الجمعة، 25 أكتوبر 2019

عضو مجلس الشورى، ممثل ولاية بدية يعقد لقاء تشاورياً نهائيا، ويقدم تقريرا ختامياً عن الأداء

عضو مجلس الشورى، ممثل ولاية بدية يعقد لقاء تشاورياً نهائيا، ويقدم تقريرا ختامياً عن الأداء
(ملخص اللقاء)


قدم عضو مجلس الشورى ممثل ولاية بدية (غير المترشح للفترة التاسعة) في لقائه التشاوري النهائي مع أهالي ولاية بدية تقريراً عن أدائه خلال الفترة الثامنة، استمر اللقاء أكثر من ساعتين، وفيما يلي أهم ملخصاته:

 شكر وتقدير:
* وجه لأهالي ولايته تقديره وشكره وعرفانه لهم بتكليفه وتشريفه بتمثيل الولاية خلال الفترة الثامنة، مؤكدا أنها كانت مرحلة مليئة بالخبرة والمعرفة وتجربة مهمة جداً بالنسبة له، منوهاً إلى أن النقاش المجتمعي المستفيض حول المجلس في هذه المرحلة الانتخابية دليل على حيوية المجتمع وقوته، وقدرته على نقاش قضاياه، ودليلاً على الأهمية الراهنة والمستقبلية للمجلس، وضرورة الدفع بكفاءات وطنية عالية إليه.
* كما تحدث عن أهمية الرؤى الانتخابية المطروحة في مخاطبة الناخبين، وضرورة أن تتفهم هذه الرؤى الأطر الدستورية والنظامية للمجلس متمثلة بالنظام الأساسي للدولة، ولائحة المجلس الداخلية، وأن المترشحين للمجلس والناخبين كذلك لابد أن يكونوا على وعي بهذه الأطر المنظمة لعمل المجلس.

مؤشرات أداء المجلس:
* تطرق ممثل ولاية بدية بالتفصيل لمؤشرات عمل المجلس، كما نشرتها وسائل إعلام المجلس خاصة ما نشر في وسم #حصاد_الشورى، وهي مؤشرات مهمة لعمل هيئة المجلس في المجالين التشريعي والرقابي.
* استعرض ممثل ولاية بدية مؤشرات رقمية لجهود المجلس خاصة في نقاش القوانين المحالة للحكومة وعددها 25، أو القوانين التي اقترح المجلس تعديلها وعددها 8، والاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية وعددها 43 اتفاقية، كما تحدث عن العمل المشترك بين مجلسي الدولة والشورى في ذلك.
* كما استعرض مجموعة من المؤشرات الرقمية للمجلس في المجال الرقابي، كعدد جلسات المجلس التي بلغت 86 جلسة اعتيادية، وعدد اجتماعات مكتب المجلس ولجانه المتخصصة، وعدد الأدوات البرلمانية المستخدمة خلال أدوار الانعقاد الأربعة للفترة الثامنة والتي بلغت 718 أداة على اختلاف مستوياتها وأنواعها.

مؤشرات أداء عضو المجلس ممثل ولاية بدية:
* كما تطرق ممثل ولاية بدية إلى مؤشرات أدائه كعضو في المجلس، داعياً جميع أعضاء الشورى الحاليين إلى تقديم مؤشرات أدائهم إلى أهالي ولاياتهم لأن لهم حقاً في معرفة أوجه الأداء وطرقه، مبيناً أنه حضر جميع جلسات المجلس ال 86 ما عدا جلسة واحدة توافقت مع مهمة عمل خارجية له، كما حضر جميع الجلسات المشتركة لمجلسي الدولة والشورى، كما مثّل المجلس في اللجنة العامة لمجالس الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي، وترأس اللجنة الثقافية والقانونية وحوار الحضارات والأديان فيه.
* وفي المجال التشريعي أكد أنه حضر وساهم في مناقشة جميع القوانين التي تطرق إليها عمل المجلس وعددها 33 قانوناً، كما ساهم في مناقشة الاتفاقيات الاقتصادية والاجتماعية التي أحيلت إليه.
* وفي المجال الرقابي استعرض ممثل ولاية بدية الأدوات البرلمانية التي قدمها أو ساهم فيها، بما في ذلك مناقشة البيانات الوزارية ال 17 التي قدمها الوزراء في المجلس، والأدوات البرلمانية الأخرى وعددها 21 أداة برلمانية تتنوع بين الرغبة المبداة (المقترحات)، والأسئلة البرلمانية، وطلبات الإحاطة، وطلبات المناقشة وطلب الاستجواب.

تمثيل الولاية في المصالح العامة:
* كما استعرض ممثل ولاية بدية الجهود المتعلقة بتمثيل الولاية في مصالحها العامة واحتياجاتها التنموية، مستعرضاً بعض المؤشرات الرقمية لذلك كعدد اللقاءات مع الوزراء ورؤساء الوحدات الحكومية أو نوابهم خلال السنوات الأربع الماضية، وآخرها خلال هذا الأسبوع، متطرقاً إلى بعض الموضوعات المتعلقة بمصالح الولاية التي تطرح فيها عادة، والأثر الإيجابي لهذه اللقاءات على مصالح الولاية والجهود التنموية فيها، مقدماً شكره وتقديره لجميع المسؤولين الذين التقاهم على جهدهم واهتمامهم وتجاوبهم. 
* قدم ممثل ولاية بدية إحصائيات رقمية لعدد المتابعات والمخاطبات في كل سنة من السنوات الأربع التي مثل فيها بدية في المجلس على اختلاف قضاياها وأغراضها واتجاهاتها، موضحاً أنها تصل إلى 736 خطاباً في كافة القضايا، منها 235 متابعة وخطاباً في قضايا واحتياجات عامة بمختلف مستوى أهميتها، تتعلق بمطالب الولاية أو بحل بعض الإشكالات أو التعقيدات القائمة، و48 منها في الشأن البرلماني داخل المجلس، والباقي منها متعلق بمطالب واحتياجات المواطنين.

توثيق العمل المؤسسي:
* أكد ممثل ولاية بدية بأنه مكتبه أعد قوائم سنوية لكل القضايا العامة التي تابعها ممثل الولاية بمختلف مستوياتها وأهميتها، كما أن كل هذه الملفات محفوظة ومؤرشفة الكترونياً، وستسلم إلى ممثل الولاية القادم في المجلس ليواصل متابعة ما لم يتحقق منها، وأن كل ما قدمه من إنتاج مكتبه خلال السنوات الأربع محفوظ ومؤرشف ورقياً وإلكترونياً، ودعا إلى حفظ ملفات الولاية وتوثيقها، ونقل تمثيل الولاية إلى طور مؤسسي منظم ومستدام لا يرتبط بالعضو نفسه بل بمسؤوليته ومهمته. 

دعم مشاريع الشباب والمؤسسات الصغيرة والمتوسطة:
* كما استعرض ممثل بدية المبادرات والجهود التي تمت خلال السنوات الأربع، ممثلاً على ذلك بدعم المؤسسات الصغيرة والمتوسطة ومشاريع الشباب متطرقاً إلى إحصائية رقمية ضمت 36 مؤسسة صغيرة أو متوسطة سعى ممثل ولاية بدية إلى دعمها وإيجاد تسهيلات لها بمختلف الطرق الممكنة، ومدى استفادت هذه المؤسسات من ذلك.

بعض نتائج الجهود خلال الأربع سنوات الماضية:
* خلص ممثل ولاية بدية إلى نتائج تلك الجهود خلال السنوات الأربع مبيناً أن أعضاء مجلس الشورى إنما يقومون في ذلك بواجبهم ومهمتهم الملقاة على عاتقهم، إذ ينقلون احتياجات ومطالب الولايات إلى متخذي القرار وللمواطنين حق مساءلتهم في ذلك، وعليهم التبيين والتوضيح لأهالي ولايات هم. كما أكد على أن المنجزات التنموية هي في الأساس مبرمجة ضمن خطط التنمية الخمسية وجزء من تخطيط الحكومة التنموي، ويعتمد تنفيذها على الموارد المالية وتحدده الأولويات، ودور عضو مجلس الشورى يأتي أحياناً في الإقناع باحتياجات ولايته وضروراتها، ونقل مطالب المواطنين للدفع ببعض المشاريع التنموية إلى أولوية التنفيذ، وما تحقق من بعض المشاريع، كشبكة مياه بدية، أو الجهود المتعلقة بمشروع الطرق الداخلية للولاية التي ننتظر الإعلان عنها، وشبكة النطاق العريض في الولاية، أو بعض التسهيلات على طريق الشرقية السريع يأتي في سياق التخطيط التنموي الذي يسعى ممثل الولاية إلى متابعته وفق احتياجات ومطالب المجتمع.

دعم المبادرات الأهلية:
* كما تطرق إلى عدة مبادرات أهلية ناجحة أو هي في طريق النجاح خلال الأربع سنوات الماضية من بينها: مؤسسة بدية الوقفية، والإشهار الرسمي لفريق بدية الخيري، ودعم مسار الشركات الأهلية، وتوضيح حقوق المسؤولية الاجتماعية للولاية وتوظيف بعضها في مشاريع نفع عام للولاية كمصليات العيد، وميدان الرماية، وميدان الهجن الجديد، وملتقى شمال الشرقية الاقتصادي، والحملة التوعوية "بدية بلا مخلفات بلاستيكية"، ومبادرة الاستزراع البيئي، واللجنة الأهلية السياحية، وغيرها من المشاريع والمبادرات التي تم إشهارها ونرجو لها التوفيق في المستقبل إن شاء الله. 

نقاش وحوار:
* أجاب مثل ولاية بدية على أسئلة الحاضرين ونقاشاتهم حول ما طرحه تقرير الأداء سواء منه ما يتعلق بالمجلس أو بأداء ممثل الولاية نفسه، كما تمنى في الختام التوفيق والنجاح لممثل الولاية وعضو المجلس الذي ستنتخبه بدية خلال الأيام القادمة، مؤكد استعداده التام للتعاون معه، لكل ما من شأنه مصلحة الوطن العليا، ومصلحة الولاية التنموية.

الجمعة، 10 مايو 2019

إدجار موران وثورات التقنية والمستقبل

إدجار موران وثورات التقنية والمستقبل
نشرته مجلة التفاهم في العدد 63، شتاء 2019م/ 1440هــ
قراءة ومناقشة لآراء الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي "إدجار موران" حول إشكالية التفاهم واللاتفاهم في ظل ثورات التقنية المتلاحقة، من خلال كتابه "تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل"

محمد بن سعيد الحجري

* عصر التحولات الخاطفة وإرباك الوعي الإنساني: 
إن ارتباط التحولات الجذرية في التفكير الإنساني والسلوك البشري الاجتماعي بالآلة وسطوتها أمر معهود في الوعي الإنساني تاريخياً، غير أنه في عصر ثورة المعلومات أخذ بعداً مفاجئاً لا تتم فيه النقلات بين عصر آفل وعصر قادم بسلاسة وتدرج، إنها حالة من القفزات المتلاحقة الهائلة وليست سيراً بطيئاً أو سريعاً كالذي ألفته البشرية في عصور سابقة، فلقد وسمت العصور على الدوام بأهم أدوات الحضارة "العصر الحديدي"، و"العصر البرونزي"، وجعل ابتكار الكتابة حداً فاصلاً بين عصور ما قبل التاريخ وما بعدها! ثم "عصور الاستكشاف" التي ارتبطت بتطوير علوم الملاحة وصناعة السفن، وأخيراً "عصر الصناعة"في القرن التاسع عشر وإلى ما بعد منتصف القرن العشرين، غير أن كل تلك النقلات احتاجت لمديات زمنية طويلة، كان بوسع الوعي الإنساني استيعابها والتكيف لها، مما يعطي الفرصة لأن يعيد الوعي تهيئة نفسه للنقلات والتغييرات على تفاوت بطبيعة الحال بين الأمم وفق تقدمها الحضاري والتكنولوجي؛ فذلك إذن أمر مألوف في الحالة الإنسانية، أما غير المألوف هنا فهو سرعة التغيير وفجائية التحولات مع ارتباط سمة العصر بالتقنية المعلوماتية، التي تحدث نقلات شاسعة تربك الوعي الإنساني بمضاعفة المعرفة كل بضع سنوات، وبتحديث وسائل الاتصال وابتكار أدوات تواصل جديدة على الدوام، مع أخذنا في الاعتبار أثر كل ذلك على الأنساق الثقافية إذ "لكل آلة ثقافتها" كما يقال. 
هذا الإرباك المتوقع والماثل للوعي الإنساني ناتج عن كسر استقرار الثنائيات المتضادة التي بني عليها الوعي الإنساني، كما نبه "نبيل علي" - في أكثر من مناسبة -، وهي ثنائيات من قبيل: الفردي - الجمعي، المادي - اللامادي، الخيالي - الواقعي، المحلي - العالمي، الإنساني - الآلي، الحالي - التاريخي ... إلخ، فكل هذه الثنائيات المتضادة "تقليديا" والتي تعود إلى الإرث "الديكارتي" القديم تعرضت للكسر في هذا العصر، فمفاهيمها المستقرة في الوعي الإنساني اهتزت في الواقع ولم تعد كما هي، فإذا كان عصر ما قبل المعلومات قد انحاز إلى طرف منها أو عجز عن الموالفة بينها، فإن عصر المعلومات قد كسر هذا التضاد وتمكن من الموالفة بينها وجمعها في الحالة الإنسانية دون تناقض (انظر نبيل علي، نادية حجازي، الفجوة الرقمية، ص 201، 241) وهذه الحالة الجديدة في الوعي الإنساني تؤدي إلى كل هذه الالتباسات، والتحديات والفرص في آن معاً؛ فإذا كان القرن العشرين هو قرن "اللايقين"، فإن القرن الحادي والعشرين هو "قرن التعقد" الذي تجاوز سهولة هذه الثنائيات البسيطة التي كانت تحكم نظرتنا للوجود، وما يقوله نبيل علي يقوله أيضاً "روبرت أورنشتاين" و"بول إيرش" في كتابهما "عقل جديد لعالم جديد" فهما ينصان على كون "الجهاز الذهني البشري عاجزاً عن تفهم العالم الجديد، لم يعد جهازنا العصبي ــ مع تزايد تعقيد الحياة المعاصرة ــ متلائماً مع واقع عالمناً اليوم" لأن هذا العالم "ليس من ثابت فيه سوى التغيير ذاته"!!( روبرت أورنشتاين، وبول إيرش، عقل جديد لعالم جديد، ص4)، ولذا فإن فكرة كتابهما ــ الذي صدر في التسعينيات ــ قائمة على محاولة تقديم مناهج لتطوير عقل جديد يصلح لعالم جديد ينتظرنا (يومها في منتصف التسعينيات)، الذي هو واقع نعايشه الآن يومياً؛ وجزء من إرباك الوعي الإنساني قادم من ناحية أنه لم يكن هناك استعداد كاف لدخول هذا العصر "المعقد". 
ومن بين مظاهر حالة الإرباك هذه ما يتحدث عنه إدجار موران من ازدواجية "الفهم" "اللاتفاهم"، "التواصل" "اللا اتصال"، بحيث إن التقارب الإنساني الذي أنتجته وسائل عصر المعلومات كان يفترض به أن يؤدي إلى مزيد من التواصل فإذا به يؤدي إلى عكس ذلك، وما كان سيعطي فرصة أكبر للفهم أدى إلى مزيد من "اللاتفاهم"، يقول موران في ذلك: "إنها لوضعية مفارقة تلك التي نعيش عليها في أرضنا، فالترابطات تضاعفت والتواصل ازدهر، إذ تم اختراق الكوكب بشبكات الفاكس، والهواتف النقالة، والمحطات الصوتية، والانترنيت، صحيح لقد تنامى الوعي بضرورة تضامن الناس مع بعضهم في حياتهم وفي مماتهم، ولكن رغم ذلك فقد أصبح اللاتفاهم عملة سائدة بين الناس، بالتأكيد حصل تقدم بأشكال كبيرة ومتنوعة في مجال الفهم، ولكن بالموازاة من ذلك يبدو أن اللافهم لا يزال يعرف تقدماً كبيراً" (إدجار موران، تربية المستقبل، ص 87، ترجمة عزيز الأزرق ومنير الحجوجي)، كما يرى "موران" مفارقة أخرى تتجلى في تأزم التفاهم بين الأقرباء ــ جغرافيا أو ثقافياً ــ وانفتاح فرص التفاهم بين البعداء ــ جغرافياً أو ثقافياً ــ، وهو ما يعبر عنه في خلاصة مفادها "كلما كنا قريبين من بعضنا البعض قل تفاهمنا... لأن التقارب يمكن أن يغذي كل أنواع سوء الفهم وأشكال الغيرة والعدوانية" (موران، تربية المستقبل، ص 88)، ويمكن بسهولة أن نجد برهان ذلك في حالتنا العربية الإسلامية، غير أنه في هذه الحالة ليس تجلياً مجرداً لإشكالية (التواصل – اللاتفاهم) فحسب!، فهناك أطراف تمارس التأزيم عبر توظيفها المذهل لآليات التواصل في مزيد من "التقاطع"، واستثمار حالة التسطيح والجهل التي يعاني منها الشباب لإعادة صياغة نموذج جديد سواء لباعث الرسالة الإعلامية أو متلقيها، بينما لا تزال النماذج التي تنحو لتوظيف التقنيات في (التواصل – التفاهم) مغمورة بالسيل العارم من خطاب "التنابذ" والتقاطع، مع أن هذه النماذج موجودة ويمكن التدليل على وجدها في خطاب أفراد أو مؤسسات غير أنها لا تزال بعيدة عن قدرتها على إعادة ترتيب الوعي المسلم؛ إنها على وجه العموم حالة من الإرباك المستشري التي وجدت من يستفيد منها ويوظفها لأي غاية كانت شخصية أم مذهبية أم حزبية، مع العمل على نقله من حالة اضطرار وإرباك إلى حالة اختيار واستمراء لسوء الفهم، إلى حد أن الناظر بادئ الرأي في أي مناسبة للحوار حول حدث أو فكرة أو سياسة أو شخص يجد وكأن الأصل فيها قائم على التقاطع والسجال والعنف اللفظي وتتنحى أي مساحة للتفاهم أو الفهم. 

* هل الفهم وحده غاية التواصل الإنساني؟: 
يرى إدجار موران كذلك أن الفهم هو في الوقت نفسه وسيلة وغاية التواصل الإنساني، فلا يمكن أن يكون هناك تقدم في مجال العلاقات بين الأفراد والأمم والثقافات من دون "فهم متبادل" (موران، تربية المستقبل ص18، 98) ومع ما تحمله هذه النظرة من مثالية بسبب أن غاية التواصل الإنساني ليست الفهم وحده، بل هناك غايات أبعد منه أو موازية له وأهمها: التأثير وتغيير الاتجاهات وتعميم الأفكار ونشرها، عدا عن بناء الشراكات وتبادل المصالح، وغير ذلك، وكلها تؤثر بشدة على التواصل وأشكاله وأساليبه ومضامين رسائله، عدا عن أن الغايات الأخرى للتواصل (غير الفهم) هي التي تعطل مسار الفهم المشترك اليوم، فهي عادة تستهدف التأثير أو تغيير القناعات وتعبئة الرأي العام، ولذا فإنها تؤدي إلى الاحتشاد والاحتشاد المضاد، وإشاعة السجالات المتعصبة التي لا تعطل الفهم والتفاهم فحسب، بل تعمق الانقسامات والصراعات وترسخ الكراهية، مع ذلك كله فإن ما ذكره موران لاحقاً من استحالة بناء العلاقات دونما فهم متبادل هو صحيح تماماً، وكذلك تشديده على ضرورة "إصلاح العقليات" لإعادة الاعتبار للأهمية الحيوية للفهم، واقتراحه أن ذلك "يستلزم بطريقة متناظرة إصلاح التربية"، إذ من الواضح أن كل المشكلات الإنسانية تعود في المؤدى النهائي إلى التعليم والتربية! ولذا نجده يقترح "التربية على التفاهم" كإحدى سبع ضرورات أساسية لتربية المستقبل. 

* فهم الذات قبل فهم الآخر: 
وفي شرحه لمعنى الفهم يتوغل إدجار موران في ما يشبه التحليل النفسي لعملية "فهم الآخر" باعتبار أنها ليس إدراكاً موضوعياً (خارجياً) بل هي إدراك ذاتي يتعلق بوعي الإنسان بذاته أولاً، فتكون عملية فهم الآخر "مكونة من محاولة معرفة الغير والسعي نحو التطابق معه والقيام بإسقاطات عليه" (موران، تربية المستقبل، ص88)، وقد نرى بأن ما قدمه موران هنا من أهمية هذا الاستبطان الذاتي للآخر عند محاولة الفهم هو صحيح فقط في حالة التوجه إلى الفهم برغبة في التواصل وبناء التفاهم، وهو ما لا يحدث في كثير من الأحيان بل يحدث عكسه أو خلافه، وإذا ما أحلنا هذا الأمر على حالات التواصل عبر وسائط ثورة المعلومات (وهو ما بنى عليه موران كتابه) فإننا سنجد أن الرغبة في التفاهم أو الفهم المشترك قد تراجع كثيراً لصالح غايات أخرى بعضها سياسي وبعضها آيدولوجي أو حتى تجاري، وهو ما يعلل اليوم ظاهرة ما يسمى بــ "الجيوش الالكترونية" التي تحتل مساحة غير قليلة من شبكات التواصل، وهي لا تقصد مطلقاً إلى الفهم المشترك، بل غايتها التأثير وسوق الرأي العام نحو قناعات مسبقة ومقصودة، مع ذلك قدم موران تحليلاً مهماً لـ "عوائق الفهم" سواء منها تلك "الخارجية" أو "الداخلية"(موران، تربية المستقبل، ص88-92) ، وهي سلسة من التمركزات حول (الذات – العرق – المجتمع) التي تنتج تفكيراً اختزالياً تبسيطياً لا يرى في الحالة الإنسانية المركبة سواء كانت فرداً أو مجتمعاً إلا بعداً واحداً "اختزال شخصية متعددة بطبيعتها في إحدى خاصيتها"، وهي رؤية مضللة حقاً ترى في الآخر البعد الذي نرغب في نحن وليس سواه، ومن هنا فإن تغذية الصور النمطية (السلبية عادة أو الإيجابية) للآخر يزداد ليمثل العائق الأكبر للفهم، وكل ما ذكره موران من عوائق الفهم تؤكد حقيقة واضحة أن الواقع يمضي بعيداً جداً (وبدفع متعمد في كثير من الأحيان) نحو مزيد من تعميق حالة عدم الفهم (اللافهم)، خاصة وأن ما نادى به موران من ضرورة التربية على الفهم لا يزال أمراً بعيد المنال، وأن طبيعة التواصل البشري (عبر الوسائط الحديثة) وشعبويته تجعله بعيداً عن غايات النخبة للفهم وبناء التفاهمات وتعمق هوة التقاطع والتنابذ. 

* فهم الذات والآخر، وأسئلة الهوية: 
يتعمق موران في تحليله لعملية فهم الآخر وآليات عملها وكونها عملية ذاتية في المقام الأول وليست موضوعية مجردة وهو يوجزها في عبارة "يحيل الفهم الإنساني على معرفة الذات للذات" ويفصلها قائلاً: "إننا لا ندرك الغير إدراكاً موضوعياً فقط، بل إننا ندرجه كذات أخرى نتطابق معها أو نجعلها متطابقة معنا، إنه أنا آخر وقد أصبح غيراً (ذو أنا مستقلة)، يتضمن الفهم سيرورة مكونة من محاولة معرفة الغير، والسعي نحو التطابق معه، والقيام بإسقاطات عليه، وبما أن الفهم دائماً مسألة بين ذاتية، فإنه يقضي بالضرورة الانفتاح، والتعاطف، والأريحية"(موران، تربية المستقبل، ص88)، غير أن هذه الرؤية في فهم الآخر الشديدة الاتصال بالذات والانطلاق منها تجعلنا نطرح السؤال الأكثر حساسية وتعقيداً فيما يتعلق ببناء علاقات التفاهم بين الأمم، والتربية والتعليم محور أساس في بنائها، وهو سؤال متصل كذلك بالواقع وإملاءاته، مع اتصاله كذلك بــ "فهم الذات" وأثرها على فهم الآخر، وهو التالي: 
كيف يمكن في آن واحد بناء هوية ذاتية (دينية، وطنية، ثقافية) قوية، مع بناء قدرة عالية على استيعاب الآخر وتفهمه؟ إذ بناء الهوية يستلزم تلقائياً قدراً من التحيز للذات (دينية، وطنية، ثقافية)، كما يستلزم في ذات الوقت وعياً مستبطناً أو معلناً باختلاف الآخر. 
كيف يمكن الموازنة بين الأمرين؟ في ظل حقيقة أن هذه المشكلة المعقدة أصلاً هي أقل تعقيداً في حالة المجتمعات القوية "الغالبة" حسب تعبير ابن خلدون، حيث لا يوجد خوف على الهوية أو ذوبانها، عكس المجتمعات الضعيفة "المغلوبة" حضارياً، التي تكون مشكلتها أكثر عمقاً، فسؤال الهوية عندها مطروح وملح دائماً، والارتجاجات الاجتماعية حاضرة دائماً تجاه تهديدها سواء كان وهماً أو حقيقة. 
ولذا فإن "محمد بالراشد" في سياق عرضه لأفكار "موران" طرح سؤالاُ لـ "جان بياجيه" ووصفه بأنه "سؤال ذكي وخطير"، وهو: "كيف نربي على وطنية طاهرة، خالية من كل ضروب التعصب والتطرف وكره الأجانب؟" (محمد بالراشد، مقال: تعليم التفاهم عند إدجار موران، مجلة التفاهم عدد 42) لكن طرح بياجيه له كان مخففاً لأنه يتعلق بالمجتمعات "الغالبة"، ومناقضاته لا تتعدى بعض الممارسات تجاه المهاجرين، أما في حالة المجتمعات الأخرى فإن هذا السؤال لن يكون سؤالاً "تحسينياً" بل هو سؤال "ضروري" يتعلق بالوجود ذاته، وجود الهوية من عدمها، فالفهم والسعي إليه يقتضي حتى حسب إدجار موران قدراً عالياً من فهم الذات، ومن وجهة نظري أن فهم الذات غير كاف هنا ذلك أنه كذلك يقتضي قدراً عالياً من الثقة والقوة والشعور بالطمأنينة على الذات، لكي يتم في مناخ سليم ليس فيه قدراً من الذعر على الهوية. 
ولابد في السياق ذاته من إعادة التأكيد بأن بناء الهوية في سياق التهديد الحضاري سيكون بناء دفاعياً، يجنح تلقائياً إلى التمركز حول الذات والتمترس وراءها أمام موجات التغيير وربما الاجتثاث الحضاري، أي أن الأولوية للوعي بالذات والتعبئة بها قبل أي شيء آخر، هذا بالنسبة للمجتمعات التي تعيش حالة الضعف الحضاري، وفي الحالات المقابلة فإن بعض المجتمعات الغالبة تجنح إلى تعميم نموذج هويتها الحضارية لتكون أممية، وهذا هو سبب الاستنفار الذي قوبلت به "العولمة" في النصف الثاني من التسعينيات وحتى بداية الألفية الثالثة، وهو ما انتبه إليه موران كذلك حين دعا إلى "عولمة الفهم" بدلا من عولمة النموذج الحضاري، منبهاً إلى أنه لا توجد ثقافة في غنى عن غيرها من الثقافات وأن هذا الأمر ينطبق على "الثقافة الغربية المتكبرة التي فرضت نفسها كثقافة معلمة" (موران، تربية المستقبل، ص96). 
هذا السؤال يمكن أن ينفتح باب الإجابة عليه حين نسأله بطريقة مختلفة فنقول: هل بناء هوية قوية دينية كانت أم ثقافية أم وطنية، يعطل إمكانات التواصل وبناء التفاهم مع الآخر أم يعززها؟ 
نعم إن بناء مهارات التواصل الإنساني ومهارات الفهم للآخر هو أمر ضروري عبر برامج التربية المختلفة، لكن من حيث الأصل يظل هناك معنى كبير لبقاء الهويات المختلفة مختلفة، إذ هي التي تعطي معنىً حقيقياً لجدوى التعارف، فقد نبهنا الله تعالى إلى أن الاختلاف وجد أصلاً لصناعة "تعارف" فقال "وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا"(الحجرات/13) فالتعارف في هذه الآية يكاد يكون سبباً لا نتيجة، فهو سبب لجعلنا شعوباً مختلفين، إذن فالتعارف لم يكن لصب الهويات المختلفة في قالب هوية واحدة، بل لبناء المعرفة المتبادلة، ومن ورائها المصالح المتبادلة، ومن وراء ذلك تعمير الأرض وبناء الحضارة، والتعارف يكون ذا جدوى بين المختلفين ولو في أدنى حد من الاختلاف، ولا يكون مجدياً ــ بذات القدر على الأقل ــ بتعارف المتطابقات أو المتشابهات، فالثراء الإنساني ينمو بالتنوع والتعدد لا بالتكرار والتشابه!. 

* الفهم أم المعرفة؟: 
لعلنا ونحن نحاول الإجابة على أسئلة الهوية، وفي سياق تأملنا لدلالات الآية القرآنية السابقة نقف عند حد المقابلة بين مصطلحي "الفهم" و"المعرفة"، أيهما أجدى؟ وأيهما أكثر دفعاً باتجاه التقارب والتفاهم. 
إن "الفهم" هو أداة لغاية هي "المعرفة"، ولذا ترد مادة "فهم" فعلاً في القرآن ولا ترد اسماً "ففهمناها سليمان"(الأنبياء/79) فهو بذل للجهد باتجاه المعرفة والكشف، مع كل ما يحيط بمفردة "المعرفة" من وعي بالأبعاد المختلفة لموضوع المعرفة، ومن نفي للجهل بالآخر المؤدي عادة إلى العداوة. 
إن البناء الحكيم لهوية قوية عارفة بذاتها واعية بمكونها الثقافي ومرجعيتها الحضارية وإسهاماتها تجاه البشرية يعزز التواصل ولا يعوقه، وهذا ينطبق على حالات المجتمعات التي تعيش حالة الشهود الحضاري أو تلك التي تعيش حالة الضعف الحضاري، وبدون بناء هذه الهوية القوية سيعترض مسار التعارف "التفاهم" تعقيداتٌ واقعية هائلة، لعل أولها تلك الانقسامات الحادة داخل المجتمعات نفسها، وبروز تيارات التعصب والكراهية، وكلها ناتجة من أحد أمرين: إما الخوف على الهوية الذي يدفع إلى الانكماش والتقوقع، أو الشعور بالاستعلاء الحضاري الذي يدفع إلى التعميم والنمذجة والاكتفاء بالتصورات المسبقة. 
وهذا التأثير العميق لـ "فهم الذات" (إيجاباً أو سلباً) على التفاهم نجد الإشارة إليه واضحة عند إدجار موران في سياق حديثه عن "نزعة التمركز حول الذات" التي هي إحدى معوقات الفهم، فهو يرى أن "عدم فهم الذات هو مصدر مهم جداً لعدم فهم الغير، فنحن نخفي عن ذواتنا عيوبنا ونقاط ضعفنا، الشيء الذي يجعلنا غير متسامحين مع عيوب ونقاط ضعف الغير"(موران، تربية المستقبل، ص90)، ورغم أن موران يتجه هنا لتحليل انعكاس "فهم الذات" على تواصل وفهم الآخر من زاوية الفرد كما هو واضح، لكن الأمر ذاته ينطبق على المجتمعات بعائق آخر للفهم هو "نزعة التمركز حول العرق، ونزعة التمركز حول المجتمع" إذ هي التي تدفع عادة إلى الاستكبار واحتقار وتقزيم ما لدى الآخر؛ ومن وجهة نظري أن الأمر هنا لا يتعلق بالمجتمعات المتقدمة أو غير المتقدمة، فهو قد ينطبق على المجتمعات المتقدمة بسبب ذلك الشعور بالاستعلاء والقوة والاكتفاء الذي يستبد بها، حيث يوصيها موران في سياق حديثه لاحقاً عن أخلاق الفهم بقوله: "على الثقافات الغربية المتكبرة، التي فرضت نفسها كثقافة معلمة أن تصبح ثقافة متعلمة أيضاً" (موران، تربية المستقبل، ص 96)؛ كما ينطبق من وجهة نظري كذلك على المجتمعات المقابلة "المجتمعات غير المتقدمة" بسبب خوفها المفرط على هويتها وصناعة طوق من الرفض للآخر حولها، أو كنوع من تعويض التخلف بوهم التميز وازدراء الآخر حتى وإن كان متفوقاً، وهذه المجتمعات مع أن وضعها تجاه التواصل وبناء التفاهم أكثر تعقيداً إلا أن فهمها لذاتها وإدراكها لهويتها وتكوين "الهوية الصلبة" قد يمكّنها ــ إن تحقق ــ من التواصل مع الآخر دونما خوف من تهديد بالذوبان، ولا حاجة هنا للتذكير بأن تعقيد وضع هذه المجتمعات ناجم عن مطالبتها بموقفين في الوقت نفسه: المحافظة على الذات والهوية من ناحية، والانفتاح من أجل الاقتباس من الآخر والاقتباس لا يمكن الفصل فيه بسهولة بين المقتبس وسياقه الحضاري الثقافي عند الآخر، لكن المهم هنا هو أن لا نقع في مأزق "الهويات القاتلة" كما يسميها الروائي والكاتب "أمين معلوف" على أن موقفه كان رافضاً في الأساس أن هناك هوية واحدة متحيزة ونهائية (انظر أمين معلوف، الهويات القاتلة، ص 31). 

* تساؤلات حول أخلاق الفهم: 
تحت عنوان "أخلاق الفهم" يقدم موران آراءً مهمة هي أشبه ما تكون بالوصايا التي تتمحور على كيفية فهم الآخر بل و"فهم عدم الفهم"، وهو معنى في غاية النبل يجد العذر للآخر في عدم قدرته على الفهم، ساعياً إلى كسر الحلقة المفرغة لعدم الفهم. (موران، تربية المستقبل، ص 93 وما بعدها). 
لكنه في لحظة ما وأثناء محاولته التنبيه على الطبيعة المركبة للشخصية الإنسانية، نجده يشط في النظر إلى حد القبول بوجود الوجوه المتعددة للشخصية الإنسانية، أي أننا نقبل على سبيل المثال بخيرية ما في بعض جوانب شخصيات قطاع الطرق كما في أعمال شكسبير؛ إن المقلق هنا ليس التسليم وجود هذا التركيب في الشخصية الإنسانية التي يستحيل تمحيضها للشر أو للخير المطلقين، لكنه في ما نخشاه من نزعة تبريرية للإجرام أو الانحراف، قد تغالي في تقديمها الأعمال الفنية (الدرامية أو المسرحية) التي رأى أنها باب لفهم هذه الطبيعة المركبة للإنسان، وهو ما نجده اليوم على نطاق واسع تجاه "المثلية الجنسية" على سبيل المثال، التي يتوالى القبول القانوني والاجتماعي بها في المجتمعات الغربية؛ إن السؤال الذي سيطرح نفسه بقوة هنا أين هي الضمانات لإبقاء إلزامات القيم الأخلاقية الفطرية كما هي دون إضعاف؟ وما الضمانة في ألا يتحول فهم الطبيعة المركبة للشخصية الإنسانية إلى تبرير يقبل باختراق القيم؟ وبمعنى آخر إن التوغل والمضي بعيداً في ذلك قد ينهي في مرحلة ما التصنيف الأخلاقي والقانوني للجريمة والشر والانحراف! وهو ما بدأنا نرى نذره في المجتمعات الغربية وبتواطؤ قانوني واجتماعي، مع وجود رفض ديني واضح من الكنيسة لكنه غير مؤثر أو حاسم. 
وكما لا حظنا سابقاً ما يمكن أن تؤدي إليه المغالاة في فهم الطبيعة المركبة للذات الإنسانية من تبرير أو قبول للشر، فإننا نجده أيضاً في سياق الحديث عن "أخلاق الفهم" كيف يرى أنه يجب الوعي "بخضوع الإنسان للأساطير وللأيدلوجيات وللأفكار وللآلهة، وكذا الوعي بالانحرافات التي تحمل الأفراد إلى مدى أبعد وخارج عن ذاك الذي كانوا يودون بلوغه" (موران، تربية المستقبل، ص 95) وفي ظل عدم تحديد الفصل بين معنى "الوعي" من ناحية و"الفهم" أو "التفهم" من ناحية أخرى فإن ما قدمه موران هنا قد يشبه نوعاً من "الجبرية" التي تتخفف في تأويلها الأبعد من المسؤولية الأخلاقية والقانونية والدينية؛ وفي محاولة البحث عن فهم أكثر واقعية فإن السؤال الذي نطرحه في مواجهة ذلك هو: أين ينتهي حد الفهم و"التفهم" ليبدأ "التعايش" بين الأغيار غير المتفاهمة أو التي لا يمكنها التفاهم إلا على صيغة من "التعايش"؟ وهل الفهم والتفاهم يتعلق بالضرورة بالمشاعر والمعتقد أم يتعلق بالسلوك؟ وهل ينبغي أن تفضي "المعرفة" أو"التعارف" أو"الفهم" أو"التفاهم" بالضرورة إلى قبول وتسليم بما لدى الآخر من معتقد أو تعاطف معه؟ أم أن غايتها تهذيب سلوك "المتفاهمين" أو"المتعايشين" تجاه بعضهما سواء كانوا أفراداً أم جماعات؟ 
ذلك لأن الفهم والتفاهم غاية سامية ولكنها ــ واقعاً ــ غير متحصلة في كثير من الأحيان، فإن لم يمكن الوصول إليها لأسباب اعتقادية أو واقعية فهل ينعكس ذلك على السلوك بين الطرفين أو الأطراف؟ 
يوجهنا الله في القرآن إلى قيمتين كبيرتين لا تتعلقان بالاعتقاد والمشاعر ولكنهما تتعلقان بالسلوك تجاه من يخالفنا في الدين ولم يبدر منه عدوان أو ظلم وهما قيمتا "البر" و"القسط" في قوله: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين"(الممتحنة/8)، وهو أمر يأتي في مقابل النهي عن "الولاية" لمن بادر بالعدوان والظلم؛ ومن هنا فإن جهد التفاهم والفهم المشترك ينبغي أن يتجه إلى السلوك والمعاملة كما يتجه إلى الوعي والمعرفة، وهو ما يفضي بنا إلى مقاربة أكثر واقعية، وأقرب إلى التحقق خاصة في ظل أجواء التدابر والتقاطع المحتدمة الآن. 
يشدد موران على التربية والديمقراطية كسبيلين أساسيين للفهم، باعتبار الثانية أسلوب حياة قائمة على التفاهم والحوار والحل السلمي والمشاركة، وهو تعويل سليم إلى حد بعيد تجاه هذين المسارين، فلا يمكن بناء فرد قادر على التفاهم مع الآخر إلا بامتلاكه مهارات الفهم للذات والفهم للآخر عبر برامج التربية التي صار من الضروري أن تعتمد مناهج خاصة بهذا الجانب؛ كما لا يمكن اختبار كل دعاوى الفهم والتفاهم والتعايش والتسامح إلا في ظل نظام يكفل العدالة والمساواة أمام القانون، والتوزيع العادل للسلطة والثروة، لأن هذا النظام وثمراته الناجزة في رخاء الشعوب واستقرار مجتمعاتها هو أول برهان على جدوى وفاعلية صيغ "التفاهم" و"العقد الاجتماعي" و"التعايش السلمي"، وهو ما يعطي شرعية ومنطقاً لتوجهات التفاهم مع الآخر، فقد طالما ضربت مساعي التفاهم مع الآخر وفقدت مصداقيتها داخلياً وخارجياً بسبب عدم قدرتها على صياغة نموذج تفاهم وتعايش داخلي مستقر ومنتج. 

في الختام لا بد من ملاحظة أن كل ما كتب عن الأبعاد الاجتماعية لثورة المعلومات، وأثرها على المجتمعات وعلى العلاقات الإنسانية بين البشر أو بين المجتمعات، كلها كتبت في أفضل حالاتها في نهاية التسعينات أو بداية الألفية الجديدة، بما في ذلك كتاب إدجار موران محل النظر هنا "تربية المستقبل، المعارف السبع الضرورية لتربية المستقبل" الذي أنجزت طبعته الأولى المترجمة للعربية في عام 2002م، وبعض ما ورد في هذا المقال من كتب أخرى، أنها كتابات كلها تحلل أو تتوقع الأثر الاجتماعي للتقنية في ظل الجيل الثاني لتقنيات الحواسيب والهاتف النقالة، ومع ذلك فقد كان واضحاً بجلاء أن التأثير هائل وكبير، لكن هذا التأثير يتعاظم ويتضاعف مع تقنيات الجيل الثالث والرابع حيث المدى الأوسع لاستخدام الهواتف الذكية، وما وفرته من تقنيات التواصل ذات الأثر العالمي صدمت المجتمعات الإنسانية من قدرتها الخارقة على تفجير ثورات، ومن صناعة تحولات في مصائر شعوب عديدة، وما أدت إليه من حالات الفوضى والصراعات العبثية، وما أطلقته في المنطقة العربية من موجة الجنون الطائفي الذي دمر مجتمعات كانت مستقرة، كما أسهمت هذه التقنيات في الحالة الشعبوية في بعض المجتمعات الغربية؛ غير أن ما قد تفتحه تقنيات الجيل الخامس من تغيرات، وما سيحدث عندما تأخذ "الثورة الصناعية الرابعة" في بلوغ أوسع مدياتها هو أمر مختلف كلياً يجعل ما سبق مجرد إرهاصات لما سيحدث، إذ يتوقع لها أن تكون نقلة هائلة في كل اتجاهات النشاط الإنساني لم يسبق له نظير ويصعب التنبؤ بمآلاته، فهي ثورة لم يشهد التاريخ البشري مثلها على الإطلاق، سواء من حيث سرعتها أو نطاقها، أو حتى تعقيداتها كما يصفها كلاوس شواب مؤلف كتاب "الثورة الصناعية الرابعة"، حيث يقود هذه الثورة محركات رئيسية هي : "الذكاء الصناعي، والروبوتات، والسيارات ذاتية القيادة، والطابعات الثلاثية الأبعاد، والبيانات العملاقة، والعملات الافتراضية، وانترنت الأشياء، والنانو تكنولوجي، والبيو تكنولوجي، وتخزين الطاقة، والحوسبة الكمومية" ويرى شواب كذلك أن العالم بسبب هذه الثورة "على أعتاب نقلة جديدة من شأنها أن تغير ليس فقط الصناعات وطرق الإنتاج، ولكن أيضاً المنظور المعرفي للبشر تجاه الأشياء بصورة عامة" (نقلاً عن إيهاب خليفة، في عرضه كتاب الثورة الصناعية الرابعة لــ كلاوس شواب، المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة)، ولذا فإن ما قدمه إدجار موران من تحليل لإشكالية المعرفة والفهم واللافهم في الحالة الإنسانية في غمار ثورة التقنية هو مهم من ناحية، لكن التحولات التي ستدهم المجتمعات الإنسانية في خضم الثورة الصناعية الرابعة قد تعصف به، ويبقى الأهم منه في ضرورة التربية على الفهم، واعتمادها مساراً رئيسياً للنظم التربوية، واعتماد أخلاق الفهم التي أوصى بها قاعدةً أخلاقيةً عالمية مضمّنة في المواثيق الدولية، لعلها تجد صيغة إلزام تجعلها محل اهتمام الحكومات والمنظمات الدولية، وبدون ذلك ستغدو هذه الدعوة كصرخة في واد محدودة الأثر في حالة إنسانية شديدة التسارع، تنحو إلى الاستقطاب والتعصب والكراهية رغم حالة الانكشاف والمعرفة.

الثلاثاء، 12 فبراير 2019

رؤية عمان ٢٠٤٠،، حتميات لا خيارات

نشر على حلقتين في جريدة الرؤية، ٧، ١٢ فبراير ٢٠١٩م.
د. مُحمَّد بن سعيد الحجري   






كان المؤتمر الوطني حول الرؤية المستقبلية 2040 هو الحدث الأبرز خلال الأسبوع الماضي، وهو المؤتمر الذي خُصِّص لمُناقشة مسودة مشروع الرؤية، بعد أنْ بُذلت خلال الأعوام الثلاثة الماضية جهودٌ مضنية لإنجازها في محطات متعددة، توخَّت أكبر قدر من الشراكة لتحقيق توافقٍ مجتمعيٍّ يضمنُ تعاون الجميع في إنجازها، وتحقيق أهدافها عندما تدخلُ حيزَ التطبيق، إنَّ حُسن التنظيم رغم ضخامة المؤتمر الذي قارب حُضُوره 3000 مشارك، وجَوْدة اختيار أغلب المتحدثين الدوليين، وارتفاع سَقف النقاش أمرٌ لابد من تهنئة مكتب الرؤية عليه؛ فقد كانت وثيقة الرؤية في حاجة لوضعها تحت نقاش مُفصِّل، هيَّأ له المؤتمر مناخاً ملائماً، كما أنَّ القائمين على الرؤية فتحُوا الباب للنقاش وللإضافة ولإبداء الملاحظات على كل ما ورد في مسودة الرؤية خلال هذين الأسبوعين اللذين تليا المؤتمر.

* حديث المصداقية ونقاشات الخبراء:
على حين بذل كثير من الخبراء العُمانيين والدوليين جهدَهم لدراسة الرؤية وتحليلها، لاحظ الجميع أن أكثرهم إقناعاً ومصداقية وجدوى هم الأكثر واقعية ووضوحاً في مواقفهم ومقارناتهم، ومن يقدم لك الحقائق دون تغليف كما هي لا كما نتمناها نحن، وهذا هو الأصل في الخبراء الدوليين، فأنت لا تتعاقد مع خبير دولي ليقول لك كلاماً أملس يُفرِحك سماعه حتى ولو كان خلافَ الحقيقة، بل ليقدم لك خلاصة تجربته أو تجربة دولته، وليضعك في هذا السياق من تجارب الأمم حتى تعرف أين موقعك؟ وإلى أين يجب أن تتجه؟ وما الخيارات الأفضل للوصول إلى هدفك؟
ومع كون المؤتمر وطنيًّا في الأساس وبذل فيه كثير من الخبراء العمانيين جهداً راقياً هو محل الاحترام والتقدير بلا شك فـ"الرائد لا يكذِب أهلَه" كما يقول المثل المأثور، لكنَّنا وجدنا أن بعض المتحدثين العمانيين لم يُكلفوا أنفسهم الاطلاع على الوثيقة فيما يبدو، ولم يُقدموا قراءة مفصلة لمسودة الرؤية، وتحليلاً لعناصرها كما تقتضي مهمتهم، وذهبوا لتكرار ذات الطرح المألوف الذي قد لا يتصل بالرؤية.
إنَّه لأمر مهم لمشروع الرؤية أن يستمرَّ النقاش بين الخبراء حولها عبر وسائل الإعلام، وكم كُنَّا نأمل أن تلتقط وسائل الإعلام هذه الفرصة، وتُطلق البرامج المتخصصة والمفتوحة لمناقشة مشروع الرؤية من كلِّ زواياها :الاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، وفي كلِّ محاورها الرئيسة الثلاثة، لكنَّ هذا النقاش الإعلامي المفصَّل لم يحدُث بعد، ونأمل أن نجده خلال الأيام المتبقية قبل رفع مسودة مشروع الرؤية؛ فهو واجبٌ حتميٌّ على وسائل الإعلام وعلى الخبراء كلٍّ في مجاله، وفي تقديري أنَّ هناك الكثيرَ من الخبراء العُمانيين -خاصة في مجالات الاجتماع والبيئة والتشريع والسياسة والعلاقات الدولية- ممن لم يحضُروا المؤتمر، أو حَضُروه ولم يجدوا فرصةً لتقديم آرائهم، يُمكن أن يجدوا في هذه المساحات الإعلامية فسحةً لآرائهم، وهي مِساحات أرجو أن لا تتأخَّر في الاهتمام بمشروع الرؤية.

* الهُوية الوطنية ومشروع الرؤية:
حُضُور الهُوية الوطنية والاعتزاز بها في مشروع الرؤية في محور "الإنسان والمجتمع" أمرٌ مهمٌّ جدًّا، أصاب المشروع في التأكيد عليه؛ فالهوية تمثل ركيزة "القوة الناعمة" للمجتمع، والتشبُّث بها ضروري، خاصة في مراحل التغيير التي تتخوَّف منها المجتمعات عادة وقد تقاومها، وهو ما ترجمه هذا المحور بعبارة "مجتمع إنسانه مبدع، مُعتز بهويته، مُبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام"؛ فالاحتماء بالهوية هو الذي يضمن الانطلاق في تطوير المجتمع بطمأنينة وثبات وثقة، بل هو في تجربة النهضة العمانية الحديثة كان ضَمانة للانطلاق في بناء الدولة والمجتمع، وهو أحد أسرار وعوامل نجاح النهضة في مشروعها منذ 1970م، والتمسُّك به سيعطي للمجتمع حصانة واثقة لتجاوز ضرورات التغيير وتحدياته بوثوق وصلابة.

* لوازم الشراكة المجتمعية..ومن يَقُود مشروع الرؤية؟
الشراكة المجتمعية مبدأ مُهم نصَّت عليه الأوامر السامية مع انطلاق صياغة مشروع الرؤية، وهو ما يقضِي بتوسيع دائرة الرأي من الجميع ليكونوا شركاء في وضع الرؤية، وليكونوا أكثر التزاماً وحرصاً على تطبيقها في المستقبل، لكن بعض الخبراء العُمانيين والدوليين نبَّهوا إلى عدة نقاط مهمة متصلة بهذا الجانب:
- أنَّ الشراكة في وضع الرؤية نعم تُحمِّل الجميع مسؤولية التطبيق في الحكومة وفي أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص، وفي المجتمع ومؤسساته الأهلية وأفراده، لكنَّ ذلك يعني بداهة وبالضرورة أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن تطبيق الرؤية؛ فالدولة بكل أجهزتها هي قائدة المجتمع، وهي صانعة التغيير، وهي التي تُدير سلسلة الأولويات الوطنية الثلاثة عشر التي حدَّدها مشروع الرؤية، ومن المهم أن ينص مشروع الرؤية على ذلك؛ فمسؤولية الدولة قائدة، ومسؤولية القطاعات الأخرى تابعة لمسؤولية الدولة الأولى.
- أنَّ الشراكة تفرضُ مزيداً من الإلزام بنقل الرؤية إلى حيز التطبيق، والمضي إلى ذلك قُدماً دون تردد أو تراجع، ويمكننا تصور أن هذا ما توخَّته الأوامر السامية التي ألزمت بهذه الشراكة.
- أنَّ ذلك سيتطلب مع تطبيق الرؤية إدارةً للتغيير وإدارة للتوقعات التي ينتظرها المجتمع كذلك، وهما أمران يُمثلان تحدياً هائلاً لأي مجتمع ودولة تقف أمام استحقاقات مفصلية، وأمامها سلسلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وهي في مناخ منافسة عالمي وإقليمي لا يتوقف، وهذا يقتضي قدراً عالياً من الحكمة والقرب من المجتمع والانفتاح عليه وإشراكه في السياسات، وإقناع المجتمع وكسب ثقته بجدوى السياسات في المستقبل المنظور والبعيد، حتى وإن اقتضت تغييراً أو انتقالاً من مسار معهود إلى مسار آخر.

* جدل المؤشرات الطموحة وحرق المراحل:
كان هناك جدلٌ كبيرٌ حول المؤشرات  الاقتصادية والاجتماعية الطموحة التي وضعها مشروع الرؤية أمام الأولويات الوطنية الثلاثة عشر، والتي أرادتْ لعُمان أن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة على مستوى العالم في بعض المؤشرات؛ فهناك من يراها مُغالية في طموحها أو غير واقعية، وهناك من يراها ممكنة التحقق بسبب عوامل الثقة التي تتمتع بها السلطنة وتعطيها ميزة تنافسية عن غيرها.
ومهما يكن الجدل في ذلك فإنَّ وضع هذه المؤشرات العالية، وهذه الجسارة على الطموح أمر متوقع فـ"من يتجرأ ينتصر"، فلنا أن نجسُر على الحلم، شريطة أن تكون الاستعدادات مكافئة للحلم، فهو أمر جيد لعدة أسباب لعل أقربها أنه من طبيعة الاجتماع البشري أن ما يتحقق وما يبقى من أي خطة هو عادة أقل من المخطط له؛ فإذا كان المخطَّط له منخفض الطموح أصلاً، فإن ما سيتحقق منه سيكون أقل بطبيعة الحال، ومع ذلك فإنَّ الحقائق الواقعية تُبرز نفسها، وتواجهك بقوة، وليس أمامنا إلا أن نتحلى إزاءها بـ"تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، فأنت لست وحدك في هذا العالم، وأن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة في عالم متحرك متغير ومنافس ليس أمراً سهلاً، فالآخرون يتحركون أيضاً وليسوا ثابتين، ولن ينتظرك أحد بينما أنت تتهيأ للانطلاق، وحين تنطلق أنت بسرعة 30 كم في الساعة، وغيرك ينطلق بسرعة 100 كم في الساعة، فذلك يعني تلقائيًّا أنك ثابت في مكانك، وغيرك يتحرك بسرعة 70 كم في الساعة.
ويُمكن القول هنا إنَّ تحقيق بعض هذه المؤشرات يتطلب وثباتٍ متلاحقة وحرقاً لكثير من المراحل، وحرق المراحل أصبح أمراً وارداً وممكناً في ظل الثورات التقنية المتسارعة التي غيرت العالم، والنقلة التحديثية الضخمة التي عرفتها عُمان منذ العام 1970م تؤكد قدرة عُمان على إحداث الفارق في مدد وجيزة ومفاجئة عندما يكون وراء التغيير إرادة حديدية مصممة ومثابرة. ومن هنا، فإنَّ تحقق هذه المؤشرات أو قريب منها مُمكن، لكنه مشروطٌ بشحن جميع المؤسسات بهذه الإرادة الحديدية، ومشروط بقيادات مؤسسية جسورة وحكيمة قادرة على صناعة التغيير ورفع أداء المؤسسات إلى أعلى معدلاته، وقادرة على فهم طبيعة المرحلة وما يرافقها من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتملك ذلك الحس السياسي الذي يدرك مستلزمات كل موقف وكل مرحلة من سياسيات وخطاب، ومن وراء ذلك والأهم منه المحاسبة المرتبطة بتحقيق المؤشرات أو الإخفاق في تحقيقها أو الاقتراب منها.

* الثابت الوحيد هو عدم الثبات:
لا بديل عن التفكير في المستقبل والتخطيط له، لكن وضع الرؤى المستقبلية البعيدة المدى هو أمر محفوف بالمخاطر في عصر اللايقين الذي تعيشه الإنسانية الآن؛ فحجم التغييرات التي تطال كل شيء وفي سنوات وجيزة يجعل التنبؤ بالمستقبل ووضع الحسابات تجاهه على أساس ما لديك من موارد بشرية واقتصادية أمراً عسيراً، وغير مضمون العواقب؛ فالثابت الوحيد الآن هو عدم الثبات، والمستقر الآن هو عدم الاستقرار، ولعلَّ أكثر هواجس المستقبل غير الواضحة هو مستقبل الطاقة وبدائلها، وهو أمر مصيري لكل اقتصادات الإقليم الذي نحن فيه، ويقترح بعض الخبراء تجاه موجات التغييرات المتلاحقة وعدم الثبات وانكسار اليقينيات أن تكون الرؤى المستقبلية مرنة للغاية ومحتملة بسهولة لخيارات التغيير، مع ثبات أهدافها العامة، وأن تبنى على أساس التخطيط لسيناريوهات متعددة متوقعة، وليس مساراً واحداً قد يفاجئنا بأنه في اتجاه مختلف تماماً، ومن الواجب علينا أن نسأن أنفسنا اليوم ما هي السيناريوهات الواردة التي سنواجهها وليس المتوقعة فحسب؟ وأن نفكر على هذا الأساس المتعدد التوقعات والحسابات سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، مصحوبة باستشعارنا حالة التنافس والتزاحم المتزايدة التي تملأ ساحات الاقتصاد والسياسة في الإقليم والعالم؛ ففي أجواء التنافس تحشد الأمم كل طاقاتها البشرية والمادية وتعبئ كل قواها الناعمة والصلبة، ولذلك فإن الشعوب الحية تكون في أقصى طاقاتها عندما تواجه التحديات وليس في أوقات الاسترخاء والدعة، ونحن لدينا من الطاقات والإمكانات ما لو عبَّأناها كما ينبغي لأمسكنا بكل فرصنا ووصلنا إلى أغلب أهدافنا، والتعليم ثم التعليم ثم التعليم هو أداة التعبئة والاستعداد الأولى، وهو الذي يجعلنا في مستوى الجاهزية الضروري لكل التحديات القادمة؛ إذ "إنَّ التعليم هو جواز سفرنا للمستقبل؛ لأن الغد ملك لأولئك الذين يعدون له اليوم".

رابط الجزء الأول من المقال في جريدة الرؤية:
رابط الجزء الثاني من المقال في جريدة الرؤية: