الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

تحقيق الشبيبة حول أداء الجهاز الحكومي

نشرت جريدة الشبيبة ــ مشكورة ــ خلال الأسبوع الفائت الأحد و الإثنين و الثلاثاء 2-3-4 سبتمبر تحقيقاً استطلعت فيه آراء مجموعة من أعضاء مجلسي الشورى و الدولة و الاقتصاديين و الباحثين و الكتاب ، مستعرضة آراءهم حول الأداء الحكومي خلال المدة القليلة المنصرمة ، و قد تميزت تلك الآراء بتنوعها و اختلاف نظرتها للشأن الوطني و للقضايا الرئيسية المطروحة في ذلك التحقيق من قبيل قضايا أداء المؤسسات و المسؤولين و الشفافية و البيروقراطية و مكافحة الفساد ، و قد اختلفت تقييماتها للمرحلة تشاؤماً أو تفاؤلاً ، كما قدمت بعض القراءات رؤية موضوعية تحاول أن تنظر للمنجز الوطني خلال المرحلة الماضية ضمن سياق التغيير و التطوير في وطننا العزيز ، شارحة الأسباب و العلل و طارحة المقترحات و الحلول .  و كان الأولى أمام هذا التنوع في الآراء أن يترك للقارئ اكتشاف الخلاصات و النتائج دون توجيه نحو رأي بعينه أو حول نتيجة محددة تجنح إلى التشاؤم أو التفاؤل ، أو لدفعه نحو قراءة تختزل هذا السياق المتحرك في عبارة متعجلة ، لكن الصحيفة آثرت أن تستنتج خلاصة أو نتيجة و تقدمها للقارئ ، بينما كانت الآراء متنوعة و متعددة ، كما أن الأبعاد و الأسباب و التحديات و الظروف و التعقيدات التي ترافق هذه المرحلة من الأداء الحكومي ، لا تحتاج لحكم جازم بقدر احتياجها لحوار و نقاش و شرح لكل جوانب القضايا و حيثياتها حتى يتحمل الجميع مسؤوليته من مسؤولين في كل درجات المسؤولية ، و مواطنين نحرص على حاضر و مستقبل وطننا ، كما أن المطلوب منا ليس تحديد أو دفع المسؤولية بل أن نستشرف المستقبل ، و نقترح الحلول و المخارج التي يمكن أن تكون مادة للنظر و البحث و الدراسة.
و هنا أرجو أن تسمحوا لي بنشر مشاركتي في هذا التحقيق منفردة ، في محاولة لاستجلاء الرأي و طرح الأفكار للقارئ ، و تداول الرؤى بشأنها ، و ترك الخلاصات و النتائج لتأملنا و وعينا جميعاً بمسؤوليتنا الوطنية .
 
 
• المحور الأول :  كيف ترون الأداء الحكومي بعد عمليات التطوير في العديد من الأجهرة الحكومية ؟
لا يمكن أن نخرج بحكم عام واحد على ذلك الأداء لأن هناك تفاوتاً بين هذه المؤسسات و بين من يقودون هذه المؤسسات في إدراك متطلبات المرحلة الراهنة و المستقبلية ، لكن الجميع يلاحظ إجمالاً تحسناً ملحوظاً ، و نحن في حاجة إلى : شموليته ، و استدامته و لا يأتي ذلك إلا بمزيد من المؤسسية و المهنية في الأداء ، و أعني بذلك أن يتحول ذلك إلى طابع مؤسسي دائم لا يرتبط وجوده بوجود مسؤول معين يزول هذا التوجه بزواله .
أقول إن هناك تفاوتاً لعدة اعتبارات : فهناك مؤسسات كانت قد شرعت في تطوير أدائها من حيث تطوير الإنتاجية و ربطها بمعايير عالمية لجودة الخدمات ، و تحسيين التقنيات و إدخال النظم التفاعلية ، و هذه تلقائيا ستستمر في تطوير الأداء و ستعزز هذا التوجه ، و هناك مؤسسات تغيرت قياداتها و من طبائع الأمور أن القيادات الجديدة و في ضوء متغيرات و ظروف جديدة ستسعى إلى وضع سياسات أفضل و تطوير الإنتاجية و تحسين الأداء ، و نادراً ما نتوقع تراجعاً في مثل هذه الحالة . لكن حتماً هناك مؤسسات لم تبارح مكانها في تطوير أدائها إما لأن رؤسائها لا يزالون يتشبثون بمنهج قديم في التعاطي مع سياسات وممارسات مؤسساتهم ، أو لعدم قدرة عن إدراك المتغيرات و الظن أن قفزة الوعي و اهتمام المواطن هو عرض طارئ .
و هناك مؤسسات جديدة ظهرت على ميدان العمل خلال العام المنصرم ، و هي تقوم بجهد كبير و عمل مشرف و وجدت دعم المواطنين و احترامهم ، أذكر منها على سبيل المثال الهئية العامة لحماية المستهلك فرغم حداثة نشأتها إلا أنها أثبتت رعايتها لمصالح المواطنين و قدرتها على تطبيق القانون .
و هناك مؤسسات أخرى ايضاً حديثة النشأة و هي ستصب في مصلحة تعزيز الأداء الحكومي الآن أو في المستقبل من ناحية التزويد بالمعلومات و البيانات اللازمة لاتخاذ القرار منها: الهيئة العامة لسجل القوى العاملة ، و المركز الوطني للإحصاء و المعلومات.
على وجه العموم تحدي استدامة جودة الأداء الحكومي كبير جداً لأن المجتمع ينحو إلى التعقد و قضاياه الحساسة تتعدد والاقتصادية على وجه الخصوص ، و المنافسة الإقليمية حاضرة دائماً و تضع مؤسساتنا أمام مقارنات منها المنطقي و منها غير المنطقي ،و مجهر الإعلام التقليدي و أضواء الإعلام البديل تزداد تركيزاً ليضخم و يعظم أبسط الإشكالات ، و في هذا التحدي الكثير من الإيجابيات على مستوى الأداء لو أحسن التعامل معه .
و هناك في نظري عدة مرتكزات بدأت بعض الجهات في الأخذ بها و جعلها ضمن القيم المؤسسية فيما تتردد مؤسسات أخرى في تطبيقها :
ــ جعل المواطن محور الارتكاز في تقديم الخدمة و رسم السياسات و تطوير الممارسات.
ــ تطوير آلية اتخاذ القرار داخل المؤسسات لتتخلص من الفردانية و تنحو إلى التشاور و التخصص .
ــ  تفويض الصلاحيات إلى الكفاءات و التقليل من الاعتماد المطلق على رأس المؤسسة و استبدال ذلك بوضع القيم و الخطوط العامة .
ــ تعزيز التقنيات التفاعلية للجمهور و تدريب العاملين على توظيفها.
ــ تعزيز الرقابة الإدارية و المالية الداخلية بما لا يعيق أداء العمل و بما يضمن تعزيز النزاهة و الكفاءة.
 
• المحور الثاني : ما تعليقكم حول ما يقال بأن التطورات التي شملت قمة الهرم في العديد من أجهزة الدولة لم تحقق الطموحات نظرا لبقاء مسؤلين قدامى دون قمة الهرم يناط إليهم تسيير الاداء الحكومي؟
هذه المقولة تحتاج لفحص و نظرلأنها تقدم سبباً و تحمل المسؤولية ، و على أي قطاع يمكن أن تنطبق أو تصح ، حتى نطرح بعدها سؤال عن السبب، لماذا؟ ذلك لأن الوزير لا يزال إلى اليوم هو المسؤول التنفيذي الأول ، و هو مسؤول عملياً ليس عن سياسات الوزارة فحسب بل و عن ممارستها في تطبيق الأنظمة و لوائح العمل و غير ذلك ، و علمياً لا يمكننا الفصل بين المسؤول الأعلى و المسؤول الأدنى ، لكن من يمارس العمل الإداري يدرك أن كثيراً من التطوير و المبادرات الإيجابية تأتي من مستويات الإدارة المتوسطة و العليا ، إذا لقيت آذاناً صاغية و مناخاً من التشاور لا يستأثر فيه بالرأي و يرحب بالمبادرات التي ترمي لتطوير الأداء ، و مسؤولية صنع هذا المناخ التشاوري هي على المسؤول الأول و عليه تبعة الإخفاق في إيجاد هذا المناخ.
مشكلة قيادات الصف الثاني و الثالث في مؤسساتنا ــ رغم أن كثيراً منهم أقرب للشباب ــ مشكلة بعضهم على الأقل هي أنهم اعتادوا منهج إدارة قائم على التفرد و الشخصانية و سياسة التنفيذ بلا مناقشة و لا مراجعة ،و بعضهم يرى في ذلك نوعاً من قوة الشخصية الإدارية و الحسم دون انتباه إلى أن قوة القرار هي في تحقيقه للمصلحة و برهنته على ذلك و ليس في متخذ القرار ، و هؤلاء لم يعوا بعد المتغيرات التي حدثت ، قد يعيها من هو أعلى رتبة منهم بسبب وفرة المعلومات لديه ، و من هو أدنى رتبة منهم بسبب التخصص أو القرب من ميدان العمل ، و لذلك يبقون أحياناً كجزر تقاوم التغيير الإيجابي ، و أمر طبيعي أن هذا المخاض سيحدث تغييراً ، و علينا أن ننظر له باعتباره من سنن تطور المجتمعات و لا مناص عنه .

• المحور الثالث :هل الأداء الحكومي الحالي حقق المطالب الشعبية الاخيرة في ما يتعلق بالشفافية والقضاء على الفساد والبيروقراطية ،وكيف ؟
أرجو أن تسمح لي بأن أخفف من إطلاق العبارة في السؤال ، فليست هناك شفافية مطلقة ففي كل دول العالم هناك شفافية من ناحية و حجب نسبي للمعلومات من ناحية أخرى، و لذلك تتعاظم اليوم مثلاً قضية موقع ويكليكس و مؤسسه "أسانج" ، و ليس هناك قضاء مطلق على الفساد ، و لكن المهم دائماً أن يكون هناك حصار و مواجهة للفساد، فحتى في دولة النبوة واجه النبي صلى الله عليه و سلم أشكالاً من الفساد ، وفي أعرق الديمقراطيات تفاجؤنا فضائح الفساد في أفدح صورها و يكشفها الإعلام بينما قد تفشل الأجهزة في كشفها!، و في دولة الخلافة الراشدة صادر الخلفاء أموال الولاة تحت شبهة استغلال النفوذ. و ليس هناك قضاء مطلق على البيروقراطية ، لأن البيروقراطية في جوهرها هي نظام الإدارة المتضمن للتراتبية و الهيكلية و آلية اتخاذ القرار و غيرها ، و هذه من ضرورات العمل الإداري و بدونها ننحو إلى التسيب و الاستخفاف بالوظيفة العامة و تهاوي الشعور بالمسؤولية .
و لذا من المهم أن نخفف من التصورات المغالية في المثالية في هذا الصدد ، فإذا كانت السياسة فن الممكن ، فالإدارة لها نصيب من ذلك ، ففي الحالتين هناك ضرورات تنموية و احتياجات للمواطنين و تحديات و موارد محدودة و تعقيدات و مطالبات مشروعة و مطالبات غير واقعية و إلى آخره. و إذا كان هذا مهماً فإن الأهم هو وجود المساءلة و الرقابة سواء منها تلك المتخصصة إدارية أو قضائية، أو متابعة الرأي العام من خلال وسائل الإعلام .
و في شأننا الوطني ، و في النقاط الثلاث التي ذكرتها (الشفافية ، مكافحة الفساد ، البيروقراطية) تحقق تقدم نسبي و متفاوت ، وهو لم يكتمل بعد ، وقد يرى بأنه غير كاف لأن التحديات كبيرة و لأننا تأخرنا في تحريك بعض المسارات و نحن نحاول اللحاق بما فات . و لنا أن نسأل هنا ما هو الضابط لكل هذه الأمور ؟ و المفردة الأكثر بروزاً هنا هي المحاسبة ثم المحاسبة ثم المحاسبة ، و سياسة من أين لك هذا ؟ المحاسبة بآلياتها المختلفة إدارية ، و قضائية ، و عبر استكشاف موقف الرأي العام هي التي ستطور الأداء و ستضع البيروقراطية في حدها الطبيعي دون تزمت أو تعقيد ، و هي التي ستعزز الشفافية و تجعل الأداء الحكومي تحت نظر و بصر الرأي العام ،  و هي التي ستكافح الفساد ، ليكون تحت طائلة الأجهزة المعنية بالمتابعة و الرصد و التي توجه لها الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم حفظه الله في مجلس عمان بتكليف واضح بأن تكافح الفساد و " أن تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون"، و هو في حقيقة الأمر ما سيضع المسؤول الحكومي ــ في أي مستوى من مستويات المسؤلية ـــ أمام حقيقة أنه مسؤول أي مساءل ، و من المفارقات هنا أن كلمة مسؤول بصيغة المفعول أخذت في المخيال العام معنى آخر تماما ينطوي على التشريف أكثر من التكليف ! و هو ما ينبغي أن يتغير في المفهوم العام .
في مجال مكافحة الفساد لابد أن أن ننظر إلى حقيقة أن الفساد متلون و متنوع ، و من يقومون به يستغلون الثغرات القانونية و بطئ المحاسبة ، لكن هنا ألفت الانتباه أن ما يتم خسارته بسبب سوء التخطيط أو سوء الإنفاق أو تضخيم الكلف قد يكون أكثر مما نخسره من الاختلاس أو الرشوة أو استغلال النفوذ. و هذا الهدر في المال العام الناتج عن ذلك يودي بموارد مهمة قد نحتاجها ذات يوم ، وقد لا يوضع هذا الأمر قانوناً في قائمة أشكال الفساد و لكن ضرره على الموارد و على الثقة بالمؤسسات كبير،و هناك دول عظمى اليوم دخلت في أطوار من التقشف و ترشيد الانفاق ، بل و تقليل الإنفاق على الخدمات الأساسية! فلماذا لا نطرح سؤالاً مهماً حول ترشيد الإنفاق و تقليل الهدر؟ و فضلاً عما نعلمه جميعاً من صور الهدر هذه فحتى في أبسط الصور و أقل الأمثلة لا يوجد تعميم إداري واحد اطلعنا عليه يوصي الموظفين بإغلاق أجهزة التكييف عند نهاية الدوام الرسمي مثلاً ، أو تقليل الإسراف في استخدام الأجهزة المكتبية و القرطاسيات بلا داع ، هذا على سبيل المثال و في أدنى الأمور فضلاً عن أكبرها؟!
المحاسبة في العناصر الثلاثة التي ذكرتها تتجلى تلقائيا في الآتي :
ــ أجهزة تدقيق و رقابة داخلية و هي في شكلها داخل كل مؤسسة موجودة بحمد الله ، و في شكلها العام موجودة ممثلة في جهاز الرقابة المالية و الإدارية للدولة و الذي يترقب الجميع تقريره عن عام 2011م .
ــ محاسبة قانونية و قضائية قوية و محترفة و مستقلة و هي بحمد الله موجودة و قد بدأنا في ملامسة بعض آثارها ، لكننا في حاجة إلى مزيد من رؤية فعاليتها على الواقع ، أقصد هنا أن المواطن يريد أن يرى أثراً أكبر لعملها ، تماماً كما يلمس المواطن اليوم قوة و فعالية نموذج محكمة القضاء الإداري و الثقة المتعاظمة في أدائها و هي حقاً نموذج مشرف وحضاري جعلت المسؤول يحب لقراره الإداري ألف حساب .
ــ محاسبة برلمانية عبر مجلسي الشورى و الدولة ، و هو ما يؤسفنا أن نقول فيه إن أعضاءه لم يتمثلوا بعد حقيقة الصلاحيات الرقابية و التشريعية الممنوحة بموجب المرسوم السلطاني 99/2011م ، إذ لا يزال التعامل مع الجهاز التنفيذي قائم على آلية البيانات الوزارية التي لا تعطي الفرصة للتركيز على قضايا محددة و الخروج بنتائج لصالح أو ضد أي وزارة من الوزارات.
ــ محاسبة إعلامية و قد بدأ حضورها عبر البرامج الجماهيرية الإذاعية و التلفزيونية التي تتناول الأداء الحكومي بكثير من الرصد و النقد ، و لكن لا بد أن تضمن هذه الحرية الإعلامية بقانون مطبوعات و نشر جديد يوازن بين حاجتنا لصحافة حرة و نشطة و مؤثرة و لكنها مسؤولة و تحفظ حقوقر الناس و احترامهم ، و هذا القانون المرتقب هو الذي سيضع المظلة الحقيقية لحرية التعبير و حرية النشر.