية وانخفاض الجودة الذي تؤكده الاختبارات العالمية TIMSS في العلوم والرياضيات، وكذلك في بقاء بعض الأسئلة التي كشفت عنها هذه الاختبارات دون إجابة مقنعة، ونستنتجه كذلك من الهجرة المتزايدة نحو التعليم الخاص، ومن تراجع جامعاتنا المستمر في قوائم الجودة العالمية، ومن يطالع دراسة البنك الدولي حول التعليم في السلطنة يتبين له أنّ ما أشارت إليه من مشكلات وعقد لم يكن خافياً على أحد، ولا كان يحتاج لكبير جهد لتحديد أسباب التأزيم ومواضعه، بل بعضه نصت عليه دراسات ومؤتمرات سابقة، ولكننا دخلنا في حالة غريبة من التجاهل والنكران تعاظمت معه هذه المشكلات لتكلفنا غالياً من جودة تعليمنا، ومن الثقة به، ومن العلاقة بين أركانه.

وندوة التعليم في السلطنة توجه اليوم جهدها المشكور إلى محاور مهمة تتعلق بدراسة واقع التعليم وتقويمه، وفلسفة التعليم، وتشريعات التعليم، والتخطيط الاستراتيجي للتعليم، وهي قضايا تقع غالباً في إطار السياسات العليا الإستراتيجية التي هي مهمة مجلس التعليم، ولا شك أنّها ستسهم في ما نرجوه من "عودة الروح" وبناء الثقة ورفع الدافعية التي لا تزال بعيدة عن المأمول، ولكن قدرة هذه الندوة على تحقيق ذلك عبر مخرجاتها سيكون رهناً بأمرين نرجو أن تضعهما في حسبانها؛ أولهما في مقرراتها التي لابد أن تتّجه للتنفيذ أسوة بما حدث مثلاً في "ندوة دعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة"، فغير بعيد عن علم المتابعين أنّ هذه الندوة ليست الأولى التي تحمل هذا الاسم أو قريباً منه، والميدان التعليمي في حاجة ماسة اليوم إلى كل الإشارات الإيجابية بأن ما تقرره الندوات سيذهب إلى التطبيق العاجل؛ وثانيهما في معالجة الراهن واليومي المتعلق بالقرارات والإجراءات وليس بالسياسات العليا، وهذا ما نأمل أن يعتني به محور "دراسة واقع التعليم وتقويمه" إذ من غير المجدي أن نركز على السياسات العليا ذات المدى الزمني البعيد بينما تتعاظم فجوة الثقة ويخبو وهج الرغبة في التطوير داخل المؤسسات التعليمية نتيجة بقاء بعض السياسات السابقة، والنظام التعليمي يقف على رأسه اليوم جهاز مهم قادر على تحويل التوصيات إلى قرارات ملزمة لكل مؤسسات التعليم، فمجلس التعليم جهاز وضع للسياسات وللإشراف على تنفيذها كما هو معلوم، وفجوة التنظير والتطبيق لم يعد لها ما يبررها اليوم مع وجود هذا الجهاز.

وإذا كان التخطيط الاستراتيجي للتعليم الذي ستعتني به الندوة سيتجه حتماً إلى المواءمة مع الرؤية الوطنية للتنمية 2040م التي هي قيد الإعداد، فإنّ علينا أن ننتبه إلى أن السنوات التي تسبق ذلك هي سنوات مهمة وفاصلة، ووضع رؤى وسياسات عملية خاصة بها أمر في غاية الضرورة، وهذا ما نبهت إليه "ندوة السياسات الاجتماعية" التي نظمها المجلس الأعلى للتخطيط في ديسمبر 2013م، من ضرورة إعطاء هذه السنوات التي تسبق الرؤية 2040 حقها من التخطيط والتركيز، فالمشكلات لا تنتظر التخطيط بعيد المدى، والمتغيرات المتسارعة تفرض على المخططين ديناميكية ومرونة عالية لمواجهتها قبل أن تتعاظم، وتعرقل تطبيق الاستراتيجيات العليا القادمة.

يرى بعض خبراء التربية أنّ الموارد المالية والوفرة وسهولة اتخاذ القرار ليست السر في نجاح الأنظمة التعليمية طالما كانت الوجهة غائبة، ويبرهنون على ذلك بأنّ الأنظمة التعليمة لبعض دول الجوار هي في وفرة من الموارد وسهولة التوجيه والقرار نظراً لصغر هذه الأنظمة وتوفر الإمكانات لها، ولكن نظام التعليم فيها رغم ذلك لا يزال يراوح مكانه ويراكم تجارب الفشل؛ فهل ندرك نحن أنّ السر يكمن في "عودة الروح"؟ والروح التي أعنيها هي ذات الروح التي انتشلت عمان من مجتمع الجهالة والتخلف في السبعينيات وأنقذت مجتمعاً بأسره، إنّها روح "سنعلم أبناءنا ولو تحت ظل شجرة" هذه الروح الوثابة التي نفتقدها اليوم مع توفر المباني المدرسية والجامعية الحديثة ومراكز مصادر التعلم والبوابات الإلكترونية..إلخ.


إنّ علينا جميعاً أن نفكر في استعادة هذه الروح فهي ليست أقوالاً مرسلة ولا شعارات نتهرب بها من مواجهة الواقع، بل هي الوصفة الحقيقية لقصة نجاح التعليم، ولا شك أن المسؤول عن بثها وإشاعتها قبل أيّ أحد هم القيادات التعليمية سواء تلك التي تمسك دفة القرار أو من هم قريبون من الميدان، وهؤلاء لابد أن يكونوا تربويين يؤمنون بقضية التعليم في وطنهم قبل أن يكونوا أدوات بيروقراطية لتنفيذ السياسات، وهؤلاء هم الذين يقع عليهم عبء صناعة الجسور وردم فجوات الثقة وبناء الدافعية واستعادة الروح.
يذكر الناس من قصيدة شوقي الشهيرة بيتاً واحداً طوّف الدنيا وحده دون سواه:
قم   للمعلم   وفّه   التبجيلا
كاد المعلم أن يكون رسولا
وهو وسام يستحقه المعلم بجدارة ضمانتها المسؤولية، لكن القصيدة فيها بيت آخر لعله يصف هؤلاء الذي نأملهم لاستعادة الروح:
إنّ الذي جعل الحقيقة علقماً
لم يُخلِ من أهل الحقيقة جيلا

الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

النفيسي مرة أخرى (عمى الطائفية وعقدة "الفالودة")

النفيسي مرة أخرى
عمى الطائفية وعقدة "الفالودة"

جريدة الرؤية - محمد بن سعيد الحجري

   قبل أكثر من أسبوعين عاد الدكتور عبدالله النفيسي في برنامج "ساعة حوار" في إحدى القنوات الخليجية للحديث عن عمان في حلقة عنوانها "الخليج ومناطق الصراع" وهي المرة الثالثة خلال أقل من سنة التي يركز فيها النفيسي حديثه على عمان مقدماً تأويلاته لما أسماه "الانفراد" العماني في العلاقة مع دول الخليج، والعلاقات العمانية الإيرانية والخليجية الإيرانية، ورغم أن بعض إشاراته تحدثت عن كون عمان كياناً تاريخياً كبيراً إلا أن هذه النقطة سرعان ما تلاشت أمام طوفان التأويلات الأخرى التي لا أبالغ في القول في أن بعضها طائفي وبعضها مسيء لا يمكن أن يتقبله أي عماني، وأعفي نفسي هنا من إيراده وبإمكان من يريد تفصيل ذلك أن يعود إلى الحلقة المذكورة فهي مسجلة ومرفوعة على اليوتيوب، وهي فضلاً عما فيها من مغالطات لا أساس لها تعيد إلى الأذهان ما قاله قبل أقل من سنة عندما تحدث عن عمان واصفاً إياها بأنها "اللغز" تارة و"الثغرة" تارة أخرى، ناهيك عن أن مثل هذه التأويلات لا تقدم شيئاً للراهن الخليجي الذي يواجه أزمات عاتية وتحديات خطيرة، بل تصنع الجفاء وتزرع التوجسات وتبني رؤاها على خليط من الأوهام وأنصاف الحقائق لتقدمها لأجيال خليجية لا تمتلك قدرة على النقد والفرز والتمحيص، تعطي ثقتها العمياء لأمثال الدكتور النفيسي الذين أجدهم يخذلون هذا الوعي ويعاظمون أزمته بتأويلاتهم التي لا تخفي طائفيتها ومذهبيتها، ولمن يظن أننا نبالغ في الأمر فليعد إلى هذه الروابط والحجم الهائل لإعادة تغريدها عبر تويتر.

في المرة الماضية حين أطلق الدكتور النفيسي تصريحاته السلبية عن السلطنة وموقفها من العلاقة مع إيران وقضية الاتحاد الخليجي وبعد أقل من شهر من ذلك انفجرت الحالة الخليجية ذاتها في أعتى أزمة منذ تأسيس مجلس التعاون، وثبت أن موقف السلطنة كان واقعياً إلى حد كبير وأن الظروف الموضوعية أبعد ما تكون عن الحلم البعيد، لكن الدكتور النفيسي لم يراجع خطابه تجاه السلطنة ولم يراجع كم المعلومات المغلوطة والمضللة التي بثها حينها، والتي ساهمت بشكل سلبي في تكون رأي خليجي عام شهدنا مفاعيله في وسائل التواصل الاجتماعي في أوساط الشباب.

ومن الطريف هنا أن مقدم الحلقة والدكتور النفيسي في سياق استعراض العلاقات الخليجية الايرانية اتفقا على أن العلاقة الوثيقة مع إيران لا تقتصر على عمان بل إن هناك دولتين خليجيتين لديهما علاقة وثيقة جداً مع إيران، ولكنهما قالاً بأنه لا داعي لذكر اسمي هاتين الدولتين! قاصراً الحديث فقط على العلاقة العمانية الإيرانية مردداً ذات المزاعم السابقة؛ والسؤال هنا: علام هذا الصمت المتعمد بشأن العلاقات الخليجية مع إيران والتصريح المفصل "المُؤَول" عندما يتعلق الأمر بعمان؟! في هذا السياق أليس في هذا الإصرار على الحديث عن عمان وحدها رغبة غير خفية لتشتيت الحقائق وتضليل المتابع؟! ثم إذا كان الدكتور النفيسي يتحدث دائماً عن هذا الفشل الذريع للسياسة الخليجية العامة تجاه قضايا المنطقة فعلام يلوم عمان على ما أسماه "الانفراد العماني"؟! إن المسكوت عنه هنا هو لب القضية، ولذا فإننا سنستمر في تساؤلاتنا: كيف يواصل الدكتور النفيسي تأويلاته التي امتهنت اللمز والنيل من عمان، بينما لم يذكر كلمة واحدة عن الجهود المضنية التي بذلتها عمان في رأب الصدع الخليجي بعد أزمة السفراء؟! كيف يتجاوز ــ هو ومقدم البرنامج ــ هذه الحقيقة الواقعية كما تجاوز الحقيقة التاريخية بشأن اقتراح السلطنة قيام الجيش الخليجي الموحد في التسعينيات؟! ذلك المشروع التاريخي الذي تم التنكر له والانصراف عنه، وواضح أن الذي يصرف عن هذه الحقائق هو التعصب الذي نراه في لحن القول وصريحه!! إن المدهش هنا هو هذه الرغبة المحمومة في تحميل مسؤولية الفشل في السياسات الخليجية الجماعية حتى لمن من قرأ الجغرافيا السياسية وفهم دروس التاريخ جيداً ونأى عن الانحيازات العمياء!

فكفوا عنا بربكم، كفوا عنا بربكم، واربطوا سوائم الأزمات الشاردة بعيداً عن جدران القلعة العمانية، فإن عمان لم تدق إسفيناً واحداً في الجسد الخليجي، بل صنعت الجسور وبنت التفاهمات وقاربت المواقف ولم تخذُل في الأزمات، وقدمت رؤية لسياسات واقعية لبناء التعاون الخليجي على أسس حقيقية لا على أوهام الحالمين ولا على فزع المذعورين الذين تفاجؤهم حقائق التاريخ ومسلمات الجغرافيا وكأنها بنت لحظتها!

إن مشكلة الدكتور النفيسي في فهمه للسياسة العمانية هي مشكلة خطابه كله الذي وضع الطائفية محدداً رئيسياً لتفسير الأحداث والمواقف، وبالتالي بناء تصورات وسيناريوهات يقوم جزء منها على الخيال السياسي والفوبيا السياسية مع بعض الحقائق وأنصافها لإكساب المصداقية، ومن هنا يأتي إصراره الدائم في كل مناسبة على ذكر قصة "الفالودة" الخليجية الطيبة الرائحة والسهلة الهضم التي يتربص بها الفم الإيراني الملتهِم، وهي قصة قديمة سمعها مرة من أحد السياسيين الإيرانيين، فالنفيسي يتحدث عنها باعتبارها لحظة الحقيقة في اكتشاف الأطماع الإيرانية حتى أصبحت عقدة حقيقية في خطابه، وهو يستخدم هذه القصة دائماً في إثارة الذعر والتحريض، وهذا شأنه وشأن متابعيه الذين يثقون في تحليلاته، لكنها لا تضيف لنا الكثير في اكتشاف أن العلاقات السياسية قائمة على حقائق الجغرافيا السياسية وعلى المصالح وعلى توازنات القوى وعلى تحصين الجبهات الداخلية، وكل هذه النقاط مختلة في السياسة الخليجية العامة، وتحليلاته القائمة على "قصة الفالودة" لا تضيف شيئاً لتدعيمها، لا بل وجدناه في نقطة ما من الحوار يشكك في ولاء الأقليات المذهبية في الدول الخليجية ويرى أنها متشوفة للخارج، وبدلاً من تقديم حلول لتدعيم الجبهات الداخلية بروح المواطنة والشراكة يترك الأمر هكذا فلا يعني عندئذ إلا طائفية محضة!! وهذا بالضبط ما يريده الوسط الطائفي الذي يتحدث فيه في قنوات لم تراجع خطابها بعد ولم تنظر إلى مآلاته الكارثية الذي سببته للمنطقة! فهذه الأوساط تستفزه لمزيد من تعبئة خطابها التحريضي وهو بوعي منه يمضي بعيداً في هذا الاتجاه، ولعل الدكتور النفيسي لا يلاحظ أن القنوات التي تستضيفه هي ذاتها التي ترحب بهذا النوع من الخطاب وهي ذاتها التي تبحث عمن يعبئه لها، فهي قنوات لا تبحث عن تحليل سياسي بقدر بحثها عن حشد طائفي وتبرير لمواقفها، بل إن بعضها معروف بمواقفه التحريضية التي دفعت داعميها ومموليها لإعلان تبرئهم منها.

والملاحظ هذه المرة أن القناة المشار إليها تعمدت استفزاز الدكتور النفيسي تجاه عمان ليعود مرة أخرى لشرح رؤيته الخاصة لأسباب "الانفراد العماني" في المواقف الخليجية وموقف السلطنة من العلاقات مع إيران ودورها في التفاهم الإيراني الأمريكي الأخير، ومشكلة أطروحات الدكتور النفيسي أنها نادراً ما تناقش وتفند (باستثناء لقاءه مع الأستاذ المديفر في روتانا الخليجية) بل تتلقى رؤاه بتسليم بارد ودون أي ظهور لوجهة نظر مقابلة، والسؤال هنا لماذا؟؟ والجواب لأن تحليلات من هذا النوع تربط بين السياسة والمذهبية وتصطنع الاصطفافات الطائفية مطلوبة من قبل بعض الجهات، بل إن هناك وسائل إعلامية كل خطابها يقوم على ذلك، وهي تبحث عن أسماء مؤثرة تمتلك قدراً من الاحترام والثقة بعد أن كسد سوق "الدعاة" الطائفيين وبانت كارثية خطابهم وما جر إليه من وبال؛ وخطاب الدكتور النفيسي اليوم مغموس في الطائفية إلى أبعد الحدود للأسف، وهذه الطائفية "المتأخرة" تشتد في تعصبها، والتعصب هو نوع من أنواع العمى عن الحقائق، إذ لا يمكن للتعصب أن يكون سبباً للكشف والرؤية! ويمكننا أن نجد برهان ذلك مثلاً في موقفه من القضية اليمنية وتفاعلاتها، حيث يمكن متابعة موقفه المليء بالتحريض من خلال تغريداته التي وصلت إلى حد الترحيب بالحوار مع تنظيم القاعدة في اليمن واعتبار ذلك شجاعة وبعد نظر! واعتبار سقوط صنعاء سقوطاً لمكة والمدينة!، هذا على حين أن تحليلات أكثر حصافة وعمقاً في فهم جذور الأزمة ذهبت إلى المراجعة والتأمل، ولعلي هنا أحيل إلى تغريدات الدكتور عبدالوهاب الطريري والتي كانت بعنوان "أحداث اليمن ومكاشفة الذات"، والتي أعاد نشرها الدكتور سلمان العودة، وكذلك إلى مقال الكاتب السعودي عبدالله حميد الدين "الحوثيون وأزمة الثقة في المنطقة" والمقالان نشرا بتاريخ 21 سبتمبر، ففي هذه التعليقات وأمثالها إعادة للوعي بجذور الأزمات وليس بنهاياتها، وأنه لابد من إدراك أن الأمور تسير ضمن استحقاقات لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وأن الخليج بحق هو جزء من أزمة اليمن، قبل الحديث عن تدخل إيراني أو تخادم أمريكي إيراني كما يصف الدكتور النفيسي.

مشكلة الدكتور النفيسي أيضاً هي في الوقوف عند التشخيص دون تقديم البدائل الممكنة باستثناء ترويجه لبديل "الوحدة الخليجية" الذي ثبت عدم واقعيته، وفي ظل واقع سياسي معقد جداً ومتداخل وخطر لا يقدم الدكتور النفيسي بديلاً سياسياً ممكناً، والسياسة فن الممكن كما نعلم، وقد تحدث النفيسي مثلاً بإسهاب عن الموقف من الحرب على التنظيمات المقاتلة في العراق وسوريا مقترحاً التخلي عن هذه الحرب وعدم المضي فيها، دون أن يقدم بديلاً ودون تحليل حقيقي دقيق لجذور مارد التكفير الذي تم صناعته طوال عقود والذي ينقلب على صانعيه اليوم، وهكذا فإن عدم الإحاطة بجذور المشكلات وتاريخها والنظر بعين طائفية يعطل أي جدوى لخطاب يقدم على أنه تحليل سياسي.

وهنا نقول أيضاً بأن مما لا يلاحظه الدكتور النفيسي أن عمان لم تساهم يوماً في صنع مارد التكفير الذي يهدد المنطقة اليوم ولذا فإنها في حل من كل تبعات ذلك، ولو شاهد الدكتور النفيسي خارطة القواعد التي تنطلق منها طائرات التحالف الدولي سيكتشف أن عمان عرفت قديماً عواقب الأمور وهي في حل من سياسات هذه نهايتها.

لأكثر من مرة وصف الدكتور النفيسي دول الخليج العربي وشعوبها بأنها "وادي النمل" في إشارة إلى أن هذه الشعوب كائنات ستضيع تحت الأرجل وستوطأ بالأقدام من قبل المارد الإيراني أو سواه من القوى، ولعله حينها لم ينتبه إلى أن الإشارة القرآنية لوادي النمل وردت في سياق إيجابي مداره على الحذر والانتباه وقراءة الملك النبي "سليمان" عليه السلام لحاجة رعاياه من الكائنات جميعاً للأمن والسلام والتحصن بالداخل قبل الخارج وسط ضجيج الجيوش وجلبة الصفوف.

حول اليمن .. خلاصات للقاﺀات جمعتني بإخوة أعزاﺀ من اليمن العزيز

خلال الأيام الماضية وأثناﺀ وجودي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا شرفت بلقاﺀات رائعة مع أخوة كرام من اليمن العزيز على قلوبنا؛ هؤلاﺀ الشباب النابهين مثال لرقي الأخلاق وتوقد البصيرة وسمو الوعي واستقلال الرأي بعيداً عن التعبئة الأيدلوجية أو الانحيازات الحزبية، إنهم عينة من شباب اليمن الذين تتعلق بهم آمالنا ليكونوا رادة وطنهم في حفظ استقلاله ووحدته، وبناﺀ مستقبله، واستعادة حكمته اليمانية من أجل إخراج هذا البلد الحبيب والشعب الكريم من أوضاع الحيرة والاضطراب.
في لقاﺀاتنا كنت معهم أصغي لأتعلم وأفهم هذا المجتمع بطاقاته البشرية وتركيبه وتنوعه وتعقيده وثراﺀ مكوناته الاجتماعية، كما طوفنا معاً ببعض أنحاﺀ التاريخ العظيم المشترك بين اليمن وعمان.
حتماً كانت القضية اليمنية تفرض نفسها بما تضعه أمامنا جميعاً من ضغوط وتساؤلات أنتجتها سرعة تلاحق الأحداث ودراماتيكتها.
وفي كل الأحوال يمتلك اليمنيون اليوم رؤية واضحة لجذور هذه الأزمات، ولديهم صراحة وصدق مع الذات بشأنها، ويسلمون بأنها تفرض على الواقع اليمني تعقيدات يصعب أن يفهمها سواهم، ويصعب أن يتحدث بصراحة ومكاشفة بها غيرهم.
طلبوا مني التعليق على الأحداث، وكيف أرى الأزمة اليمنية، فاعتذرت بأني جدير بأن أصغي لأتعلم منهم، وأن كل من يتحدث عن اليمن من خارجه اليوم يجازف بالرأي، وحري به أن يقول كلمة الخير أو ليصمت! نعم ثمة قواعد عامة تشترك فيها مجتمعاتنا يمكن أن نجد انسجاماً أو عدمه بشأنها هنا أو هناك لكنها لا تؤهلنا لأكثر من التوقعات والتخمين.
ويبقى أهل اليمن وحدهم هم القادرون على فهم مجتمعهم وإدارة شؤونهم وتجاوز تحدياتهم وأزماتهم بعيداً عن أصوات التحريض الطائفي الخارجي الذي ما دخل بلداً إلا نكبها وأحالها بلاقع تصفر فيها الريح! فآخر ما يحتاجه اليمن اليوم هو أن ينحاز أحدٌ لطرف على حساب طرف، وما يحتاجه اليمن اليوم أن يترك لأبنائه فهم الأدرى به والأكثر إشفاقاً عليه، فإن كان من تدخل فلخير أو إصلاح.

قالوا لي: حدثنا عن الحكمة العمانية والهدوﺀ العماني والانسجام العماني.. قلت لهم: هو قبس أخذناه من اليمن، هو نصيبنا من الحكمة اليمانية التي أخذتها القبائل معها وهي ترحل من اليمن إلى أنحاﺀ الجزيرة.

لهؤلاﺀ الإخوة الأعزاﺀ:
د. صالح الهياشي
م.العلاﺀ باحميد
أ.محمد أبو طالب
لهم ولغيرهم من الأخوة التحية والتقدير على جميل لقائهم الذي طالما أنست به، ولوطنهم العزيز المحبة والوفاﺀ والأماني الطيبة والدعوات المتضرعة.

الاثنين، 1 سبتمبر 2014

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!
محمد بن سعيد الحجري
جريدة الرؤية 7/ذو القعدة/1435هـ - 2/سبتمبر/2014م
"فتحت عيني فرأيت غافلاً
يحمله  السيل  وليته  درى
ونائماً   والنار  في  جثمانه
كأنه جزل الغضى وما وعى!!"
الشاعر العماني أبو مسلم الرواحي (ت1920)


خلال الشهرين الماضيين وصلت كثير من الاستحقاقات إلى غاياتها ونتائجها، وهي تعاظم من حقيقة أننا شهود على مرحلة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين، وإذا كان أبرز ما فيها ما وقع ويقع في فلسطين والعراق وما يثيره من تفاعلات سياسية وفكرية وثقافية، فإن هذه التفاعلات لا تتجلى حقائقها كلها في لحظة وقوعها حيث الغبار الإعلامي يتصاعد ليحجب الرؤية أكثر من أي مرحلة مضت في التاريخ، ولذا فإن قراءة المشهد وتحليله سيتطلب من مفكري هذه الأمة جهوداً مضنية لتفكيك كل هذا التعقد والتداخل الذي ألغى كل ما تبقى من "وهم البساطة" الذي يتلقفه الناس في الظاهر.
إن تحليل ما جرى خلال المائتي عام الماضية تطلب لفهمه الكثير من الوقت والجهد، وعشرات السنوات من البحث والتمحيص خاصة وأن الأحداث في حقيقتها لم تكن تصنع على مسارح وقوعها في الشرق بل في مواقع أخرى يُنتظر لتفصح عن محجوبها علّنا نفهم ما يجري بعد أن يفوت الأوان ويستقر الواقع على هيئته، والأمر لا يختلف كثيراً الآن، بل إن الحالة الفكرية والسياسية واختراق الوعي بالطائفية المذهبية والسياسية يعطي فرصة أوسع للتحكم والتوجيه واللعب بالتناقضات، ووسط كل هذا "الهرج والمرج" يفضل الكثيرون تفسيراً بسيطاً للرواية متناسين كل التراكمات التاريخية، الحقيقي منها والمشوه، ومحيدين حقيقة أن هناك أعداء لهذه الأمة يتربصون بها، أو مستسلمين لأحقادهم وأوهامهم الطائفية التي تقسم العالم بسذاجة إلى معسكري نحن والآخر.
الفوضى الإعلامية كما أنها تسبب حالة التعقيد هذه فإنها تعطي الفرصة للكشف كذلك، ولعل هذا ما يعزي كل مشفق على هذه الأمة مما تساق إليه، فالتعويل الآن على الوعي، وعي الأنظمة السياسية ووعي الشعوب ووعي المؤسسات ووعي القيادات أمام حالة الغيبوبة العاصفة التي يراد لهذه الأمة أن تدخلها، لتؤجل كل أسئلة النهوض التي حملتها طوال أكثر من 100 عام ماضية، ولتأتي بدلاً منها أسئلة الحد الأدنى في البقاء والحياة، وهو تراجع حضاري هائل على مستوى الأمة سيتجادل الكثيرون في تحميل المسؤولية فيه، لكن الأنظمة السياسية ستتحمل فيه مسؤولية أكبر ولاشك، وبرهان ذلك أن وعي بعضها جنب شعوبها هذه المزالق الخطيرة التي تمضي إليها الأمة.
أقول هذا بين يدي الحدثين الكبيرين وفاء للحقائق الكبرى التي تغيب الآن وسط كل هذه الحالة من الظلام والعتمة، لأن ما يتوفر لكل المحللين والدارسين لا يعطي بصيصاً للثقة بأنه وهم أم حقيقة ليُعتمد عليه في قراءة المشهد خاصة وأن مستقبل شعوب عربية شقيقة كانت علامة على التنوير يغدو اليوم ضبابياً وغامضاً أكثر من أي وقت مضى!
واستناداً إلى الوقائع والأحداث فإن الله لم يُرد لنا أن نكون خلال الشهرين الماضيين أمام نموذج الظلام والفتنة وحده، فنُفْتن ويُفْتن أجيال من شبابنا لا نعرف ما يعتمل في صدورهم اليوم وهم يرون تمزق واقع أمتهم وتشويه دينهم وتدمير إيمانهم بأمة واحدة، فقد شاء الله أن لا يترك مثال الشر يفرض نفسه دون أن يظهر بإزائه مثال الحق لنستبين نتائج الأمرين ولنعي جذور الظواهر التي نراها اليوم، فبإزاء نموذج العنف العبثي والثأر الطائفي والقتل المجاني وكل صور البربرية والإجرام وقف نموذج آخر في أبهى حالات شموخه ونصاعته ووضوح هدفه، فالجهاد في فلسطين ومقاومتها الشريفة أمام آلة البطش والعدوان هو النموذج الذي أقام الحجة على جميع المفتونين والحائرين والمضلَّلين والعابثين بالأحقاد، فكما أن هدفه واضح فإن عدوه واضح مجمع على عداوته، ولذا فإن هذا الكفاح سواء في أهدافه أو في تضحياته الكبرى أو في تكتيكاته المبدعة لم يُعد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث العالمية ومحور الاهتمام الدولي فحسب، بل وأعادها إلى عقول وقلوب العرب والمسلمين بعد أن غيبتها الحروب الطائفية والخصومات السياسية، وأكد حقيقة انتهاء عصر الانتصارات الإسرائيلية، وحافظ على وحدة الصف الفلسطيني مع كل تعقيدات الموقف السياسي، وأجبر إسرائيل على التفاوض وقاوم سياسياً كما قاوم عسكرياً عبر فريق تفاوضي واحد؛ وفوق ذلك كله أليس آية أن تجمع أحداثُ غزة كلَّ ذي فطرة سليمة في هذا العالم دفاعاً عن قضيتها وعن كفاحها الذي يستحق الدعم وتجب له المآزرة بما في ذلك حتى بعض المنظمات والشخصيات اليهودية، بينما يقف العالم بأسره وكل ذي عقل وإنسانية رافضاً ومنابذاً لجنون العنف التكفيري وعرّابيه الطائفيين؟!
إن من العجب أن تقدم أمتنا هذين النموذجين المتباينين في الوقت نفسه!، نموذج الإرادة والحياة والحق، ونموذج الظلام والكراهية والموت!!؛ وهذان النموذجان -وغيرهما في ميادين الحياة الأخرى - نتيجتان حتميتان طبيعيتان لخطابين متناقضين يقوم أحدهما على الإقصاء والتكفير والتربص والكراهية والغموض والاستتباع وادعاء الحق المطلق، ويقوم الآخر على البناء والفكر والمعرفة والحرية والتعايش واعتماد المشتركات الكبرى والدفاع عن الحق عندما يتطلب الأمر، وكلا الخطابين يتنازعان أمتنا منذ أكثر من مائة عام، ولكلٍّ صانعوه ومروجوه وداعموه.
إن إسرائيل ما كانت لتبلغ هذا المستوى من الإجرام، وما كان التمادي في القتل ليصل إلى هذا الحد لولا إدراكها أن العرب والمسلمين في أوهى حالاتهم بعد سنوات من استنزاف القوى في التطاحن الداخلي المذهبي والسياسي، وبعد أن بلغت الطائفية المذهبية والسياسية أوجها، ليس على مستوى تدميرها لبنى الدول ومقدراتها فحسب، بل لأنها كذلك بلغت ذروة تدميرها للوعي والفكر وللقدرة على التعايش والبناء المشترك، وليس أدل على ذلك من بروز أصوات ترى في مخالفيها في المذهب أو في التيار السياسي عدواً أولى من عداوة إسرائيل!!
ويرى الكثيرون اليوم أن هذه الأحداث فضحت كثيراً من آفات وأمراض أمتنا في أفقع وأبشع صورها عسى أن نَعِيها وأن نراجع، وكشفت الحقائق التي ضللت بها العقول ردحاً من الدهر، وكل مخلص لهذه الأمة ولحضارتها وثقافتها يعول على هذا الوعي وهذا الانكشاف في أن ننتبه للمصير الذي تذهب إليه الشعوب.
فأكبر هذه الأمراض التي تفتك بالأمة اليوم وتربك تمييزها بين الشقيق والصديق والعدو هو التكفير بمختلف أسمائه ودرجاته ونسخه، فلقد كابر التكفيريون كثيراً وإلى يوم قريب في أن منهجهم قائم على احتكار الإسلام، وعلى إقصاء الآخرين، وعلى أصل تكفيري، وكابروا في حقيقة أن نتائجه التاريخية كانت دائماً تدميراً وفساداً في الأرض، كابروا واستمرّوا في مكابرتهم لأن ثمار هذا المنهج كانت بعيدة عن التأثير عليهم، ومهما قيل فيها فإن من العبث أن تقنع من يرى أنه - بوكالة إلهية- وصي على الحق بخلاف رؤيته الأحادية تلك، حتى أتتهم التجربة العملية أمام أعينهم وطرقت أبوابهم فهالهم ما رأوا كما هال ضحايا هذا المسار على امتداد أكثر من مائتي عام، ورأوا كيف سيكون التطبيق العملي لمناهج التكفير العدمية، كيف ستظهر ثمارها المرة، وما الذي تصنع بالناس وكيف ستكون نتيجتها تدميراً للإنسانية وتشويها للدين وصداً عنه، لقد رأوا كل النتائج رأي العين بعد أن كانت قصة تاريخ أو تنظير فكرة أو حدث إعلامي قصي و"من استشرف الفتنة استشرفته"!
ذلك أن عشرات السنوات من تغذية ثقافة الكراهية والتكفير وتمويلها ورعايتها أنتج برمجة تشبه برمجة الآليين، تضع معايير ومواصفات تتربص بالعباد عسى أن يصلوا إليها، وهذا الذي نرى أثره اليوم عبر مقاطع الفيديو المتداولة هو أثر لهذا البرمجة التي صنعتها "كاتلوجات" التكفير وكتيباته، ولم ينتبه صانعو التكفير أن "الآليين" الذين بُرمجوا على التكفير سينقلبون على صانعيهم تماماً كما هو الحال في أفلام الخيال العلمي!
وهناك أصوات من المراجعات تنطلق اليوم بعضها ينتقد الظواهر أو يتبرأ منها، وبعضها يقرّ بها ويذهب إلى العمق، إلى جذور التكفير في المعتقدات والفقه والفكر والتاريخ والاجتماع، غير أن تفكيك بنية التكفير لن تتأتى إلا بالتوقف أولاً عن دعمه واستخدام خطابه أداة للنفوذ، ومواجهته تحتاج شجاعة فائقة ومعرفة عميقة وحوارات واسعة، والمسؤولية الأخلاقية تقع اليوم قبل أي أحد على عاتق من روجوه ونشروه وصدروه وبرروا له.
ومع حالة التلاحم والتعاطف الذي نالته قضية غزة وكفاحها عربياً وإسلامياً ودولياً، فإنها كشفت كذلك عن اختراق خطير وغير مسبوق للضمير العربي، فهي المرة الأولى تقريباً التي تجد فيها إسرائيل انقساماً ولو هامشياً في الرأي العام العربي تجاه عدوانها، ولأول مرة ربما يتحدث الإعلام عندهم عن مؤيدين لهم من العرب! ولأول مرة ربما نرى مشدوهين في بعض البرامج الحوارية مشهداً "سريالياً" ينحاز فيه متحدثون يهود لحسِّهم الإنساني تجاه قضية غزة، بينما يقف متحدث "عربي" على النقيض منهم شامتاً ومتردداً يبرر للعدوان جرائمه أو يقف أمامها محايداً، إن هذه لحظة فارقة بحق وليس من خصومة سياسية كيف ما كان شأنها يمكن أن تبرر حالة كهذه لم تكن مفردة أو شاردة، بل هي حالة واضحة حتى لو كانت هامشية وسط طوفان التأييد والتعاطف، لكنها برهان ليس على استهداف القيم العربية فحسب بل وعلى ثغرات المناعة في الوعي والضمير التي صنعتها الخصومات السياسية، ومهدت لها الحرب الإعلامية المتبادلة بين الخصوم الذين لم يوفر أي طرف منهم وسيلة مشروعة أو غير مشروعة للنيل من خصمه، ومن يفقد شرف الخصومة سيفقد حتماً شرف الانتماء.

الأربعاء، 25 يونيو 2014

أيها القطاع الخاص،، لا يزال الانطباع كما هو!!

أيها القطاع الخاص،، لا يزال الانطباع كما هو!!
نشر بمجلة أثير الإلكترونية

  كل قضية اليوم قابلة لأن تكون قضية رأي عام ومثار جدل ليس لأن وسائل التواصل الاجتماعي التقنية حولت المعلومة إلى حالة غازيّة فحسب، بل لأن كل هذه التغييرات أنتجت تحولات عميقة في الذهنية، تنعكس في نوعية ردود الأفعال والتعاطي مع القضايا العامة، وليس من سبيل إلى إعادة هذه التحولات إلى الوراء أو تغيير وجهتها، والتعاطي معها لابد أن يكون بمنطق التقبل والتوقع والتكيف؛ وكل قرار اليوم مهما كان يعتقد أنه تفصيلي اقتصادي قد يتحول فجأة إلى قرار سياسي له آثاره وتبعاته الاجتماعية، كل هذه الحقائق أكدتها حالة التلقي الجماهيري لعدد من قضايا الرأي العام وآخرها القرار الأخير لمجلس الوزراء حول قائمة السلع المشمولة بتثبيت الأسعار.

وبوسعنا هنا أن نرى أن أي حدث يبقى بلا تفسير أو شرح أو تمهيد سيكون عرضة لعشرات التفسيرات الجاهزة لتحليله وتوجيهه، وبوسعنا أن نقول أيضاً إن المواطنين الذين كانوا يرقبون توجس التجار وغرفتهم من أداء هيئة حماية المستهلك كانوا مستعدين للدفاع عن نفوذ هيئة حكومية انحازت لمصالحهم، ودافعت عن صحتهم وعن سلامة أقواتهم، وعن حقوقهم وأموالهم أمام تذمر التجار المعلن وغير المعلن من أداء هذه الهيئة الحكومية التي اعتبرت مثالاً عربياً على النجاح والاحترافية وارتفاع الأداء، وهذا الاستعداد لردة فعل كالتي رأينا ناتج فضلاً عن التوجه الطبيعي للحفاظ على نوعية المعيشة وتحسينها ناتج أيضاً عن أن المواطن لم يلمس من شريحة التجار وعموم القطاع الخاص ما يدفعه إلى تفهم مخاوفهم أو تعديل الانطباعات السلبية عنهم؛ وكلنا نذكر هنا خطاب جلالة السلطان المعظم في مجلس عمان عام 2012م حين توجه في فقرة مطولة منه إلى القطاع الخاص بشكل واضح بأن المسؤولية تقع عليه في إزالة ذلك الانطباع لدى المواطنين بأن القطاع الخاص "يعتمد على ما تقدمه الدولة، وأنه لا يسهم بدور فاعل في خدمة المجتمع ودعم مؤسساته وبرامجه الاجتماعية، وأنه لا يهدف إلا إلى الربح فقط، ولا يحاول أن يرقى إلى مستوى من العمل الجاد يخدم به مجتمعه وبيئته ووطنه" وهو شعور وانطباع نبه جلالة السلطان إلى خطورة آثاره على القطاع الخاص ذاته وعلى خطط التنمية؛ ومن الواضح تماماً أن القطاع الخاص قد فشل في إزالة ذلك الانطباع أو التخفيف منه، بدليل أن الرأي العام انحاز فوراً إلى تعزيز نفوذ الهيئة الحكومية التي أوكل إليها جانب مهم من تنظيم الأسواق وضبط العلاقة بين التاجر والمستهلك، ورأى في تقليص عدد السلع المشرفة على أسعارها خدمة لمصالح التجار وتعزيزاً لأرباحهم، ولم يأبه إلى ما قد يرتبط بذلك ــ على المدى البعيد ــ من قدرة القطاع الخاص على التنافسية، أو تعزيز قدرته على التوظيف، أو خدمة المجتمع، أو تحرير الأسواق، وضيق السوق المحلي أو غير ذلك من المفاهيم التي لم يفلح القطاع الخاص في إيصالها للمجتمع أو الإقناع بها، لأن إيصالها يقوم على فكرة الشراكة وتعميم الفائدة وتوزيع آثار الثروة، وليس على تكريس فكرة وانطباع قائم على تحقيق الربحية بأي ثمن، وباختصار لقد تكرس شعور متعاظم بانفصال القطاع الخاص عن المجتمع، ولم يبذل أي جهد ذي بال في تبديد هذا الشعور الذي في ظل وجوده لن يرى أحد أن الفائدة التي تصل إلى القطاع الخاص ستصل إليه، وهو شعور غير موهوم بل ينبني على حقيقة أن كبريات الشركات ليس لها برنامج اجتماعي واحد، ومن كانت لها برنامج كهذا فقد قلصته!، بينما استطاعت الهيئة أن تساعد على استقرار الأسعار خلال المرحلة الماضية، بدليل أنها في دراسة لها وجدت أنه من أصل 90 سلعة فإن 66 منها أرخص في السلطنة من أربع دول خليجية أخرى!

ويمكننا أيضاً أن نعرف في مساحة غير قليلة من المواطنين وعيهم بالخيارات الصعبة التي قد تجد الحكومة نفسها أمامها أحياناً خاصة مع ارتفاع وتيرة الانفاق والمضي في خطط التوظيف، والوصول إلى حد التشبع في بعض القطاعات ما يعني أن على الحكومة أن توجد حالة من التوازن مع المشغل المعول عليه للأيدي العاملة الوطنية خلال السنوات القادمة وهو القطاع الخاص، وتمكينه من القدرة على المنافسة المحلية والإقليمية وتحقيق الربحية لتبرير فرض برامج التوظيف الحكومية عليه، ودفعه إلى توسيع استثماراته واستبقاء رأس المال ــ الجبان بطبيعته ــ في أحضان الوطن، كل هذا نزعم أن المواطن المهتم بالأمر قادر على تفهمه، لكن ضمن أولويات وسياقات معينة تقوم على التوازن والشراكة؛ إن هذا لا يعني أن القرار غير عائد إلى الحكومة أو مجلس الوزراء، ولكنه يعني أن هناك جهات تجارية ضاغطة استمرت في الضغط طوال ثلاث سنوات، ولم تواجه الرأي العام أو تتحدث إلى ممثليه في مجلس الشورى، نعم إن القرار يعود للحكومة باعتبارها ملاذ الجميع وممسكة رمانة الميزان بين هذه الأطراف جميعها، ولذا فسر الجميع القرار ــ الذي لم يمهد له ــ على أنه تنازل أمام ضغوط التجار وحساباتهم، ولكن القطاع الخاص لم يبذل جهداً يذكر منذ خطاب مجلس عمان 2012 للتأكيد أنه من المجتمع وأن كل فائدة له ستعود على المجتمع بالنفع، مع استثناءات نحترمها ونقدرها لعدد من المؤسسات التي اعتنت بهذا الجانب واعتبرته جزءاً من مسؤوليتها الوطنية.

ولنشر هنا إلى نقاط مهمة للغاية خاصة فيما يتعلق بالشراكة، ذلك لأن القرار لو أنتج على هذا الأساس من الشراكة لما خرج على هذه الكيفية ولما كانت ردود الأفعال متأزمة بهذا القدر، فقد كان هناك توجه واضح منذ منتصف العام الماضي إلى بناء فلسفة "الشراكة الاجتماعية" في التخطيط الحكومي، وانعقدت وفق ذلك ندوة "الشراكة الاجتماعية" من قبل المجلس الأعلى للتخطيط لتمهد للشروع في بناء الرؤية المستقبلية القادمة 2040 بل ولتعتني بما تبقى من سنوات الرؤية 2020، وقد توج ذلك بتوجيهات جلالة السلطان عند الأمر بتكوين اللجنة الرئيسية لإعداد الرؤية 2040 في 29 ديسمبر2013، بأن تبنى هذه الرؤية "في ضوء توافق مجتمعي واسع، وبمشاركة فئات المجتمع المختلفة"، وفلسفة الشراكة الاجتماعية والتوافق المجتمعي هذه هي التي ستجنبنا أي هزات محتملة، أو ردود أفعال غير متوقعة، وعلى ذلك فماذا لو أن هذا القرار تم تدارسه ضمن هذا الإطار مع مجلسي الشورى والدولة مثلاً، واتجهت غرفة التجارة والصناعة إلى مجلس الشورى ليتم الاتفاق على صيغة تضمن سلامة حقوق المستهلكين واستقرار الأسواق واتزان العلاقة بين التاجر والمستهلك؟ ماذا لو دفعنا بآليات العمل الوطني لأن تنتج بنفسها هذه الصيغ، حتى لا يجد البعض في ذلك خدمة لطرف على صالح طرف آخر.

ثم إن المواطنين يتابعون بدقة كل ما يتعلق بمعايشهم خاصة وذلك أمر طبيعي، وأستطيع الجزم أن المسـألة الاقتصادية هي هاجس الجميع، وبقدر ما يستبشر المواطن اليوم بالمشاريع الكبرى التي هي عتبات الدخول إلى عصر التصنيع كمشروع مصنع الحافلات مثلاً، أومصنع الذخائر الخفيفة، أو خزانات رأس مركز، أوتزايد الاهتمام العالمي بمنطقة الدقم الاقتصادية وغيرها، سواء منها ما هو في طور التتحقق، أو ما كان في طور التخطيط كلها نقاط يستبشر بها المواطن ويدرك أنها تسعى لوضع السلطنة في مركز مرموق في الاقتصاد العالمي؛ لكن المواطن يرى في المقابل أيضاً أولويات تتراجع وتؤجل، وهي أولى بتركيز الجهد الوطني من قضايا كثيرة، ومن أهمها مثلاً إطلاق برنامج وطني لمكافحة التجارة المستترة، وتخفيف نزيف مليارات الريالات سنوياً إلى خارج السلطنة، ودفع القطاع الخاص لإظهار مزيد من التقدير للعقول الوطنية في مراتبه الإدارية العليا؛ إذ يلاحظون بامتعاض شديد تلكؤ كبريات الشركات في تعمين الوظائف العليا والوسطى، حيث لا تتجاوز نسبة مديري الإدارة العمانيين 41%، بينما يتم التركيز على الوظائف الدنيا والوسطى لإرضاء برامج التعمين، حسب ما نشره المركز الوطني للإحصاء؛ كما يلاحظون كذلك تلكؤ رأس المال الوطني في الدخول في شراكات استراتيجية مع الحكومة أو بدونها تتعلق بالتصنيع والاستثمارات ذات المخاطرة، ويرون حضور شركاء خليجيين أحياناً ودوليين مع غياب الشريك المحلي، ويلاحظون أيضاً كيف لا تزال كبريات المؤسسات الرأسمالية في السلطنة تتحرك في حيز التجارة والخدمات حيث العائد المريح، ويتساءلون تساؤلاً مشروعاً عن أسباب بقاء أسعار بعض السلع مرتفعة جداً وبلا مبرر، كالسيارات وقطع الغيار التي يتفق الجميع على أن أسعارها غير طبيعية!!، كل هذه الحيثيات الرئيسية منها والتفصيلية يجدها المواطن العادي أمامه اليوم ومعها توقعاته وهواجسه، وهي تشكل نظرته للأمور وتكوّن توجهاته وردات فعله تجاه الأحداث لأنه يتوقع من الحكومة سياسات بعينها تجاهها، ولا يخفى أن حالة الانكشاف هذه من ناحية وتداخل التأثيرات وصياغة المقارنات من ناحية أخرى تعيد توجيه ردات الفعل بمختلف صورها إلى حيث لا نتوقع أحياناً.

يوقن الكثيرون أن قصة نجاح جديدة لابد أن تنطلق مرة أخرى في عمان، وقصص النجاح الاقتصادي لا يمكن أن تحدث إلا بمشاركة قطاع خاص واع وبعيد النظرة، مؤمن بأن تأجيل الربح الضخم السريع لصالح إرساء نظام اقتصادي ومالي سليم هو الخيار الأجدى، وأنه هو الذي سيعود بالنفع مضاعفاً على الجميع، وأنه لا سبيل إلى قصة نجاح كبرى عبر نظام اقتصادي مشوه قائم على الجشع والاستغلال، وأن ردم الهوة وتعزيز الثقة بين أركان الاقتصاد الوطني أمر لا بديل عنه إذا أريد لقصة النجاح الكبرى أن تنطلق، خاصة وأن لدينا كل مقوماتها وعوامل تكونها، ولا بديل في ذلك إلا بتعزيز الثقة والشراكة الاجتماعية وبذل جهود حقيقية على الأرض لتبديد التصورات السلبية.

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

عطب المنهج وانتهازية القراءة .. تعليق على مقال نش بمجلة أثير الإلكترونية

عطب المنهج وانتهازية القراءة
تعليق على مقال: "قراءة في دراسات استشراقية حول المذهب الإباضي"
محمد بن سعيد الحجري
كاتب وباحث

   نشرت مجلة أثير الإلكترونية قبل أيام مقالاً للكاتب سعود الزدجالي قدم فيه قراءة لبعض كتب السلسلة المعنونة بــ: "دراسات استشراقية حول المذهب الإباضي"، فكانت قراءته قراءةً انتقائية لآراء المستشرق البولندي "تاديوش ليفتسكي" حول الإباضية، مخصصاً فقرات المقال لقضاياً منها ما هو متصل بآراء ليفتسكي وغيره من المستشرقين، ومنها ما هو متصل بنشر هذه الآراء؛ ويمكننا مناقشة وتفنيد تلك المقولات التي أوردها مقاله ــ مضموناً ومنهجاً ــ بسهولة لو كان المقام يتسع للتفصيل، غير أننا سنتوقف أمام فقرة نرى أنها هي الأولى بالنظر والتعليق من غيرها، نظراً لأنها تحوي خلاصة لرأي سعود الزدجالي واستنتاجاته، ولأنها كذلك مشبعة بخلل المنهج، ولما احتوته من أحكام ومزاعم قُصد منها أن تنشئ معنىً وتصوراً محدداً يريد الكاتب تمريره وإيصاله، وفي هذه الفقرة ينص قائلاً:

"وقد لوحظ على المسلمين الإباضية الأمازيغ الإيمان بكثير من الوثنيات، والعرافة، والنبوة المزعومة، وعبادة الشمس والقمر، والأوثان كما لاحظ ابن خلدون؛ فالأمازيغي مهما كانت انتماءاته المذهبية؛ فإنه لا يمكنه التخلي أو التنكر للأعراف والمعتقدات الدينية؛ وإذا كان شيء من هذه المعتقدات يتناقض مع التوحيد؛ فإنه لا بأس من إخفائها؛ لذلك فلا يستبعد أن تكون بعض الأساطير والقصص، وحكايات من قبيل حديث أوثان مازن بن غضوبة، وكرامات الأولياء، والشخصيات التي تولت الإمامة في عمان قد حيكت في فترة لاحقة تأثرا بكتابات الشماخي وغيره من إباضية الأمازيغ؛ لذلك فإن هذه القضايا تعد مادة خصبة للدراسة والتمحيص"

وفحوى هذه العبارة واضح لا يحتاج لتأويل، خلاصته أن بعض الإباضية يؤمنون بعقائد وثنية رغم وجود عقيدة التوحيد، وأن من أشكال هذه الممارسات الوثنية: عبادة الأوثان، والشمس والقمر، والعرافة، وادعاء النبوة، وأن هذه العقائد والممارسات يتم إخفاؤها إذا لزمت الحاجة؛ ولتأكيد قناعة الكاتب بهذا الزعم فقد رأى عدم استبعاد انتقال تأثير هذه المعتقدات الوثنية من إباضية المغرب إلى إباضية المشرق في عمان فظهرت مظاهر أخرى منها: كرامات الأولياء والأئمة العمانيين، والقصص الأسطورية، وقصة أوثان مازن بن غضوبة! إذن فلكل من مشارقة الإباضية ومغاربتهم نصيبهم من هذه العقائد والممارسات!!

وهذا المقطع من المقال المذكور الذي أوردته كاملاً هو نقطة الارتكاز التي يريد الكاتب الوصول إليها، وهو خلاصة ما أراد أن يقرره حول هذه القضية؛ ولمن قد يناقشنا بأن إيراده هو اقتطاع من سياق أو انتقاء لعبارة، نقول: بأنه خلافاً لما صُدِّر به مقاله بأن ما يرد فيه هو نقل من آراء المستشرقين الواردة في السلسلة، فإن هذه الفقرة بالذات ليست اقتباساً نصياً من آراء المستشرقين، وليست نقلاً من كتبهم، وليست تحليلاً لمقولاتهم الواردة في ثنايا المقال، ولكن هذه العبارة تملك استقلالية خاصة بها وتنشئ معنى جديداً، وتعبر عن رأي قائلها وتصوره تجاه الإباضية، بغض النظر عن مستنده في هذا الرأي، فالتلقي غير النقدي لآراء المستشرقين وقبول مقولاتهم دونما تمحيص هو خطأً مضاعف وليس عذراً لقائله، بل إنه هنا توظيفٌ لتلك الآراء وليس تحليلاً لها، هذا مع تأكيدنا أن العبارة الواردة تنشيء معنى مستقلاً ولا يقتبسها عن غيره.

لا أجد كلمة واحدة تَجَنَّينا فيها على الكاتب مع إصراره على ما ورد في هذه العبارة، وعدم وضعه أي مسافة تفصل رأيه عن المعاني التي قررها فيها؛ ولست هنا في معرض الرد والنقاش لهذه الترّهات، لأنه لا قيمة لها أصلاً، ولا تستند لأي مستند علمي يُحَلل ويُنَاقش ويُفَند بأدوات التمحيص العلمي، فذاك مقام علمي لم تصل إليه ولم تقترب منه، ولكننا نعلق عليها من جهة ونشير إلى عُوارها المنهجي من جهة أخرى.

فنقول هنا: إن الصبح لا يحتاج إلى دليل والشمس لا تحجبها الأكف، فالإباضية مذهب من مذاهب الإسلام القائمة على التنزيه المطلق لله ورفض الأشباه والأنداد، ولهم في ذلك نصوصهم الرئيسية الشارحة لمعتقدهم، ويستوي في ذلك مغاربتهم ومشارقتهم، ومن أراد الحقائق عاد إلى الأصول لا إلى سواها، والواقع تاريخاً وحاضراً شاهد على التمسك بلوازم معتقد التنزيه في التصورات الإيمانية، وتاريخهم كان رحلة دائبة من السعي إلى الحق والعدل، ورفض تقديس الأشخاص أحياءً وأمواتاً؛ ويكفي مثلاً مشهوداً أن تجدهم في الواقع مطبِّقين صارمين لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن القبور: "خير القبور ما درس"، وأجيالهم المتعاقبة لم تكن تعرف أين تقع قبور أئمتهم فضلاً عن تقديسها والتقرب إليها.

وإنه لمن العجب العجاب أن كاتب المقال حين طولِب عبر صفحته في "الفيس بوك" بأن يقيم الحجة على مزاعمه من كتب الإباضية أنفسهم، رفض ذلك قائلاً: إنه أمر لا يلزمه! بينما طالَب هو في المقابل من ينفون ذلك بإقامة الدليل على النفي! وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تقصد وإصرار، لا على حرص على الحقيقة وبحث عنها وتحر لها، فكيف يطالب من ينفي بدليلٍ على نفيه والأصل أنّ البينة على من ادعى؟! كيف والأصل براءة الذمة من الدعوى إلا بإقامة الحجة كما هي الأصول!

ومن الأدلة على هذا التقصد والترصد خلطه الفادح بين العقائد والممارسات الوثنية التي حكى ممارسة بعض الإباضية لها حسب زعمه، وبين مسألة كرامات الأولياء التي رأى أن وجودها في التراث الإباضي المشرقي العماني دليل على تأثير تلك العقائد الوثنية القادمة من المغرب!! والسؤال هنا هل ثمة مذهب أو مدرسة أو شعب من المسلمين يخلو تراثه المعرفي والاجتماعي من فكرة الكرامات؟! إن كل مذاهب الأمة وشعوبها بلا استثناء لديها إيمان بكرامات الأولياء، وهو موجود لديها تنظيراً وواقعاً، حتى مع المدرسة الأثرية صاحبة التأويل الحرفي لنصوص القرآن والسنة سواءً الأقدمون منهم والمحدثون!! فهل هذا الحضور للكرامات ناتج عن تأثيرات وثنية قادمة من هنا أو هناك؟؟!! ثم ما الرابط الذي يربط بين كرامات الأولياء وبين الممارسات الوثنية؟ وعلامَ هذا التعمد للخلط بين ما يتفق المسلمون على رفضه وبين ما هو موجود واقعاً عند طوائف الأمة جميعاً؟ أم أن كرامات الأولياء أخذت بعداً وثنياً لمجرد أنها موجودة عند الإباضية؟!

ومن الأدلة على تعمد الخلط وتقصد التشويه جعله من قصة أوثان الصحابي مازن بن غضوبة دليلاً على أثر الوثنية في التراث الإباضي المشرقي!! بينما هي في الحقيقة تجسيد لرفض الوثنية ولسقوط عقائدها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام أهل عمان الطوعي.

ومن الأدلة على حالة الترصد غير الموضوعي والانتهازية أن كاتب المقال احتفى بدراسة للمستشرق "موتيلينسكي" قائلاً: إنها أهم دراسة تبيح تتبع العادات الوثنية والخرافة، ومن ثم كانت مستنداً له في استنتاجه قبول الإباضية الأمازيغ بالعقائد والممارسات الوثنية؛ على حين أن "موتيلينسكي" لم يقتصر في حديثه على الأمازيغ الإباضية، بل تحدث ــ حسب رؤيته الأسطورية التي نرفضها ــ عن موقف الأمازيغ عموماً تجاه العقائد الوثنية سواء كانوا إباضية أم غير إباضية (تحدث عن الأمازيغ غير الإباضية في ذات الدراسة، انظر سلسلة دراسات استشراقية في المذهب الإباضي ج3، ص99، 108، 110، 111، 113، 115، 119، 120، 121، 123، 127، 128، 132) لكننا نجد الكاتب يركز حديثه على الإباضية دون سواهم ممن أوردهم "موتيلينسكي"!؛ ويواصل الكاتب حالة الترصد والخلط بزَجّه باسم "ابن خلدون" للرفع من قيمة العبارة التي أوردها، وللإيهام بأن "ابن خلدون" يؤيد هذا الاستنتاج الذي توصل هو إليه، بينما يجد المطلع على دراسة "موتيلينسكي" إلحاحه الشديد على معارضة آراء ابن خلدون وبعض المؤرخين المسلمين الذين أكدوا نهاية الوثنية عند الأمازيغ في مرحلة مبكرة عام 101هـ/719-720م، بل يكاد "موتيلنيسكي" يصرح بأن دراسته جاءت لإثبات خطأ ابن خلدون وغيره في نفيهم لوجود الوثنية (انظر دراسة موتيلينسكي في المرجع السابق، ص98، 99، 102، 106، 131) فعلام الزج باسم "ابن خلدون" وكلامه لا يدعم هذا الادعاء؟؟!!

إن قراءة الكاتب لهذه الدراسة بالذات تؤكد المشكلة المنهجية التي يعانيها في قراءته غير النقدية وشبه الاحتفائية؛ والمحصلة التي ننبه إليها هنا أن المشكلة لا تكمن في وجود أو معرفة الآراء الاستشراقية تجاه المسلمين، إذ علينا أن نعرف كيف يرانا الآخر وسنجد حتماً ما يوافق الحقيقة وما ينافيها، ولكن المشكلة تكمن في أدوات قراءتها وتحليلها والاستفادة منها من قِبَلنا دون عُقد الانحيازات المذهبية، وفي ضرورة فهم زاوية النظر والرؤية الاستشراقية المبنية على المنهج الأنثروبولوجي، والتي كثيراً ما تجنح إلى الغرائبية والتفسير الأسطوري للواقع (التفسير الميثلوجي) وهو ما كان حاضراً بقوة في دراسة "موتيلينسكي" التي احتفى بها كاتب المقال دون تبصّر وتمحيص؛ إن النظرة الاستشراقية توصلت حيناً إلى أن شعائر الحج هي بقايا من تأثيرات الوثنية! فهل سنسلم لهم بذلك أو نقبل منهم؟!

إن ذلك ينبهنا دائماً إلى ضرورة القراءة النقدية الحذرة التي تحكم على المدارس الإسلامية من خلال أصولها ونصوصها لا من خلال ما كتب عنها؛ وإذا كانت الأمة دفعت ثمناً باهضاً من وحدتها وتعايش أبنائها بسبب تسليمها لآراء كُتّاب الملل والنحل المسلمين طيلة قرون، فهل يعقل أن نسلّم اليوم لآراء المستشرقين دون حس نقدي وأدوات تحليل سليمة؟ّ!

وختاماً.. لا أجد ما أصف به تلك العبارة وما حوته مزاعمها وادعاءاتها وتلبيسها إلا أنها مجرد ترداد قديم لمقولات كُتّاب الملل والنحل الذين جنوا على الأمة المسلمة جناية خطيرة حين شوهوا صور كثير من فِرَقها ومذاهبها، دون أن يكلفوا أنفسهم البحث في أصول مخالفيهم ونصوصهم ليتثبتوا من مقولاتهم؛ فصرفت الأبصار عن مواطن الاتفاق المشتركة الواسعة إلى مواضع الخلاف، المصطنع منها والحقيقي! ولكن المدهش هنا أن يعاد تعبئة هذه المقولات المنتهية الصلاحية في عبوات جديدة تحاول أن تتزيّا بلغة البحث العلمي الحديثة؛ ما قد يؤدي إلى بعث موجة جديدة من تشويه تصورات المسلمين عن بعضهم؛ واللافت أيضاً أن علماء الأمة وأبناءها المخلصين من كل مذاهبها ومدارسها المحترمة قد بذلوا خلال العقود الماضية ويبذلون جهوداً جبارة لتجلية الصور المشوشة وكشف تزييف الحقائق وتصحيح التصورات المغلوطة، والبناء على المشترك بين أبناء الأمة الواحدة، لكن هذه الجهود المباركة تحرج البعض وتكشف مواقفه فلا يرتضيها ويشغب عليها، ويسعى من جديد لإعادة التاريخ إلى الوراء، وتكريس تلك الصور المنتحلة التي مزقت الأمة وصنعت بينها الشقاق والتصدعات.

والأمر الآخر الذي لابد من التوقف أمامه بكثير من التأمل والفحص هو أن نتساءل لمصلحة من يأتي ترداد هذه المزاعم بأن لدى الإباضية عقائد وممارسات وثنية بأشكال متعددة، وأنهم يخفونها أحياناً؟؟؟ لمصلحة من؟ 

ألا يصب هذا الزعم وهذا الإدعاء في صالح التكفيريين واللّافكر التكفيري الذي يجد رواجاً اليوم، وتنشط له جهات وتنظيمات؟؟ ألا يوزع التكفيريون اليوم أحكام الإخراج من الملة بالمجان على خصومهم تحت أوهى الذرائع وبأدنى الأسباب؟! فكيف نقدم لهم اليوم مادة لمزيد من التكفير والغلو، قادمة من ضلالات الأوهام والقراءة غير الواعية لآراء بعض المستشرقين؟

لمصلحة من يعاد رسم الصور المشوهة؟

لمصلحة من تُهْدم جهود التقارب والتعارف بين أبناء الأمة؟

لمصلحة من سيجد الخطاب التكفيري مدداً لذرائعه وأوهامه؟!

الثلاثاء، 15 أبريل 2014

ندوة تطور العلوم الفقهية.. خطاب للأمة وللعالم

ندوة تطور العلوم الفقهية.. خطاب للأمة وللعالم 

محمد بن سعيد الحجري 
جريدة عمان، الثلاثاﺀ 15 جمادى الآخرة/ 15 أبريل.

انقضت في الأسبوع الماضي الدورة الثالثة عشرة من ندوة تطور العلوم الفقهية، والتي ارتكز محورها الرئيس هذا العام على "المشترك الإنساني والمصالح"، بثمانية محاور فرعية وعشرات أوراق العمل والأبحاث، وبأجواء يسودها الدفئ وتغشاها المودة وتحفها السكينة، السكينة التي يبحث عنها عالمنا العربي والإسلامي خلال السنوات الماضية، ولم يبق لها موئل إلا في مثل هذه اللقاء الجامع لكل أطياف الأمة ومذاهبها ومدارسها.

كان بصحبتي ضيف عزيز في أيام الندوة هو الدكتور وليد فكري فارس مدير المعهد العالمي للوحدة الإسلامية في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، حاضراً الندوة للمرة الأولى، والذي التفت إليّ قائلاً بدهشة: إن هذه الندوة هي المكان الوحيد الذي أرى فيه كل المذاهب الإسلامية حاضرة ومشاركة.
وحين التقيت بآية الله أحمد مبلغي، وهو أحد علماء حوزة قم ومن ضيوف الندوة الدائمين، فأثنيت على كلمته المميزة في حفل الافتتاح رد علي: بأن ما سمعتَه هو توفيق من الباري جل وعلا لكنه توفيق يتنزل في بيئة ومناخ يرحب بهذا التوفيق الإلهي.
وبين الكلمتين أجدني أقف لأستذكر الدورات الأولى من هذه الندوة التي راحت تتطور من عناوين ذات طابع يتصل بالدراسات الفقهية العمانية، فانداحت لتصبح موسماً سنوياً جامعاً يتسع للدراسات الفقهية الإسلامية بكل تنوعها وثرائها، فرسّخ تقاليد علمية وفكرية في البناء على محاور دراسة محددة، لكن من زوايا نظر واسعة تضم إلى جانب مناهج الاستدلال والاستنباط الفقهي مناهج أخرى في الاقتصاد وعلم الاجتماع وعلوم السياسة والتاريخ وتاريخ الفكر، إضافة إلى تقاليد علمية تتصل بالمناقشة والمداولة ودراسة الأفكار.
كل ما أشرت إليه مهم إلى حد بعيد خاصة في باب إرساء وترسيخ سنن وقوانين الحوار العلمي الداخلي بين أبناء الأمة الواحدة، لكنه من ناحية أخرى ثبت مبادئ قيمية تشتد حاجة الأمة لها خاصة في هذه المرحلة من مراحل التاريخ التي تصل فيها الاستقطابات الطائفية إلى أوجها، ويراهن الكثيرون على أن لا مساحة وادعة مسالمة يمكن لعلماء الأمة أن يلتقوا فيها جميعاً دون إقصاء أو تمييز، ويراهن آخرون على أن العقد المنفرط لا جامع يجمعه ولا ناظم لتفرقه.
إن عمان أضحت يوماً بعد يوم، وسنة بعد سنة ترسخ هذه القيمة، وتبدد ذلك التصور الموهوم بعدم اللقاء، وبرهان ذلك ما نراه من مضي ثلاث عشرة دورة من دورات هذه الندوة بهذا النجاح والتوسع، وهي تضم مع توالي دوراتها وجوهًا مألوفةً ثابرت على المشاركة في الندوة منذ انطلاقها، مع وجوهٍ جديدة تنضم إلى ركب المشاركة وتوسع دائرة الحوار ومعها تتسع قاعدة البناء.
إننا نرى من علماء الأمة ومفتيها أهم الأسماء وأكثرهم نفوذاً وتأثيراً من أواسط وشرق أوربا وإلى أعماق أفريقيا، ومن شرق آسيا والعالم الإسلامي إلى غربه، وما كان هؤلاء ليلتقوا على مائدة واحدة، وعلى مادة حوار واحدة إلا ثقة بعمان وقيادتها ومؤسساتها، واطمئناناً إلى أرواح أهلها التي تنطوي على الخير للأمة ولأبنائها جميعاً، دون تسيس أو استغلال، وبعيدا عن ركوب موجة الانحيازات العمياء المدمرة، وقياماً بأمر الله بالاعتصام بحبله وعدم التفرق أولاً، وخدمة لأهم الفروض وأولاها في هذه المرحلة بإعمال الفكر والنظر وفتح مسالك المعرفة والوعي.
ناقشت الندوة هذا العام محوراً مهماً، لا نكاد نجد له في خطاب المسلمين وجوداً إلا في هذه الندوة وهو(فقه المشترك الإنساني والمصالح) الذي ينفتح على أطياف البشر جميعاً ويتكئ على أسس الجوامع الإنسانية العامة وكيف تقدرها الشريعة وكيف تتعاطى معها، ومن وراء ذلك محاور فرعية تتعلق بالعدالة ونظرية المساواة، وحقوق الإنسان في الإسلام والمواثيق الدولية، الذي درس عدداً من المواثيق الدولية من زاوية نظر فقهية، والعلاقة بين الفقه الإسلامي والقوانين العالمية الذي استعرض نماذج لقوانين عدد من أمم العالم وكيف أثر الفقه الإسلامي في صياغتها، وكيف صنع الفقه الإسلامي علاقة جدلية مع تراث الفقه العالمي.
ومن هذه المحاور تتفرع عناوين لدراسات وأبحاث مثيرة وثرية ومميزة، وضع الكثير منها على بصيرة من العلم والشعور بالمسؤولية تجاه العالم؛ هذا العالم الذي طالما تغنينا بأنه ينتظر البديل وأنه يبحث عن الخلاص!، ولا أزال أذكر ذلك النقاش العميق حول مبدأ الكرامة الإنسانية بين جمع من العلماء والباحثين المخضرمين والذي قاد إليه أحد محاور الندوة حول "السياسة الشرعية وفقه المشترك الإنساني" والذي انتهى إلى تثبيت حقيقة أن الكرامة متحققة لبني الإنسان من حيث كونهم بشراً أولاً بنص الكتاب العزيز "ولقد كرمنا بني آدم"، وأن تفاوت الناس بعد ذلك أمام الله في مراتب الإيمان والفضيلة.
إن مثل هذه المنطلقات الإيمانية المنفتحة على خير البشر جميعاً باعتبار أن المهمة الخالدة لرسول الإسلام هي ما حدده الله بقوله :"وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين"، هذه المنطلقات التي تصدر عن مبدأ الخير العام وحق الإنسان في الكرامة والعدالة والحرية والمشاركة، هذه المنطلقات هي التي يمكن أن تهيئ لخطاب بديل، يصلح الخلل أولاً في وعي المسلمين ذاتهم بالدين، قبل أن نقدمه للعالم، لنمتلك نحن المسلمين أولاً الحد الأدنى من المصداقية حين نتحدث عن الكرامة والحرية والعدالة والشورى وحق المشاركة وحقوق الإنسان، هذه العناوين الكبرى التي تولّى غيرنا التبشير بها في العالم؛ وأقول إننا نحن المسلمين أولى بإعادة الوعي بها ليس لأن مصداقيتنا تجاه العالم تقوم عليها فحسب، بل لأن هذه القيم الكبرى انتهكت بين أبناء المسلمين ذاتهم إلى أقصى حدود الانتهاك، فكيف سنتحدث عن الإخاء الإنساني ومن أبناء المسلمين من لم يعترف بالأخوة الإسلامية؟! أو ضيقها إلى الحد الذي لم تعد فيه متجاوزة لأخوّته لنفسه!!، وكيف سنتحدث عن الكرامة الإنسانية إلى العالم وبعض الأفكار التكفيرية الضيقة تبحث عن أدنى ذريعة للفتك بالإنسان المسلم قبل غيره، وتستحل دمه وماله وعرضه عند أدنى مستوى من مستويات الخلاف سياسياً كان أم مذهبياً؟! 
إن هذه الندوة الجامعة التي ألّفت علماء المسلمين في مقام واحد، هو مقام المسؤولية الإلهية تجاه الأمة وتجاه العالم هي التي يمكن أن تصنع بمثابرتها وجهدها ذلك البديل وتبشر بدعوة الخير، وما ذلك لأن التنظير وإطلاق الخطابات سهل! بل لأن المناخ الذي تحط فيه والبيئة التي تأوي إليها بيئة اختارت أن تجمع ولا تفرق وتؤلف ولا تشتت، فلم تسهم إلا بكلمة الخير، ومساعي السلم، وداعي البر، وتلك أكبر مراتب المصداقية والمسؤولية في أن يصدق العملُ القولَ، وتلك هي القاعدة الصلبة التي تقول للعالم إن المسلمين لهم نماذجهم الخيرة التي يقدمونها للعالم مثلما يقدمون خطابهم له.

الأربعاء، 8 يناير 2014

مُطلق المطيري، وجهة نظر الحقائق التاريخية، تعليق على مقال جريدة الرياض السعودية.

مُطلق المطيري 
وجهة نظر الحقائق التاريخية
تعليق على مقال جريدة الرياض السعودية.
محمد بن سعيد الحجري، جريدة الرؤية، الخميس 9 يناير 2014م.

ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي منذ أسبوعين مقال حول شخصية القائد السعودي "مطلق المطيري" الذي غزا عمان في الربع الأول من القرن 13 الهجري مطلع القرن 19 الميلادي، وقتل في "بديّة" في ذي القعدة 1228هـ/ نوفمبر1813م، وقد قدم مع رابط المقال في جريدة الرياض إشارة إلى أنه حول "مقتل مطلق المطيري من وجهة نظر سعودية"، وكاتب المقال هو مساعد بن فهد السعدوني، وقد تواردت عليّ عدد من التساؤلات وطلبات التوضيح حول ما تضمنه المقال من مغالطات وخلط؛ وهنا أضع عدداً من الملاحظات على المقال ليطمئن القراء إلى أن رواية الأحداث التاريخية لن تترك لطرف واحد ليملي تصوراته حول حدث تاريخي ما، وأن البحث والتقصي التاريخي سيضعنا أمام صورة الأحداث كما وقعت لا كما يحاول البعض أن يصورها لهوى في نفسه.


أولاً لابد من تبيان أن المقال قديم نسبياً حيث نشر في جريدة الرياض قبل سنوات، ولكنه لم يتداول بهذا الانتشار إلا مؤخراً عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وفي سياق ما نشهده من سجال إعلامي بسبب تطورات الأحداث، وإيراد مثل هذه المقالات وإعادة توظيفها في هذه الأيام هو جزء من حملة إعلامية مؤسفة أثارتها أبواق إعلامية ممولة وتابعة، ولذا نجدنا ملزمين بتوضيح الحقائق أمام محاولات تشويهها، لتظهر الحقيقة أمام الدعوى، أو الرأي أمام الرأي على الأقل.

إن شخصية مطلق بن محمد المطيري شخصية مهمة مثلت في مراجع التاريخ السعودية والعمانية بل ومع باحثي التاريخ المستقلين أهم قائد سعودي أرسل إلى عمان ولعله أهم قائد سعودي في الجزيرة العربية بأسرها في تلك المرحلة، ومثلت تدخلاته وغزواته ذروة المحاولات النجدية للتدخل في الشأن العماني سواء عسكريا أو عبر اللعب على الخلافات الداخلية العمانية، ورغم أنه لا مجال هنا لتفصيل قدراته وإمكاناته العسكرية خاصة قدراته على تجييش القبائل من ناحية وإرهابها من ناحية أخرى، إلا أن الواقع التاريخي يؤكد أنه أهم وأكفأ قائد سعودي بعث إلى عمان مع ملاحظة أن المقصود بعمان هنا الإقليم العماني التاريخي الذي يضم عمان الراهنة مع كافة الأراضي الشمالية حتى قطر المسماة تاريخياً بـ "ساحل عمان" والتي هي اليوم دولة الإمارات العربية المتحدة، وبرهاناً على أهمية مطلق المطيري السياسية والعسكرية فإن مراجع التاريخ تؤكد أن الدولة السعودية الأولى لم تستطع تعويض خسارتها بعد مقتله بأي قائد آخر يقوم مقامه أو يسد مسده.

وتعود المحاولات النجدية لمد النفوذ والتدخل في الشأن العماني إلى بداية القرن التاسع عشر الميلادي، وقد توالت الجهود للتصدي لهذه التدخلات منذ مؤتمر بركاء الذي عقده السيد سلطان بن أحمد البوسعيدي، وحتى عهد السيد سعيد بن سلطان والصدامات الضارية في عهده ثم عهد السيد ثويني من بعده وصولاً إلى عهد الإمام عزان بن قيس ومعركة البريمي في (1286هـ/1869م)، ثم ما عرف بقضية البريمي(1952-1955م) في عهد السلطان سعيد بن تيمور، ويمكن القول بأنها وصلت ذروتها على يد مطلق المطيري بين عامي (1222هـ/1807م-1228هـ/1813م).

ورغم حفاوة واهتمام المراجع السعودية و"المتسعودة" بشخصية "مطلق المطيري" باعتباره القائد الأبرز إلا أن أهمها وهو "عنوان المجد في تاريخ نجد" لـعثمان بن بشر تجنب الخوض في تفاصيل مقتله وهزيمة جيشه في بديّة عام 1228هـ/1813م مكتفياً بالحديث عن قتله وعدد من رجاله، ولم يتطرق للآثار الكبرى لمقتله وهزيمته، والتي كانت منعطفاً مهماً تراجع بعدها النفوذ السعودي؛ بل إن بعض المراجع الأخرى كانت تبرر الهزيمة وتخفف من أهميتها قصداً إلى إظهار المعتدي بمظهر المنتصر دائماً، وأن الهزيمة كانت عثرة عابرة؛ بينما نجد المراجع التاريخية غير السعودية وغير العمانية عربية وأجنبية تؤكد أن مقتله كان صدمة كبرى وخبراً صاعقاً وحدثاً محورياً كان سبباً رئيسياً لتراجع النفوذ السعودي كما يؤكد ذلك د.جمال زكريا قاسم في كتابه "دولة البوسعيد في عمان وشرق إفريقيا" ود.محمد مرسي عبدالله، في كتابه "إمارات الساحل وعمان والدولة السعودية الأولى". 

وللتخفيف من وقع الهزيمة تحاول بعض الكتابات ومنها المقال المذكور الإيحاء بأن مقتل مطلق وهزيمته كان غدراً أو مباغتة من السيد سعيد بن سلطان، أو من قبيلة الحجريين التي تولت قتاله، ولذا نجد صاحب المقال يقدم خلطاً عجيباً بين الأحداث والروايات، ويرتكب أخطاء فادحة في ترتيب الأحداث وتحديد أماكن وقوعها، مع مزج لروايات المعركة المتعددة!

إن صاحب المقال مثلاً يجعل معركة "الواصل" نتيجة مباشرة لمعركة "شناص"، قائلا إنها وقعت في "منح"، والحق أن بينهما أمد زمني غير قليل يصل إلى أربع سنوات فقد وقعت معركة "شناص" في 1809م، ثم كانت بعدها معركة "نخل" ثم وقعة "إزكي"، وهذه الأحداث كلها سابقة بمدة غير يسيرة لمعركة "الواصل" التي وقعت في "بديّة" نهاية 1813م، أما منح التي ذكرها الكاتب فلا علاقة لها بالأحداث سوى أنها كانت في طريق حركة الجيش الغازي.

وتتضافر المراجع التاريخية والرويات الشفهية على أن مقتل مطلق كان هدفاً لأهل بديّة قبل عام من الحدث عند مروره الأول بهم، فقد استقر رأيهم من يومها على أن لا مجال لقبول صولته وقتله ونهبه للعمانيين وانتهاكه للأرض العمانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لابد من التأكيد على أن غزوته لبديّة لم تكن مروراً عابراً كما صور صاحب المقال، بل كانت بديّة هدفه الرئيسي من الغزوة التي انطلقت من البريمي في ذي القعدة عام 1228هـ قاصدة بديّة على وجه التحديد، وعلى ذلك فإن قتاله ومقاومته كانت كذلك عملاً حربياً مخططاً ومتقناً، يشبه ما يعرف بعمليات القوات الخاصة في العصر الحديث.

وتوضح ملابسات المعركة كما رواها بتفاصيلها ابن رزيق نقلا عن أحد المشاركين فيها من جيش مطلق أن كفة القوى العسكرية كانت ترجح لصالح مطلق وجيشه، ولكن التصميم القتالي لأهالي بديّة والروح الاستشهادية، واختيار اللحظة المناسبة للهجوم جعلت منها معركة متكافئة دفع فيها أهل بديّة بشهداء أكثر من قتلى الغزاة في أوان المعركة نفسها، ثم كانت هزيمة الجيش الغازي بعد مقتل قائده سبباً في العدد الكبير لخسائره التي تحدثت عنها المصادر العمانية وبعض المصادر النجدية الهوى ككتاب "عقود الجمان في آيام آل سعود في عمان" لعبدالله المطوع.

وهذه الرواية الأكثر تفصيلاً ودقة لقصة المعركة عند حميد ابن رزيق في كتابه "الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين" تحدثت عن حملة منظمة وحشود حركها مطلق قاصداً بها مهاجمة شرقية عمان إذ يقول: "فمضى بالقوم يريد شرقية عمان، فأحث السير، فلما وصل إلى منح لم يمكث بها إلا بقدر ساعتين من النهار، فأطعم دوابه في تلك الساعتين، ثم ركبها فأحث السير إلى بلدان الحجريين" ثم يروي ابن رزيق الأحداث بلسان بعض من حضرها من جيش مطلق نفسه، وملخصها أن جيش مطلق وصل إلى بديّة وصبحها عند طلوع الشمس جاعلاً معسكره في "الواصل"، وأنه مع بداية الغارات التي شنها جيش مطلق على قرى بديّة انعقد عزم أهلها على الهجوم عليه مهما كلف الأمر، نصراً أو شهادة، فيقول: "تعاهدوا عليه وتقاسموا بالله، أنهم لا ينثنون عنه أو يقتلون"، ثم تحدث ابن رزيق عن ست جولات من الهجوم على جيش مطلق، استهدفت الموجات الثلاث الأولى منها معسكر أخيه بتال بن محمد المطيري حتى تمكنوا من هزيمته واحتلال معسكره، ثم استهدفت الموجات الثلاث الأخرى من الهجوم معسكر مطلق نفسه، موضحا أن مطلق تمكن من صد الهجمتين الأوليين منها، بينما انتهت الهجمة الثالثة بقتله وهزيمة جيشه؛ ويذكر الراوي ــ وهو من جيش مطلق ــ حالة التصميم والعزم على القتال حتى الموت بعبارات تنضح إعجاباً واندهاشاً إذ يقول عن الهجمات الثلاث الأخيرة: "ثم إن الحجريين ركضوا على مطلق مرتين، فانكسروا عنه، وانضاف إليهم بعض جماعتهم من قراهم المتفرقة، فتعاهدوا عليه، لا ينثنون عنه أو يقتلون"، ثم يتحدث عن الهجوم الأخير الذي انتهى بمقتل مطلق واصفا ما رآه من تصميم وعزم المهاجمين: "أتونا يتدافعون بالأكف ويعربدون عربدة السكارى"، ثم يأتي على ذكر أعداد القتلى من الفريقين حسب روايته.(ابن رزيق،الفتح المبين،ص459-460).


وإلى جانب المشهد الذي يرسمه ابن رزيق يضيف التاريخ المروي نشيد الحرب الذي كان ينشده المقاتلون وهم يهاجمون الجيش الغازي مرددين:
يا حي يا قيوم
يا مفرج الهموم
فرج علينا ساعة
يوم النسور تحوم
نتبع ثواري القوم 
وسيوفنا قطاعة

ويذكر ابن رزيق أيضاً أن السعوديين بعد مقتل مطلق جهزوا حملة انتقامية ضخمة بقيادة "عبدالله بن مزروع" الذي عين قائداً جديداً من قبل "الدرعية"، وكان هدف الحملة بديّة تحديداً، للأخذ بالثأر من قتل مطلق، إلا أن السيد سعيد بن سلطان استطاع أن يتصدى لها ويوقفها في "بهلاء" بعد أن جمع لها القبائل العمانية، هذا فضلا عن الغزوة الانتقامية التي قام بها ابنه سعد بن مطلق في عام 1250هـ/1835م على بديّة والتي تصدى لها أهل بديّة وهزموها.

إننا عندما نقول بأن مطلق المطيري كان قائداً مهماً فإننا نعني ما نقول بالمعايير السياسية والعسكرية، وبنتائج مقتله على المستوى السياسي والعسكري، لا باعتبار البطولة التي حاول المقال أن يسبغها على مطلق، وذلك تماما شبيه بما يقوله الشاعر العربي عنترة العبسي:
ومدجج ٍكـره الـكمـاة نزالـه * لا ممعن ٍ هرباً ولا  مستسلمِ
    جادت يداي له بعاجل طعنةٍ * بمثقف صدِقِ الكعوب مقومِ

فالأهمية السياسية والعسكرية لمطلق المطيري باعتباره قائداً لا تعني أنه بطل من أنماط الأبطال النبلاء كما حاول المقال أن يصوره بأنه بنى القصور وفتح الطرق ووطد الهيبة، إذ لا ترصد له المصادر المحايدة عملاً نبيلاً واحداً من أعمال البطولة تلك التي زعمها المقال، وكل ما رصدته له كتب التاريخ هي أعمال السلب والنهب والقتل وسفك الدماء وترويع الآمنين إلى حد القضاء على قرى بأكملها كما حدث مثلاً في قرية "صيا" بين مسقط وصور التي أباد أهلها عن آخرهم تقريبا، ويمكننا أن نلاحظ أمثلة من خارطة الإجرام والقتل والنهب والتدمير في المناطق التالية التي كانت مساراً لإحدى غزواته: مطرح، وحيل الغاف، وصيا، وطيوي، ورأس الحد، فقد أوقع في هذه القرى والبلدات وفي غيرها من القتل والنهب ما سجلت بشاعته كتب التاريخ العماني وفاخرت ببعضه كتب التاريخ النجدي!! (انظر مثلا: ابن بشر،عنوان المجد في تاريخ نجد ج1، ص306)

هذا فضلاً عما أصاب القبائل الشمالية من تأليب بينها ومن تسلط لم يسلم منه حتى الزعماء والشيوخ كسلطان بن صقر القاسمي مثلا، إضافة إلى ما قام به جيشه من تخريب في وادي بني رواحة وإزكي التي وصل فيها الأمر إلى حد إحراق المكتبات وإتلاف الكتب! وما قام به بعض عماله وأتباعه من قتل للأبرياء وتنكيل بالناس كما حدث في "شناص" مثلاً، هذا ما رصدته مراجع التاريخ عن مطلق.

وبملاحظة بسيطة لأماكن هذه القرى التي شملها القتل والدمار والنهب والسلب وترويع الأبرياء سنعرف بأن هذه الأعمال الإجرامية شملت جميع العمانيين بكافة مذاهبهم ولم تستثن أحداً منهم!!

واللافكر التكفيري هذا مسلكه المشهود مع كل ما يخالفه ولو في بعض التفاصيل، ولذا فإننا لا ندهش من قول صاحب المقال بأن أهالي شمال الباطنة من عمان بايعوا مطلق "على دين الله ورسوله"، وأنه أخذ الغنائم من صحار ليبعثها إلى الدرعية، فهذا هو ديدن التكفيريين مع مخالفيهم! وكأن عمان التي دخلت الإسلام طوعاً وساهمت بنشره في العالم، وشهدت به وأعلنته دينها الرسمي قبل أن تدخله مكة المكرمة، في حاجة لأن يعيدها للإسلام غاز قادم من بوادي نجد يعتقد بكفر كل من خالفه!!

إن من المتوقع أن يتحدث كاتب المقال عن مطلق المطيري بوصفه بطلاً وشهيداً فهذا هو مسلك أهل الهوى والتعصب المنحازين، أما الحقائق التي تبينها المراجع كافة عمانية وسعودية وعربية وأجنبية تؤكد أن سيرة مطلق المطيري هي سيرة مجرم حرب بامتياز، والذكرى التي تركها في عمان لا تشمل عملاً نبيلاً واحداً يستحق الثناء والفخر، بل إن المؤرخين المحققين كجمال زكريا قاسم في كتابه "تاريخ الخليج" يؤكد أن مطلق المطيري أبرم مع القائد الإنجليزي "ليونيل سميث" اتفاقية عدم اعتداء عام 1809م تنص على عدم التعرض للإنجليز وسفنهم أو الرعايا التابعين لبريطانيا، وهي اتفاقية دعمت برسالة من "الدرعية" وفتوى دينية بأن الإنجليز أهل كتاب وجهادهم غير واجب على المسلمين!!(تاريخ الخليج،ج1، ص251).

ومن وجهة نظر عمانية تلتزم الحق فإن التصدي لمطلق كان عملا ًبطوليا ًدفاعيا ًأدى حق الله والوطن وناضل بإرادة وعزم حاسم عن عمان وعن أبنائها جميعاً، وتمكن من دحر أقصى درجات الخطر على استقلال الوطن، وهو ما لاحظته المراجع العربية والأجنبية على السواء، فكتاب (عمان والساحل الجنوبي للخليج الفارسي) الذي صدر عن شركة الزيت العربية الأمريكية(أرامكو) تحدث باندهاش عن هذا الحدث في معرض دراسته للقبائل العمانية قائلا: "وأعظم آية للحجريين في الأزمنة الحديثة هي انتصارهم في عام (1228هـ/1813م) على قوات نجد التي كانت بقيادة مطلق المطيري، وهو الذي أرسى دعائم سلطة الموحدين في عمان، وقد فقد مطلق حياته في القتال مع الحجريين"(عمان والساحل الجنوبي، ص137-138)، أما جمال زكريا قاسم الذي يؤكد أن مطلق المطيري "كان - كما تقرر الوثائق السعودية - أقدر سياسي وأكفأ قائد ظهر في تاريخ الجزيرة العربية في خلال تلك الفترة" فإنه يرى أن مقتله خلص عمان من غاز اعتمد سياسة رعب وتخويف، فلم تستطع الدولة السعودية بعد ذلك تعويض خسارتها لهذا القائد (دولة البوسعيد في عمان وشرق إفريقيا، ص151)، ويرى محمد مرسي عبدالله أنه بعد أن "أراد مطلق المطيري أن تحس عمان رهبة القوات السعودية مرة أخرى" فإن "قتل مطلق المطيري أواخر عام 1813م على يد قبيلة الحجرين" هو أحد ثلاثة أسباب رئيسية أدت إلى أفول النفوذ السعودي في عمان (إمارات الساحل وعمان والدولة السعودية الأولى، ص231، 222-232).

وهذا ما عبر عنه الشاعر الشعبي العماني "المطوع" عامر بن سليمان الشعيبي عندما قال في حق بديّة وأهلها:
"تفرسن ياللسان هرجتك بدروبي
 كلمتك ميزان بين العالمين
دار من زمان كاسب ومكسوبِ
روّفت بـ عمان روف الوالدين"

سلام على الشهداﺀ
سلام على الأوفياﺀ

المصادر: 
*حميد بن محمد بن رزيق، الفتح المبين في سيرة السادة البوسعيديين.
* ج ج لوريمر، دليل الخليج .
* د.جمال زكريا قاسم، دولة البوسعيد في عمان وشرق إفريقيا.
*د.جمال زكريا قاسم، تاريخ الخليج.
*عبدالله بن حميد السالمي(الإمام نور الدين)، تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان.
* عبدالله المطوع، عقود الجمان في أيام آل سعود في عمان.
* عثمان بن بشر، عنوان المجد في تاريخ نجد.
* علي بن سالم الحباسي الحجري، الأمهات الصالحات(مخطوطة).
* د. محمد مرسي عبدالله، إمارات الساحل وعمان والدولة السعودية الأولى.
* مجموعة مؤلفين، عمان والساحل الجنوبي للخليج الفارسي،  صدر عن شركة الزيت العربية الأمريكية.