الجمعة، 26 نوفمبر 2010

محمد الحجري يحاور المؤرخ و المفكر العربي الدكتور حسين غباش .. نشرته مجلة الثقافية في عدد نوفمبر 2010



 حسين غباش يتحدث لمجلة "الثقافية" عن :
عمان .. المجتمع و الدولة بين خصائص التاريخ و خصائص الثقافة.

حاوره : محمد بن سعيد الحجري .
إن التاريخ ليس معرضا للأحداث فحسب ، بل هو رحلة الحضارة لأي شعب في صعوده وهبوطه ، فهو الذي يشكل في تقدمه الهوية والذات الوطنية ، ويصوغ معالمها.
 وعلى الوعي  به  تنبني النهضات والتنمية المستقرة والمتوازنة ، وفي حالتنا العمانية  حقق التاريخ خصائص الثقافة والهوية وصنع تمايزها واستقلالها على طول خط التاريخ حتى عصرنا الراهن ؛ ذلك لأن النموذج المتميز للنهضة والتنمية لا يصنع بالقطيعة مع التراث والتاريخ ، بل بالاتصال مع قيمه الإيجابية البناءة . و حول التاريخ وخصائص الثقافة العمانية ، حاورنا الأستاذ الدكتور حسين غباش ، المؤرخ والمفكر العربي ، و ذلك إبان زيارة له إلى السلطنة حيث ألقى محاضرة حول خصائص الثقافة العمانية بجامعة السلطان قابوس .
*  إذا أردنا أن ندخل إلى معالجة قضيتنا من مدخل تأريخي ، ونحن نتفحص خصائص الثقافة العمانية  ، فإن لك كتاباً مهماً هو كتاب عمان والديمقراطية الإسلامية وفي الحقيقة فإنه  من اللافت هنا أن هذا الكتاب ليس رصدا تاريخيا فحسب ، بل هو رصد كاشف لحركة شعب وأمة باتجاه التقدم ، فقد  أعان منهج العلوم السياسية في استقراء الأحداث التاريخية  على استخلاص  تلك  القيم التي وجدتها في خصائص الثقافة العمانية  ، دعنا ننظر  أولاً إلى هذه الرحلة ، إلى رحلتك مع التاريخ العماني ، عبر هذا الكتاب ، و كيف رأيتها ؟
*  رحلتي في التاريخ العماني كانت رحلة طويلة ـــ كما تعرف ـــ فقد استمرت قرابة عشرة أعوام ، وأنا أسميها دائما رحلة العمر ، كانت رحلة غنية في كثير من المعارف ، كانت رحلة في التاريخ والجغرافيا والسياسة ، مكنتني من  التعرف على خصائص الشعب العماني، على ثقافته ، عرفتني على الفكر الإسلامي ، و الفكر العربي بصورة عامة. و أخيرا ، أثمرت كتاب "عمان والديمقراطية الإسلامية".
*  عندما نتحدث عن الثقافة  ، وعندما نقرؤها من منطلق تاريخي في تشكلها عبر رحلة التاريخ المستمرة  إلى الأمام، هل نقصد بخصائص الثقافة  التراث المعرفي؟ أم نقصد بها القيم الاجتماعية  المنبثة  داخل المجتمع ، كيف تنظر إلى هذه الثنائية؟
* هو في الواقع هذا وذاك، الثقافة هي التراث المعرفي وهي القيم و الأعراف، ثم ألا تمثل القيم والأعرف بمعنى ما أرضية التراث المعرفي ؟ بالطبع الثقافة كلمة شاملة  لمجمل ما أنتجه الإنسان من فكر وأدب  وشعر  إلى آخره .  ويقال عنها أحياناً بأنها كل ما أنتجه الإنسان في سبيله إلى الكمال.   
 إذن الثقافة هي الهوية، هي بيت المجتمع، وهي روح التاريخ أيضا؛  ومن هنا يبدأ الأخذ والعطاء، و تبدأ العلاقة بين التاريخ والثقافة ؛  فبقدر ما يدفع التاريخ الثقافة إلى الأمام ، بقدر ما هي تحرك التاريخ.  ولئن كان الإنسان وليد بيئته، إذن هو وليد تاريخه و وليد ثقافته. وبما أن الإنسان مكون اجتماعي فهو مكون ثقافي أيضا. من هذا التزاوج الجميل بين الثقافة والتاريخ، تطل علينا الهوية.
 الآن ، لنتفحص ذلك في الحالة العمانية. الثقافة العمانية  لها خصائص عدة بطبيعة الحال ، نجدها في أكثر من مظهر ، نجدها في  الظاهر ونجدها في الداخلي  ، نجدها في الشكلي ونجدها في المعنوي. بشكل ملموس ، نجدها في  التماسك الاجتماعي ،  في وحدة المجتمع ، نجدها في  الوطنية  العمانية المميزة. خذ مثلا الشخصية العمانية وهي كيان مصغر للمجتمع فعندما نرى الشخصية العمانية، السوية العميقة، لا بد أن يكون  السؤال  هو : من أين  أتى هذا التميز ؟ هذه إحدى خصائص الثقافة العمانية. كل ذلك وأخرى غيرها تشكل الثقافة بشكل عام.    
* أنت في بعض أطروحاتك تحدثت عن عدة مكونات وعوامل  لهذه الثقافة . وحتماً  كل ثقافة من ثقافات الشعوب تشكلها عوامل  متعددة ، ولكن  نحن هنا نسلط  الضوء على الحالة الثقافية  العمانية.  وأنت تشير في بعض محاضراتك إلى  البعد القبلي ، وفرقت  بين القبيلة والعشيرة ، وكان هذا لافتاً إلى حد بعيد.  إذ ينظر دائما إلى الثقافة القبلية باعتبارها ثقافة رجعية، أو ثقافة تشد الشعوب إلى الوراء. أعتقد أننا في حاجة إلى استيضاح و استكشاف  هذا الفرق  الذي تراه  بين القبيلة والعشيرة  وكيف تنظر إليه ؟ ، وكيف  ترى  في القبيلة حاضنة  للقيم  الاجتماعية، وهي تشكل عناصر الهوية  الوطنية ؟
* لو أعدنا السؤال بطريقة أخرى وقلنا: ما هي حاضنة الثقافة الوطنية أين نبحث عنها ؟  وأين نجدها ؟ بالتأكيد في البيئة الاجتماعية. وما هي العناصر التي تشكل البيئة الاجتماعية في عمان ؟ إنها القبيلة بالطبع. ولذلك هي الحاضنة للأعراف والتقاليد وبالتالي هي حاضنة الإرث العماني.
أما الفرق بين القبيلة و العشيرة فهو من منظار الانثربولوجيا السياسية تحديداً في غاية الأهمية، هما من الخارج بيئتان متشابهتان ظاهريا طبعا، مختلفتان من حيث الجوهر ، مختلفتان تحديدا في نظامهما السياسي. في الأولى المعرفة بالمجتمع السياسي  هناك شورى وإجماع واختيار حر للحاكم. في الثانية الحكم فيها وراثي ولا وجود لشورى ملزمة. ولكلى الحالتين جدليتهما التاريخية وبالتالي ثقافتهما. لكلى التركيبتين تجلياتهما وتعبيراتهما المختلفة. واذا حاولنا التعرف جيدا على البناء الداخلي لهذين الإطارين، نتمكن من التعرف على طبيعة ما ينتجه هذين " المعملين" الاجتماعيين.
الآن لنتفحص حالة الفرد في البيئتين، نرى مثلاً  أن عضو القبيلة عضو منتم  لديه إحساس بذاته الوطنية ، ولكن لماذا ذلك؟ لأنه بكل بساطة لأنه إنسان فاعل  وهو منتج للسلطة التي ترسم تاريخه، إذن هو عضو فاعل في التاريخ. و على المستوى العماني فإن هذه الممارسة المستمرة أفضت إلى ما نسميه بثقافة المشاركة، والتي هي بدورها أنشأت ثقافة المواطنة.
أما العشيرة فهي "معمل" كيان اجتماعي عقيم ،فهي لا تنتج ما هو أرقى منها.  وعلى النقيض من القبيلة لا تخلق ديناميكية وحراكاً لتطور المجتمع. ولذلك تجد أن عضو العشيرة فرد هامشي لا يملك أي دور فاعل حتى في حياته، فهو تابع بالدم ، أو بصلة ما. وكما قلنا: لقد أفرزت القبيلة ثقافة المشاركة واخترعت مفهوم  المواطنة، في حين  أن العشيرة لم  تفرز إلا  ثقافة الرعية . ثقافة التابع و المتبوع.

* أريد أن أستوقفك هنا أمام  نقطة أحسب أنها مهمة ، وإن  كانت تشكل نوعا من التجاوز التاريخي  ، أو القفز على مراحل التاريخ ، هل هذه الخصيصة التي لمستها في المكون  الاجتماعي  العماني  الذي يقوم  على هذه العوامل  ، ومن أهمها القبيلة ، هل هذا الأمر  هو الذي  سهل  في مرحلة تالية  عند نشوء الدولة الحديثة  إدماج  النظام القبلي  ، في النظام السياسي والاجتماعي العام ؟ و بمعنى آخر لماذا لم نجد هنا تناقضاً بين  الانتماء الوطني والانتماء القبلي  ، بل  وجدنا نوعا من  الانصهار ومن تجلي روح المواطنة وروح المشاركة  حتى  داخل الثقافة  الاجتماعية  التي تؤسسها القبيلة ،  فلم ينشأ ذلك التعارض الذي قد يتوقعه البعض بين  الانتماءين؟
* أشكرك على هذه الملاحظة. لا تنسى بأن القبيلة هي التي ولدت الوطنية العمانية، وفي ذلك تأكيد على الانتماءين ، الوطني الأعلى و المحلي الخاص. الأول سياسي و ثقافي تاريخي.
    هذا التزاوج بين الأصلة والمعاصرة لا يخلق كسراً ، بل ينتج استمرارية و ديمومة  ويضمن الاستقرار. و أعتقد أن كل التراث الأصيل الموجود في القبيلة، انتقل على قاطرة الاستمرارية التاريخية إلى الوقت المعاصر، ونقل إيجابياته وبالطبع سلبياته معه. طبعاً الدولة المؤسساتية الحديثة نظام جديد ، لكنه لا يشكل قطيعة مع الماضي، فتطور المجتمع يقتضي تطور مؤسسات الحكم. خذ مجلس الشورى مثلا. هو وليد السياسة الحكيمة لكنه الابن الشرعي لتزاوج التاريخ والثقافة. وبحكم منطوق التاريخ وقواعده لا يمكن إلا وأن يتطور أو يتحول بعد زمن إلى عائق للتطور الذي خلق من أجله المجلس ذاته. المجلس خلق ليقود الاستمرارية التاريخية.  
 * الجميل في هذا الطرح الذي تقدمه أنك تلاحظ فيه الاستمرارية  التاريخية ، ولا تلاحظ فيه هذه القطيعة  ، فكما أشرت لا يوجد كسر في الحالة التاريخية العمانية، و قد تحدثت عن ثقافة المشاركة  ، وحضورها على طول خط التاريخ العماني وكيف وجدنا الحالة العمانية الراهنة في عصر النهضة الحديثة  تمثلت هذه القيمة التي يحملها هذا البعد التاريخي .
* في البدء يجب الانطلاق من المسألة الأساسية ، إلا وهي  أن سيرورة التاريخ العماني مشيد على مبادئ المشاركة، وما النهضة الحديثة إلا حالة متقدمة لصيرورة تاريخية. ويمكنك مثلا أن تجد لفكرة مجلس الشورى العماني مرجعيات تاريخية في التاريخ العماني ، ألا  يمثل "أهل الحل و العقد" مجلساً وطنياً تاريخياً أصيلاً ؟  وقد كانت له سلطات تشريعية أهم و أوسع.  
*  هل تعتقد أن قوة التاريخ هي في الأشكال و نماذج الممارسة السياسية التي يقدمها، أم أن قوته في القيم التي يرسخها ويبثها مع استمرار خطه ، قيم الشورى  والعدل والمساواة ؟ وكيف تجدها مبثوثة على طول امتداد التاريخ العماني؟ و بمعنى آخر هل قوة التاريخ هي  في النماذج التي  يقدمها ؟ أم أننا خلال استمرار الحالة التاريخية  نجد أن هذه القيم  تتشبث وترسخ في الأرض  أكثر ، ثم هي تصبح  تلقائيا جزءاً من خصائص  الثقافة ، فلا يمكن  في  أي مرحلة من المراحل تهميشها بعدم البناء عليها، أو أن يتم تجاوزها لأنها راسخة وثابتة في جذور الثقافة و في بنيتها؟
* سؤالك يحمل الإجابة الأشكال و النماذج هي ليست إلا التعبيرات لقوة القيم و الأعراف الراسخة في المجتمع. هذه التجليات هي جوهر التاريخ ذاته. هي كما تقول المبثوثة في التاريخ وخارجه. هنا تحديدا نكتشف عملية الانصهار بين ما هو تاريخي وما هو ثقافي. 
* هنا ربما يقول البعض  داعي الخصوصية  عند التركيز عليه ، قد يدفع إلى نوع من الانغلاق ، أو التمترس وراء الذات  المتميزة ..  كيف ترى انفتاح  الحالة العمانية على العصر مع احتفاظها بخصوصيتها ، كيف استطاعت عبر تشكلها التاريخي  وفي حالتها الراهنة المعاصرة ؟ كيف استطاعت أن تجمع بين هذه الثنائية  بين الأصالة والمعاصرة؟
* كما قلت أخي محمد إن  الأصالة تفضي  إلى المستقبل، بل هي مسوقة لكي تنفتح  على المستقبل أو تندثر. لنذهب أبعد قليلا ونقول ــ لا بل نجزم ــ بأن الأصالة تولد المعاصرة. هذا في نظري طبعا،  لا معاصرة حقيقية أو ما يسمى بالحداثة دون أصالة حقيقية. المعاصرة لا بد وأن تمثل استمرارية وليست كسراً وقطيعة. الهوية الزائفة هي التي  تخشى المستقبل  لأنها تندثر . أما الثقافة الأصيلة فهي تستبطن المعاصرة والمستقبل.
     نحن لا نريد أن نجمل الحالة العمانية بل نصفها وحسب. لربما انشغالي بالتاريخ العماني طويلا أثر على حياديتي. لكن علينا الانتباه إلى التعريفات ، بل أدعو إلى توخي الحذر من هذه التعريفات العائمة. مثل التخلف و التطور والحداثة وغيرها. ماذا نعني بالانغلاق و ماذا نعني بالانفتاح؟ لن أدخل هنا في لعبة التعريفات ، لكنني  أعتقد أن الثقافة العمانية لم تغلق المجتمع العماني بقدر ما أعطته عمقاً ضمن تحصينه ورسم إيقاعاته. و بمعنى آخر كما يقال  لم تؤدي إلى شوفينية عمانية  ، بل أدت ــ على النقيض ــ إلى التأكيد على الأصالة الحية المنفتحة على الآخر.ربما هنالك سكونية في الوجه المذهبي. لكن  هذا الذي قد يسميه البعض الانعزال العماني هو الذي حافظ على جوهر الثقافة العمانية ، على  جوهر الإنسان العماني ، و على تمايز الهوية العمانية عن باقي المجتمعات العربية والخليجية خاصة.
* هذا التمايز لا يقتضي نوعا من الفوقية  ، إنما يقتضي نوعا من الخصوصية ، وهو  لا يؤدي إلى الانعزال بقدر ما يؤدي إلى الاستقلال  ، هذه الخصيصة الحاضرة دائما في التاريخ العماني  ، منذ القرن الأول للهجرة  و أعني بها خاصية الاستقلال  ، هل هو استقلال سياسي فحسب أم هو  استقلال ثقافي؟
* ألا يمكن أن يكون الاثنان معا ؟ ثم أني أتحفظ قليلا على تعبير "الاستقلال الثقافي". الثقافة لا تستقل بل تتميز. دعنا نعود إلى حادثين مؤسسين ؛ لقد طرحت في أكثر من مناسبة أنه باستقلال العمانيين منذ بداية الدولة الأموية  واتخاذهم هذه الأرض وطنا روحيا، فإنهم بذلك قد شكلوا الأسس الأولى  لبناء الوطن العماني، أي لبنة الوطنية العمانية، أي أرضية الاستقلال السياسي.
و عندما تمت  تم انتخاب أول إمام إباضي الجلندى بن مسعود ، في القرن الثامن الميلادي دخلت عمان في فضاء جديد ، استو لد ذلك الحدث المؤسس عدة مفاهيم ، منها مفاهيم الاستقلال والسيادة للأرض الجديدة وتميزها عن باقي الأرض العربية. وبدأ تتأسس ثقافة المشاركة والشرعية. أي تأسست ثقافة عمانية خاصة. تسميها أنت " الاستقلالية الثقافية" ، أصفها أنا بالذاتية أو الخصوصية الثقافية.  
* لو توقفنا أمام بعض الأمثلة على هذه المفاصل التاريخية المهمة التي تنتج فكراً كما تفضلت ، قضية الإمام الصلت بن مالك ، و ذلك الجدل الذي أعقب  سقوط دولة  الإمام الصلت بن مالك ، وأنت تطرقت في بعض أطروحاتك إلى هذه المسألة ، فذلك الجدل لم يكن في الحقيقة  جدلا سياسيا فحسب  ، وإنما كان جدلا دينياً وسياسياً وفكرياً ، حول فكرة و مبدأ "الشرعية" .
* في الحقيقة اهتممت بهذه المرحلة بشكل خاص باعتبار أنها أنتجت ما سميته بالحوار الدستوري، وهو بالتأكيد إنتاجي فكري.  فهناك الحوار المشهود الذي دار بين مدرسة الرستاق وبين مدرسة نزوى ، حول شرعية الحكم وشرعية المشاركة. وقد تكررت هذه الحوارات في محطات أخرى. وكلها أثرت الدستور العماني الإمامي. وهي من تلك الأحداث التي تنتج حقائق ثقافية وفكرية دفعت بالتاريخ خطوة كبيرة إلى الأمام. وأعطت أسساً قوية للخصوصية العمانية  و للفكر الوطني العماني المعاصر.
* عندما نتحدث عن هذه الخصائص  أتينا على ذكر المشاركة وحضورها في التاريخ العماني، و أتينا على ذكر حضور مبدأ العدالة و محوريته ، وبعض الخصائص المميزة للمجتمع العماني كالشعور بالوطن والانتماء ، لكن خصيصة  الاستقلال  لو أردنا أن نركز عليها الحديث أكثر.  هل هذا الاستقلال  كان داعيا إلى نوع من  الحجب والانغلاق ؟ أم نرى له صورة إيجابية فوق ما ذكرنا من قبل، وهو هذا الانفتاح على الشرق الإفريقي ، وعلى الامتدادات الآسيوية ؟ وكيف أضافت هذه الصور من الانفتاح و صناعة الجسور الحضارية الثقافة العمانية ؟
* من قال أن الاستقلال يدعو إلى الانغلاق و الكسوف؟ نحن نتحدث عن تفرد الهوية ، وفرادة الهوية تبني استقلالاً ، " الاستقلال الثقافي"  إن شئت  يحصن الاستقلال السياسي.  و على العكس مما قد يظنه البعض، فلم يكن هناك انغلاق . وكما أشرت أنت أن هناك انفتاح على إفريقيا وانفتاح على آسيا في ذات الوقت. لقد ذهاب العمانيون إلى شرق  إفريقيا كتجار ،  إلا أنهم كانوا محملين بإرث ثقافي إسلامي ورسالة حضارية منفتحة على الآخر. كانوا حملة علم وحضارة ربما من حيث لا يدرون.
* عندما نتحدث عن  الذاكرة الثقافية وأنت  بحكم دراستك التاريخية مطلع عليها و لكن بوعي تاريخي ، وأقصد هنا بالوعي التاريخي ، فأنت تنظر إليها باعتبار أن هذا التراث الفكري والثقافي حالة متطورة و نامية مع الأيام ، تتجاوب مع  أحداث التاريخ ، هذه الذاكرة المعرفية  الفكرية ما الذي تضيفه إلى تميز الخصائص الثقافة العمانية؟
*   الثقافة هي بيت الذاكرة، والذاكرة هي الثقافة ولذلك هي حالة متطورة. إن أهم ما تضيفه في نظري هو أنها تضمن روح الاستمرارية في الحالة العمانية. هي المحرك الداخلي للقَدر العماني.  ولكل ذلك بطبيعة الحال تأثيرات إيجابية على المجتمع على نحو عام ، وتحديدا على ثباته واستقراره. 

* فيما يتعلق بالشكل الآخر من الذاكرة الفكرية  و هو التراث المعرفي ، المؤلفات و المخطوطات و الكتب في شتى صنوف المعرفة  ، كيف يعزز ذلك  الشعور بأن هذا المجتمع ليس مجتمعا من الناس الذين يقومون بأنشطتهم المعيشية المختلفة ويمارسون  أدواراً متنوعة داخل وطنهم  أو خارجه ، وإنما يتجاوزون ذلك إلى تقديم إرث معرفي للإنسانية و لثقافاتهم العربية كذلك ، كيف تنظر إلى هذا الجانب ؟جانب التراث المعرفي ؟
* الإنتاج الفكري طبعا بمعناه الديني والتاريخي في الثقافة العمانية أمر لافت حقا. وهذا طبعاً يعود للعلماء العمانيين وأدوارهم المشهودة ، فهم  المؤرخون والفقهاء والشعراء، العلماء الأجلاء كانوا ربابنة السفينة العمانية ، كانوا قناديل أضاءت مسار التاريخ العماني.
و اللافت هو الإنتاج الغزير لبعض العلماء مثل محمد الكندي. كتاب "بيان الشرع" مثلا مكون من أكثر من سبعين مجلدا.أما كتاب المصنف لأحمد بن عبد الله الكندي كان مكوناً من أربعين مجلد أو أكثر. وقاموس الشريعة للسعدي يضم ثلاثة وتسعين مجلدا. وما هو مؤسف حقا هو أن العلماء العرب لم يلتفتوا لما أنتجه أخوانهم العمانيون.

   * أخذاً بطرف الحديث هنا من النقطة التي تفضلت بها حول هذا التمايز  بين خصائص الثقافة  الوطنية في عمان، وخصائصها في المجتمعات الأخرى  ، أريد هنا أن أستوقفك أمام  مشروعك الثقافي القادم ، وهو كتابك حول الجذور الثقافية  في الخليج العربي  ، ماذا عن هذا المشروع  ، وما الذي سيضيفه  إلى الفكر العربي  خاصة في شقه السياسي؟
* كتاب عمان رسم لي توجهاتي الثقافية والسياسية المستقبلية إلى حد كبير.  التجربة تقول بأنه لا يمكن معرفة الإنسان بأبعاده وتعقيداته دون دراسة بيئته الثقافية. حاولت  التعرف على المنطق الداخلي للثقافة في الخليج ، و دراسة الأسس البنيوية للثقافة الخليجية،  أين مصادر القوة والضعف فيها؟. أي قيم تنتج ماذا ومتى وكيف؟ كيف تتطور الثقافة من حالة مجتمعية إلى آلية فعل سياسي منتجة لحالة انسجام عبر خلق نظم عدل ومساواة؟  كما في عمان هنالك أيضا قبائل وعشائر في التركيبة الاجتماعية في الخليج. وهنالك ثقافة مشاركة أثمرت فكراً إصلاحياً وديمقراطياً.
بالرغم من الضمور والضعف في بنية الثقافة الخليجية اليوم ، كانت هذه الثقافة ذاتها قبل تهجينها وتهميشها مولداً خصبا للفكر الإصلاحي والتطور السياسي في المجتمعات الخليجية، وقد أنتج هذا الفكر في الكويت مجلس عام 1921، وقصة تشكيل هذا المجلس ذات دلالة كبيرة وتستحق الذكر، فعندما طلب آل الصباح من أعيان البلاد مبايعة الشيخ أحمد الجابر ليحكم البلاد، قال الكويتيون لا بيعة دون مجلس، لقد طالب الكويتيون  بمجلس مقابل منحهم الشرعية للحاكم الجديد. وكان لهم ما أرادوا، ثم أتى مجلس عام 1938، و دستور عام 1938. ويمكن اعتبار ذلك مسودة لدستور 1961. وكل ذلك أسس للحياة الديمقراطية المعاصرة. 
وقد تكرر الأمر في البحرين. وهاهي البحرين ـــ بالرغم من كل الاضطرابات المؤسفة ـــ يعيش المجتمع البحريني حراكاً سياسياً وثقافياً ليس له مثيل في المجتمعات الخليجية الأخرى؛ كل هذا المسار الإصلاحي الديمقراطي هو وليد الثقافة الوطنية الخليجية. إن إبراز هذه الجوانب المشرقة من الحياة الثقافي والسياسية فيه نوع من رد الاعتبار للثقافة الوطنية الخليجية، فيه تأكيد بأن ثقافتنا ليست عقيمة، وهذه مسألة مهمة لنا فكرياً ومعنوياً.       
* التاريخ لا يقدم ضمانة للمستقبل  فحسب ، إلا  إن  تم تمثله في توازن  ، و  تمثل للقيم التي يقدمها ، وأنت تحدثت عن الحضور القوي في التاريخ في الراهن العماني ، كيف تنظر إلى الراهن العماني  وهو يتمثل للقيم العمانية التاريخية؟ كيف تجدها في تجلياتهاو حضورها في الراهن العماني وحضورها؟  كيف تنظر إلى هذا التمثل؟
*  أرى أن عمان سارت شوطاً طويلا في طريق التطور والنهوض ،عمان بلد عريق ، لذلك لا نرى  قفزات في الهواء ، بل نجد أن إيقاع التطور قد ضبطه التاريخ ، ربما يكون هناك تباطؤ نسبي في هذا التطور الإصلاحي السياسي تحديداً،  لكن من  يعرف تاريخ عمان يعرف هذه الحركة  الرزينة في التنمية. و هذا التطور الهادي، وأنا دائما أقول : إن من له هذا التاريخ العريق لا يخشى المستقبل.

فرغ الحوار كتابياً و ساهم في تحريره : راشد بن ناصر المشيفري

الأربعاء، 24 نوفمبر 2010

نشر في جريدة عمان يوم الأحد 21 نوفمبر 2010م

الإنسان أولاً .. نظرة فيما بعد المكرمة السامية
* بين النهضة والتنمية قيم تنضح من المبادرة
الأمم الحية، وقادتها الذين يستشعرون المسؤولية التاريخية، تشعر ويشعرون أن الاحتفالات الكبرى ما هي إلا وقفات مرحلية في سياق الحراك التاريخي الذي يصنعه ذلك التفاعل الدائب بين الأمة والقيادة ومعطيات الواقع وتحديات المستقبل، ولذا لا بد أن يأتي الاحتفاء ملازماً لتقييم الماضي ومنجزاته، وبلورة خلاصات التجربة وتكريس قيمها الإيجابية والبناء عليها في وضع أسس التوجهات المستقبلية .
والمبادرة السامية لصاحب الجلالة السلطان المعظم ــ حفظه الله ورعاه ــ بتخصيص تلك الموازنة الضخمة لبرامج تنمية الموارد البشرية تأتي لتثبيت قيمة أساسية مفادها التمحور حول الإنسان والتركيز على بنائه ولترسخ مستقبلا قيمة الحراك الذاتي للنهضة واتجاهها نحو الفعل البنائي ذي الاستمرارية بعيدة المدى، وهو تحقيق للفرق الجوهري بين التنمية التي تملك أسس الديمومة والبقاء، وبين النمو ذي الطابع المتذبذب الذي يشبه ردات الفعل التي لا تقوم على قيم البنائية المنهجية المستمرة . والسلطنة هي إحدى الدول القلائل التي استخدمت مصطلح " النهضة " بما له شمول ومن استحقاقات ومدلولات وظلال تفرضها اللغة والمرجعية الحضارية والسياق التاريخي للمجتمع العماني، ويفرضها كذلك واقع التطور العلمي العالمي بما فيه فلسفة التنمية والاقتصاد المعاصر، ولذلك كان مصطلح النهضة رديفاً دائماً لمصطلح " التنمية " في الأدبيات العمانية .
و لعل من أهم ما ينتجه المصطلحان هو ذلك الارتكاز على الإنسان الذي هو محرك النهوض وقوام التنمية وهدفها ووقودها، ويحدثنا التاريخ المعاصر عن أمثلة مترادفة من الفلسفات والنظم التي ظلت الطريق فلم تستهدف الإنسان وجعلت منه وقوداً فحسب، فكان أن نفد الوقود واستهلك الإنسان وتهاوت التنمية، وسقط النموذج .


* ما بعد المكرمة استحقاقات المسؤولية :
بقدر ما تبهجنا المبادرات السامية،و تضيف إلى أعيادنا مزيداً من المسرات فإنها تحملنا المسؤولية وتوقفنا أفراداً ومجتمعاً ومسؤولين وحكومة أمام واجب الإمساك باللحظة، والاستثمار الأمثل ليس فقط لموازناتها التي تخصصها، بل ولرسائلها ومضامينها وقيمها التي تعلي أيضاً من قيمة التمكين للفرد العماني، وإتاحة الفرصة له والوثوق بقدراته والاستثمار فيها. ومن أهم هذه القيم التي تبثها هذه المضامين هو الحرص الدائم على استكمال المشهد وسد أي نقص في صورته، ولذا تأتي المبادرة السامية لتنص على دعم برامج تنمية الموارد البشرية وتخص بالعناية برامج البعثات الخارجية للدراسات العليا التي كانت تحتاج إلى دعم سريع على هذا المستوى وهذا الأفق العالي الذي يواكب طموح المجتمع العماني، والتضحيات الحقيقية التي يقدمها العمانيون من أجل تعليم أبنائهم وأنفسهم مهما كلف الأمر، فالمؤشرات تتضافر على أن العمانيين لا يزالون شعبا شغوفا بالمعرفة متطلعا للتسلح بها، ومدركا لكونها العامل الحاسم في تحسين نمط الحياة، واكتساب الوعي بالذات والاحترام الاجتماعي. وإذا كان هذا الدعم سيفتح الباب واسعاً أمام ابتعاث المزيد من الطلاب العمانيين في الجامعات الخارجية، فإنه سيدعو تلقائياً إلى توسيع وتنشيط برامج الماجستير والدكتوراة التي لا تزال محدودة جداً في جامعاتنا الوطنية الحكومية والخاصة، من أجل استدامة ذلك على المستوى الوطني.

* استثمار المبادرة والتوازن المطلوب :
إن دقة وتوازن توزيع فرص الابتعاث هو استحقاق ومسؤولية أخرى كبيرة، والدقة والتوازن تتعلق أولاً بتنويع دول الابتعاث والالتفات شرقاً بعض الشيء، لمزيد من تمتين العلاقات العلمية والأكاديمية، ولإثراء الخبرة العمانية بتجارب أكاديمية كان الاتصال بها محدوداً ــ نسبياًــ في الماضي القريب.
ومن ناحية أخرى يأتي التوازن والتنويع داخلياً على مستوى التخصصات التي نصت المكرمة السامية على أن تكون في المجالات التخصصية التي تحتاج إليها الدولة، وفيما يتعلق بهذه المجالات فإن اجتهاد البعض يضيق في توصيفها ويقصره على تخصصات العلوم التطبيقية التي يراها البعض "مجدية" استثمارياً، مع توهين مباشر أو ضمني من جدوى الابتعاث في العلوم والمعارف الإنسانية، ومن المؤكد أن إعادة التوازن في هذا الجانب هو أمر تفرضه معطيات عديدة وطنية وعالمية .
فعلى سبيل المثال لا يزال التراث العماني بكل ثرائه وتنوعه ومفاجآته ماثلاً بين أيديها، فأكثر من ثلاثين ألف مخطوط عماني ــ كما يقدرها الخبراء ــ تمثل تحدياً جدياً ومسؤولية هائلة في آن معاً، ليس تجاه الثقافة العربية فحسب بل والثقافة العالمية كذلك، ولا يزال التراث المحكي والشفهي بعيدا عن التوثيق الجدي والدراسة المعمقة، فرغم ما بذل من جهود لا يزال هذا التراث في أمس الحاجة للتحقيق والدراسة المنهجية الحديثة التي لم تتمكن برامج الدراسات العليا المحدودة في جامعاتنا من استيعابها، ومن الضرورة بمكان أن يكون لهذا الجانب دعمه المناسب، ومن المؤكد أن المبادرة السامية جاءت في وقتها على حين بدأت أيد ما تطال هذا التراث، بل وتسطوا على نتاجاته، وتنسبه إلى دول مقفرة ثقافياً تحتاج إلى ما يسند وجودها، لتنتحل لها تاريخاً وتراثاً أثله العمانيون ووضعوا فيه بصمتهم المميزة، وقدموه إلى الثقافة العربية والإنسانية .
كما أن مجالات حيوية ورحبة للبحث العلمي ما تزال أراض بحثية بكر قلما وجدت فيها دراسات ذات بال، وقلما وجد فيها باحثون أكفاء قادرون على استمرارية خدمتها وتلبية متطلبات المجتمع والتمنية منها ومن ذلك على سبيل المثال لا الحصر دراسات شؤون البيئة والمحافظة على الحياة الفطرية التي سجل العالم سبق السلطنة إلى العناية بها، بينما لا نجد لها إلا باحثين قلائل عنوا بها وتخصصوا فيها، ومن ذلك دراسات شؤون المجتمع والأسرة، إذ لا نجد فيها مرجعا علمياً واحداً يعتني ببنية المجتمع العماني ونسيجه الثقافي وخصائصه الاجتماعية المميزة له، وهو أمر في أقصى درجات الأهمية إذا ما أردنا فهم تغيرات المجتمع، وكيفية استجابته لمؤثرات التنمية وتفاعله معها، ولا أقصد هنا الدراسات التوثيقية بقدر ما أقصد الدراسات التحليلية التي تفضي إلى فهم التكوين الاجتماعي، وكيفية بنائه، ومشكلاته الماثلة والمتوقعة، كما أن مجالات علمية أخرى كالفلسفة والعلوم السياسية واللسانيات الحديثة وغيرها، تحتاج إلى مدد من الباحثين المتخصصين، وهم لا يزالون محدودي العدد في وطننا، ناهيك عما ينتجه اندماج العلوم من فروع علمية جديدة على المعرفة الإنسانية، في ظل التقارب المطرد بين العلوم التطبيقية والمعارف الإنسانية.
إن إعادة التوازن لهذا الجانب والعناية بهذا الشق من الدراسات هو أمر تفرضه المتغيرات التقنية التي صاحبت ثورة المعلومات، ودخول حقبة مجتمع المعرفة، التي ذابت فيها الفوارق بين القوى اللينة والقوى الصلبة، وغدت فيه الثقافة سلعة مدرة للأرباح واستثماراً مجزياً، فاللغة والتاريخ والأدب والبيئة عناصر ثقافية تنبني عليها صناعات حقيقية ذات عائد مادي تجد لها قنوات استثمارية عبر صناعة الإعلام، وصناعة السينما،
وصناعة السياحة، وصناعة النشر وصناعة تقنية المعلومات خاصة في شق المحتوى المعلوماتي الذي يقوم في المقام الأول على المضمون الثقافي والأداة اللغوية .
ومن هنا فإن الوعي بما هو مجد استثمارياً وما هو ضروري وتحتاج إليه الدولة ينبغي أن يتزحزح ليكون أكثر انفتاحاً وتوازناً وأكثر اقتراباً من المتغيرات التي تفرضها استحقاقات مجتمع المعرفة، لنتمكن من الوفاء بما توجبه علينا المكرمة السامية من استحقاقات ومسؤوليات .