الاثنين، 1 سبتمبر 2014

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!
محمد بن سعيد الحجري
جريدة الرؤية 7/ذو القعدة/1435هـ - 2/سبتمبر/2014م
"فتحت عيني فرأيت غافلاً
يحمله  السيل  وليته  درى
ونائماً   والنار  في  جثمانه
كأنه جزل الغضى وما وعى!!"
الشاعر العماني أبو مسلم الرواحي (ت1920)


خلال الشهرين الماضيين وصلت كثير من الاستحقاقات إلى غاياتها ونتائجها، وهي تعاظم من حقيقة أننا شهود على مرحلة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين، وإذا كان أبرز ما فيها ما وقع ويقع في فلسطين والعراق وما يثيره من تفاعلات سياسية وفكرية وثقافية، فإن هذه التفاعلات لا تتجلى حقائقها كلها في لحظة وقوعها حيث الغبار الإعلامي يتصاعد ليحجب الرؤية أكثر من أي مرحلة مضت في التاريخ، ولذا فإن قراءة المشهد وتحليله سيتطلب من مفكري هذه الأمة جهوداً مضنية لتفكيك كل هذا التعقد والتداخل الذي ألغى كل ما تبقى من "وهم البساطة" الذي يتلقفه الناس في الظاهر.
إن تحليل ما جرى خلال المائتي عام الماضية تطلب لفهمه الكثير من الوقت والجهد، وعشرات السنوات من البحث والتمحيص خاصة وأن الأحداث في حقيقتها لم تكن تصنع على مسارح وقوعها في الشرق بل في مواقع أخرى يُنتظر لتفصح عن محجوبها علّنا نفهم ما يجري بعد أن يفوت الأوان ويستقر الواقع على هيئته، والأمر لا يختلف كثيراً الآن، بل إن الحالة الفكرية والسياسية واختراق الوعي بالطائفية المذهبية والسياسية يعطي فرصة أوسع للتحكم والتوجيه واللعب بالتناقضات، ووسط كل هذا "الهرج والمرج" يفضل الكثيرون تفسيراً بسيطاً للرواية متناسين كل التراكمات التاريخية، الحقيقي منها والمشوه، ومحيدين حقيقة أن هناك أعداء لهذه الأمة يتربصون بها، أو مستسلمين لأحقادهم وأوهامهم الطائفية التي تقسم العالم بسذاجة إلى معسكري نحن والآخر.
الفوضى الإعلامية كما أنها تسبب حالة التعقيد هذه فإنها تعطي الفرصة للكشف كذلك، ولعل هذا ما يعزي كل مشفق على هذه الأمة مما تساق إليه، فالتعويل الآن على الوعي، وعي الأنظمة السياسية ووعي الشعوب ووعي المؤسسات ووعي القيادات أمام حالة الغيبوبة العاصفة التي يراد لهذه الأمة أن تدخلها، لتؤجل كل أسئلة النهوض التي حملتها طوال أكثر من 100 عام ماضية، ولتأتي بدلاً منها أسئلة الحد الأدنى في البقاء والحياة، وهو تراجع حضاري هائل على مستوى الأمة سيتجادل الكثيرون في تحميل المسؤولية فيه، لكن الأنظمة السياسية ستتحمل فيه مسؤولية أكبر ولاشك، وبرهان ذلك أن وعي بعضها جنب شعوبها هذه المزالق الخطيرة التي تمضي إليها الأمة.
أقول هذا بين يدي الحدثين الكبيرين وفاء للحقائق الكبرى التي تغيب الآن وسط كل هذه الحالة من الظلام والعتمة، لأن ما يتوفر لكل المحللين والدارسين لا يعطي بصيصاً للثقة بأنه وهم أم حقيقة ليُعتمد عليه في قراءة المشهد خاصة وأن مستقبل شعوب عربية شقيقة كانت علامة على التنوير يغدو اليوم ضبابياً وغامضاً أكثر من أي وقت مضى!
واستناداً إلى الوقائع والأحداث فإن الله لم يُرد لنا أن نكون خلال الشهرين الماضيين أمام نموذج الظلام والفتنة وحده، فنُفْتن ويُفْتن أجيال من شبابنا لا نعرف ما يعتمل في صدورهم اليوم وهم يرون تمزق واقع أمتهم وتشويه دينهم وتدمير إيمانهم بأمة واحدة، فقد شاء الله أن لا يترك مثال الشر يفرض نفسه دون أن يظهر بإزائه مثال الحق لنستبين نتائج الأمرين ولنعي جذور الظواهر التي نراها اليوم، فبإزاء نموذج العنف العبثي والثأر الطائفي والقتل المجاني وكل صور البربرية والإجرام وقف نموذج آخر في أبهى حالات شموخه ونصاعته ووضوح هدفه، فالجهاد في فلسطين ومقاومتها الشريفة أمام آلة البطش والعدوان هو النموذج الذي أقام الحجة على جميع المفتونين والحائرين والمضلَّلين والعابثين بالأحقاد، فكما أن هدفه واضح فإن عدوه واضح مجمع على عداوته، ولذا فإن هذا الكفاح سواء في أهدافه أو في تضحياته الكبرى أو في تكتيكاته المبدعة لم يُعد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث العالمية ومحور الاهتمام الدولي فحسب، بل وأعادها إلى عقول وقلوب العرب والمسلمين بعد أن غيبتها الحروب الطائفية والخصومات السياسية، وأكد حقيقة انتهاء عصر الانتصارات الإسرائيلية، وحافظ على وحدة الصف الفلسطيني مع كل تعقيدات الموقف السياسي، وأجبر إسرائيل على التفاوض وقاوم سياسياً كما قاوم عسكرياً عبر فريق تفاوضي واحد؛ وفوق ذلك كله أليس آية أن تجمع أحداثُ غزة كلَّ ذي فطرة سليمة في هذا العالم دفاعاً عن قضيتها وعن كفاحها الذي يستحق الدعم وتجب له المآزرة بما في ذلك حتى بعض المنظمات والشخصيات اليهودية، بينما يقف العالم بأسره وكل ذي عقل وإنسانية رافضاً ومنابذاً لجنون العنف التكفيري وعرّابيه الطائفيين؟!
إن من العجب أن تقدم أمتنا هذين النموذجين المتباينين في الوقت نفسه!، نموذج الإرادة والحياة والحق، ونموذج الظلام والكراهية والموت!!؛ وهذان النموذجان -وغيرهما في ميادين الحياة الأخرى - نتيجتان حتميتان طبيعيتان لخطابين متناقضين يقوم أحدهما على الإقصاء والتكفير والتربص والكراهية والغموض والاستتباع وادعاء الحق المطلق، ويقوم الآخر على البناء والفكر والمعرفة والحرية والتعايش واعتماد المشتركات الكبرى والدفاع عن الحق عندما يتطلب الأمر، وكلا الخطابين يتنازعان أمتنا منذ أكثر من مائة عام، ولكلٍّ صانعوه ومروجوه وداعموه.
إن إسرائيل ما كانت لتبلغ هذا المستوى من الإجرام، وما كان التمادي في القتل ليصل إلى هذا الحد لولا إدراكها أن العرب والمسلمين في أوهى حالاتهم بعد سنوات من استنزاف القوى في التطاحن الداخلي المذهبي والسياسي، وبعد أن بلغت الطائفية المذهبية والسياسية أوجها، ليس على مستوى تدميرها لبنى الدول ومقدراتها فحسب، بل لأنها كذلك بلغت ذروة تدميرها للوعي والفكر وللقدرة على التعايش والبناء المشترك، وليس أدل على ذلك من بروز أصوات ترى في مخالفيها في المذهب أو في التيار السياسي عدواً أولى من عداوة إسرائيل!!
ويرى الكثيرون اليوم أن هذه الأحداث فضحت كثيراً من آفات وأمراض أمتنا في أفقع وأبشع صورها عسى أن نَعِيها وأن نراجع، وكشفت الحقائق التي ضللت بها العقول ردحاً من الدهر، وكل مخلص لهذه الأمة ولحضارتها وثقافتها يعول على هذا الوعي وهذا الانكشاف في أن ننتبه للمصير الذي تذهب إليه الشعوب.
فأكبر هذه الأمراض التي تفتك بالأمة اليوم وتربك تمييزها بين الشقيق والصديق والعدو هو التكفير بمختلف أسمائه ودرجاته ونسخه، فلقد كابر التكفيريون كثيراً وإلى يوم قريب في أن منهجهم قائم على احتكار الإسلام، وعلى إقصاء الآخرين، وعلى أصل تكفيري، وكابروا في حقيقة أن نتائجه التاريخية كانت دائماً تدميراً وفساداً في الأرض، كابروا واستمرّوا في مكابرتهم لأن ثمار هذا المنهج كانت بعيدة عن التأثير عليهم، ومهما قيل فيها فإن من العبث أن تقنع من يرى أنه - بوكالة إلهية- وصي على الحق بخلاف رؤيته الأحادية تلك، حتى أتتهم التجربة العملية أمام أعينهم وطرقت أبوابهم فهالهم ما رأوا كما هال ضحايا هذا المسار على امتداد أكثر من مائتي عام، ورأوا كيف سيكون التطبيق العملي لمناهج التكفير العدمية، كيف ستظهر ثمارها المرة، وما الذي تصنع بالناس وكيف ستكون نتيجتها تدميراً للإنسانية وتشويها للدين وصداً عنه، لقد رأوا كل النتائج رأي العين بعد أن كانت قصة تاريخ أو تنظير فكرة أو حدث إعلامي قصي و"من استشرف الفتنة استشرفته"!
ذلك أن عشرات السنوات من تغذية ثقافة الكراهية والتكفير وتمويلها ورعايتها أنتج برمجة تشبه برمجة الآليين، تضع معايير ومواصفات تتربص بالعباد عسى أن يصلوا إليها، وهذا الذي نرى أثره اليوم عبر مقاطع الفيديو المتداولة هو أثر لهذا البرمجة التي صنعتها "كاتلوجات" التكفير وكتيباته، ولم ينتبه صانعو التكفير أن "الآليين" الذين بُرمجوا على التكفير سينقلبون على صانعيهم تماماً كما هو الحال في أفلام الخيال العلمي!
وهناك أصوات من المراجعات تنطلق اليوم بعضها ينتقد الظواهر أو يتبرأ منها، وبعضها يقرّ بها ويذهب إلى العمق، إلى جذور التكفير في المعتقدات والفقه والفكر والتاريخ والاجتماع، غير أن تفكيك بنية التكفير لن تتأتى إلا بالتوقف أولاً عن دعمه واستخدام خطابه أداة للنفوذ، ومواجهته تحتاج شجاعة فائقة ومعرفة عميقة وحوارات واسعة، والمسؤولية الأخلاقية تقع اليوم قبل أي أحد على عاتق من روجوه ونشروه وصدروه وبرروا له.
ومع حالة التلاحم والتعاطف الذي نالته قضية غزة وكفاحها عربياً وإسلامياً ودولياً، فإنها كشفت كذلك عن اختراق خطير وغير مسبوق للضمير العربي، فهي المرة الأولى تقريباً التي تجد فيها إسرائيل انقساماً ولو هامشياً في الرأي العام العربي تجاه عدوانها، ولأول مرة ربما يتحدث الإعلام عندهم عن مؤيدين لهم من العرب! ولأول مرة ربما نرى مشدوهين في بعض البرامج الحوارية مشهداً "سريالياً" ينحاز فيه متحدثون يهود لحسِّهم الإنساني تجاه قضية غزة، بينما يقف متحدث "عربي" على النقيض منهم شامتاً ومتردداً يبرر للعدوان جرائمه أو يقف أمامها محايداً، إن هذه لحظة فارقة بحق وليس من خصومة سياسية كيف ما كان شأنها يمكن أن تبرر حالة كهذه لم تكن مفردة أو شاردة، بل هي حالة واضحة حتى لو كانت هامشية وسط طوفان التأييد والتعاطف، لكنها برهان ليس على استهداف القيم العربية فحسب بل وعلى ثغرات المناعة في الوعي والضمير التي صنعتها الخصومات السياسية، ومهدت لها الحرب الإعلامية المتبادلة بين الخصوم الذين لم يوفر أي طرف منهم وسيلة مشروعة أو غير مشروعة للنيل من خصمه، ومن يفقد شرف الخصومة سيفقد حتماً شرف الانتماء.

هناك تعليق واحد: