الخميس، 27 ديسمبر 2018

حول محاضرة الدكتور محمود جبريل (رئيس وزراء ليبيا الأسبق) "قيادة المؤسسات في عالم جديد"

حول محاضرة الدكتور محمود جبريل (رئيس وزراء ليبيا الأسبق) 
"قيادة المؤسسات في عالم جديد" 
محمد بن سعيد الحجري
   التقيت بالدكتور محمود جبريل قبل عدة سنوات إبان زياراته المتعددة للسلطنة، خاصة زيارته التي ألقى فيها محاضرته حول التخطيط التنموي في عام ٢٠١٠ التي نظمها مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، وبعض زياراته التي أعقبت ذلك، وهو أحد مفكري التخطيط التنموي البارزين، وأحد الخبراء في هيكلة وإدارة المؤسسات، وقضايا التدريب. 

التقيناه مجدداً هذه المرة محاضراً ضمن برنامج المحاضرات العامة لجامعة مسقط، ورغم تقلب الأحداث وتواليها به وبوطنه ليبيا ابتداء من عام ٢٠١١ وما بعدها، إلا أن عمان وأصدقاءه ومعارفه فيها لا يزالون حاضرين في ذاكرته واهتمامه وحفاوته. 

حضرت محاضرته المعنونة بــ"قيادة المؤسسات في عالم جديد" ودونت بعض الملخصات والملاحظات حولها أنشرها هنا بين أيديكم، وهي لا تعبر بالضرورة عن آرائه بقدر ما تعبر عن قراءتي لما طرحه. 

محاضرة الدكتور محمود جبريل
قيادة المؤسسات في عالم جديد

جامعة مسقط، ١٩ ديسمبر ٢٠١٨م. 

1- نوّه د. جبريل في البداية إلى أهمية الأفكار التي طرحها Yuval Noah Harari  في كتابه: "العاقل: تاريخ مختصر للجنس البشري" الذي يبحث في تطور الحياة البشرية وصولا إلى الحالة المعاصرة للإنسانية التي احتلت فيها ثورة المعلومات هذا القدر الهائل من الأهمية، إلى حد أن أجهزة التقنية الحديثة وما تتيحه من تواصل ومعلومات أصبحت امتدادا للجسد الإنساني.


2- هذا بطبيعة الحال يلقي بظلاله ويؤثر تأثيرا شديدا على إدارة المؤسسات، بحيث أصبح المرؤوس يمتلك من المعارف والمهارات والقدرة ما يجعل تجاهله أمرا ًغير منطقي أو عادل لأي مؤسسة، ومن هنا فلابد من إشراكه في إدارة المؤسسة واتخاذ القرار، ولذا تتعاظم أهمية تحويل المؤسسات إلى نمط الإدارة الأفقية بدلا من نظام الإدارة الهيرارشي الرأسي.

3- التسارع الشديد في حركة المجتمعات الإنسانية يجعل من عدم الاستقرار هو أساس الحالة الإنسانية، فلم يعد من الوارد الحديث عن عدم الاستقرار،  لأن الأصل أصبح عدم الاستقرار، وعدم اليقين هو القاعدة، وقد نبه د. جبريل إلى استخدامه الكثيف ل "قد" وربما" لأنه يرى أن إطلاقية المعرفة في زمن اللايقين مجازفة خطيرة، وأن التمترس حول الفكرة في زمن التغير هو مخاطرة.
4- في ضوء ذلك تزداد ضرورة اكتساب قادة المؤسسات لمهارة التدفق المعلوماتي، ومعها كذلك لابد من اكتساب مهارة التعامل مع التعقيد والتداخل الذي هو سمة العصر.
5- مع ضرورة تحول المؤسسات إلى الأفقية، لابد من التوجه لمزيد من التفويض، فإذا لم يكن هناك تفويض يحدث الإحباط والمغادرة، ولابد من تقلص الخوف من خطأ المرؤوسين، فلا يمكن التعلم دون خطأ.(الله أعطى للبشر إمكانية الخطأ وشرع التوبة).

6- عناصر الإدارة الأساسية باقية كما هي، والإضافة الآن هو في اتساع العلاقة بينها.
القيادة الراعية هي القيادة التي تخلق صفاً آخر من القيادة، فالقيادة ليست وظيفة بل دور. 
هناك من يمتلك رؤية بقيادات تربي قيادات بديلة داخل هذه المؤسسات وهناك من لا يمتلك.
7- لابد من الإدراك بأن هذه المؤسسة هي مجرد لبنة في بناء الوطن.
8- هناك تحول في مفهوم التنمية التي لم تعد تنمية محلية، التنمية أصبحت عولمية.
9- ليست هناك مشكلة في توفر الرؤى في البلدان العربية، فهي متوفرة، كما أنها تتحول إلى استراتيجيات، ثم خطط، ولكن المشكلة في قدرة المؤسسات على تطبيق الرؤية، فقد تعمل المؤسسات وتنتج ولكن قد يفشل الاقتصاد الكلي لأنها إنتاجها لا يصب في نفس الاتجاه.
10- في بناء الرؤى لابد من اكتشاف الميزة التنافسية التي تبني الهوية الاقتصادية للبلد، فهذه الميزة التنافسية هي التي يقوم عليها الاقتصاد الكلي، وهو الذي تدور عليه كل الأنشطة الإنتاجية والتعليمية، وتطور المهارات البشرية على أساسه.
10- مفهوم القوة اختلف وأصبح بمعنى المعرفة. 
هناك أناس يقرأون التاريخ وهناك ناس يصنعون التاريخ وهناك أناس لا يصنعون ولا يقرأون التاريخ.
11- الموارد تختلف عن الإمكانات، وشرح الفرق بين الموارد والإمكانات. 

طرحتُ على الدكتور جبريل سؤالين: 
يتعلق الأول منهما بالإدارة وتحول المؤسسات إلى نمط الإدارة الأفقية، والتوسع في التفويض، وما نراه واقعا ًمن تعاظم القناعة بضرورة التفويض مع التفاوت الذي نجده في توجه المؤسسات إليه، فهناك مؤسسات تسارع من توجهها إليه، وهناك مؤسسات تتمنع وتتردد، ما يجعل جهود تسريع الإجراءات بلا جدوى كبيرة نتيجة لتداخل أعمال المؤسسات، والملاحظ أن هذا التلكؤ لا يرتبط بالمسؤولية بقدر ارتباطه بالمعاملات التي ترتبط بالمال والثروة، فما محفزات التفويض، هل هي في التدريب أم في النظم والقوانين، أم في المحاسبة والرقابة؟ وقد رد بأن هناك الكثير من أسس التفويض التي ترد في مراجع الإدارة، والأهم هنا مراعاة نطاق التفويض. 
والسؤال الثاني يتعلق بالاقتصاد الكلي والمزيّة التنافسية وتحديد هوية الاقتصاد الوطني، والمسار الاقتصادي القائد الذي تضعه الرؤى الاقتصادية الكبرى، هل يترك تحديده للاجتهاد الفردي أو حتى الجماعي؟ أم تحدده عوامل الموارد الطبيعية؟ والمناخ؟ وطبيعة المجتمع وتأهيل الفرد؟، أم الموقع الجغرافي؟.. الخ، وقد رد بأنه يحدد بتمييز النشاط الذي يمثل المزية التنافسية للاقتصاد، فهي التي تكشف ما سيضيفه هذا المسار للاقتصاد الوطني لو تم اعتماده.. 

إجمالا المحاضرة رغم وجازتها واختصارها كانت مهمة وجدية وتحمل عناوين عامة تحفز على مزيد من البحث والنظر والتعمق. 
شكرا لجامعة مسقط وللقائمين عليها.

رابط المحاضرة كاملة عبر اليوتيوب: 
https://www.youtube.com/watch?v=hGyocvNVv9U&t=3746s

الأربعاء، 26 ديسمبر 2018

المهلّب.. عمان التاريخية وجدل التاريخ والجغرافيا والقبيلة

المهلّب.. عمان التاريخية وجدل التاريخ والجغرافيا والقبيلة
 د. محمد بن سعيد الحجري.

جريدة الرؤية: الثلاثاء 15/مايو/2018م.

في  خضم الجدل الدائر حول قضية المهلب بن أبي صفرة من الخطأ بل من السذاجة القول بأنه جدل مفتعل أو مبالغ فيه، بل هو نقاش في صميم الشعور الوطني، لأنه نقاش حول ما يقدمه التاريخ للجغرافيا، فالتاريخ هو الذي يعطي للجغرافيا معنى أن تكون وطناً وهو الذي ينضج مفهوم الوطن، ذلك أنه في وجدان أي دولة وأي شعب تكون الشخصيات التاريخية هم رموز للسيادة الزمنية، كما أن الإقليم الجغرافي هو عنوان السيادة المكانية، والشخصيات التاريخية تمثل للأوطان رصيداً معنوياً وجودياً لا يمكن للأمم الحية أن تنازل عنه، مثلما لا يمكنها التنازل عن شيءٍ من الجغرافيا، ولتوضيح الأمر بالأمثلة فإن أمةً كفرنسا لا يمكنها التنازل عن نابليون أو جان دارك أو ديجول مثلاً، كما لا يمكن أن تتنازل بريطانيا عن ريتشارد قلب الأسد أو الملكة فيكتوريا أو شكسبير مثلاً، ولا يمكن لأمم أحدث كأمريكا أن تتنازل عن جورج واشنطن أو لينكولن أو روزفلت، ولا يمكنها أن تتنازل عن شخصيات علمية أو أدبية أثرت في تاريخها، سواء صنعته أو كانت نتاجاً له.


الشعوب الحية تدافع عن شخصياتها ولا تقبل المساس بانتمائهم، ولذا فإن الدفاع عن انتماء المهلب وشخصيته هو أمر طبيعي لشعب يقدر تاريخه ويحترمه، ومع أن النقاش حول شخصية المهلب ذاته محسوم لدينا بعمانيته، إلا أن سبب كل هذا التفاعل هو أنها لم تكن الحادثة الأولى ولن تكون الأخيرة على ما يبدو، وقد بلغ الأمر حداً لا يمكن التغاضي عنه أو التساهل تجاهه دون مواقف واضحة، فاليوم المهلب وغداً غيره، ولقد بقيت نقطة مهمة في النقاش تتعلق بالسؤال هل هو من دبا أم من أدم وهما بلدتان تاريخيتان عمانيتان؟ ودونما تفصيل أُحيل القراء إلى البيّنات التاريخية التي أدلى بها الشيخ أحمد سعود السيابي في حديث متلفز متداول ومنشور ففيها الكفاية والحسم بكونه من أدم، كما أدعو إلى العودة إلى كتاب "تاريخ المهلب القائد وآل المهلب" للشيخ المؤرخ سيف بن حمود البطاشي (طبع 1988م).

وهنا أرى أن نتجه بالنقاش إلى نقطة أخرى لعلها ثمرة لكل هذا الجدل وفيها يكمن ما يقدمه التاريخ للجغرافيا، *إذ في خضم كل ذلك عاد مفهوم عمان التاريخية الكبرى بقوة إلى الواجهة من جديد* ، وهو مكسب مهم وكبير، فتحتَ وطأة النقاش لا تجد كل الأطراف مفراً من العودة إليه باعتباره حاضناً لكل حراك الإنسان في هذه الجغرافيا الممتدة الشاسعة.

لكن مع العودة المهمة لمفهوم "عمان التاريخية" إلى الصدارة *بدا في بعض الردود والتعقيبات خلطاً تاريخياً فادحاً بين مركزية الدولة العمانية وبين حركة القبائل في بعض أطرافها، وكأن تلك القبائل كيانات موازية للدولة أو تشكل بديلاً عنها،* والحقيقة بأن المتأمل في التاريخ السياسي والاجتماعي العماني تتأكد له حقيقة النضج المبكر لمفهوم الوطن من ناحية وتطور الممارسة السياسية العمانية حتى داخل أطرها القبلية، إذ لم تكن القبيلة بديلاً للدولة أو كياناً موازياً لها في أي مرحلة تاريخية عمانية حتى في أقصى مستويات حضور القبلية، وعلى الرغم من أن التاريخ العماني شهد طوال فتراته جدلية الدولة والقبيلة، فكلما قويت الدولة ضعفت القبيلة، وكلما ضعفت الدولة قويت القبيلة، لكن القبيلة لم تكن كياناً بديلاً حتى في أضعف حالات التشتت والفرقة؛ فمفهوم الوطن العماني منذ أن تبلور مبكراً ظل صامداً في استمراريته التاريخية حتى في حالات ذبول الدولة وتشتتها ولفترات طويلة أحياناً، ولم يجد العمانيون في الكيانات القبلية بديلاً له؛ وتأثير القبيلة السياسي المنافس للدولة كما قلت كان مرهوناً إما بضعف الدولة أو بارتباط خارجي سياسي أو فكري، والأمثلة التاريخية على ذلك كثيرة جداً سواء في وسط عمان أو في أطرافها بنمو مشيخات قبلية أو انحسارها، والنتيجة في كل ذلك واحدة: تبقى الدولة وتتراجع القبيلة، ولعل المثال الذي أوردته بعض الردود والنقاشات المتمثل في "القواسم" هو برهان على ذلك، فشواهد التاريخ بل والتاريخ القريب (وما أكثر أدلته) يدل على عدم النجاح في تطوير كيان دولة بديل، بل كان كياناً تابعاً لدولة أخرى، مدفوعاً بعقيدة كراهية متعصبة وافدة ومفروضة أحياناً (انظر مثلاً في ذلك كتاب د. سلطان القاسمي، تحت راية الاحتلال، ص 5-7) وقد أدى كل ذلك في النهاية إلى تحويل الخليج إلى بحيرة قراصنة عانت منها شعوب الخليج وتجارته، ولعل من أبشع أمثلتها وأكثرها غدراً الحادثة الشهيرة التي أدت إلى مقتل السيد سلطان بن أحمد في عام 1804م وهو سيد الخليج يومئذ، بينما كان في إحدى جولاته في موانئ الخليج، في عملية واجهها السيد سلطان بشجاعة فذة وبطولة نادرة ضحى فيها بحياته (انظر في ذلك ابن رزيق، الفتح المبين، ج2، ص362-364، ط6)، وهي حادثة أدت إلى تغيير وجه الخليج فيما بعد، بل أدت في النهاية إلى انحسار قوة القواسم وتدمير موانئهم، كما أدت إلى ظهور قوة قبائل أخرى منافسة كالنعيم وبني ياس وغيرهم من مشيخات الساحل، والتي تختلف بعضها مع الأولى في الاتجاه والولاء، وظهورها كان كذلك بدعم من المركز العماني أي من الدولة العمانية لأسباب سياسية وفكرية، ومع ذلك كله فإنه حتى لدى شيوخ القواسم المتأخرين ــ فضلاً عن غيرهم ــ ظل الانتماء عمانياً وظلت المرجعية العمانية هي الأساس، وشواهد التاريخ والثقافة حتى القريب منها واضحة في ذلك، ولولا خشية الإطالة لأوردناها.

أما ما ورد في بعض الردود بشأن تصريحات الدكتور سلطان القاسمي حول مقاومة الساحل العماني للغزو البرتغالي فقد تم الرد عليها ومناقشة هذه التعليقات باستفاضة حينها في مقالنا المعنون بــ "الغزو البرتغالي للساحل العماني بين المقاومة والتحرير" المنشور في يناير 2015م وهو متداول ويمكن العودة إليه لتبين الحقائق، أو من خلال كتاب "مذكرات البوكيرك" المنشور منذ أكثر من عشر سنوات (نشره المجمع الثقافي في أبو ظبي)، أو من خلال الكتاب المهم الذي نشر مؤخراً بعنوان "عمان والبرتغال في بحر عمان، الدين والسياسة" الذي جمع وثائق الأرشيف البرتغالي في16 مجلداً، ثم ترجمت إلى العربية والإنجليزية والبرتغالية الحديثة ونشرت في عشرة مجلدات قبل سنتين؛ *وخلاصة ذلك أن هناك كياناً تاريخياً هو عمان متشبثٌ باستقلاله وسيادته، قام بالمقاومة والتحرير من الاحتلال البرتغالي، والذي قامت به مدن الساحل والداخل العماني بأسرها هي حركة ضمن سياق هذا الوطن ككل لا باعتبارها كيانات جزئية* .

هذه النقاط تحتاج إلى استفاضة وتوسع وضرب الأمثلة عليها لتوضيحها أكثر، وفهم أبعادها في استنتاج خلاصات التاريخ والفرص التي يتيحها النقاش حوله وحول أعلامه، *والخلاصة الأهم هي أن هناك دولة مركزية تاريخية هي عمان لها استمراريتها التاريخية، وهناك قوى قبلية تظهر وتنحسر تبعاً لقوة الدولة المركزية ولعوامل أخرى، ولم تتمكن هذه القوى تاريخياً أن تكون بديلاً عن الدولة.*