الأربعاء، 27 مارس 2013

الاستثناء العماني، عمان وثنائية العدل والرفق

الاستثناء العماني
عمان وثنائية العدل والرفق

نشر مختصراً في جريدة القدس العربي، 26 مارس 2013م


http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data\2013\03\03-26\26j468.htm

"أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"
     في رسالة عظيمة مليئة بالقيم السياسية يتحدث الإمام علي كرم الله وجهه إلى واليه على مصر مالك الأشتر محدداً له قواعد سياسة الولاية ومنهج المسؤولية العامة فيقول:"وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم"
والناظر لهذه القيم السامية التي تبثها هذه الرسالة و إلى حال أمتنا لن يحتاج لكبير جهد ليعلم أن ما تعيشه من تخبط في القسوة والعنف آت من غياب قواعد الرشد هذه التي ينبه عليها الإمام علي، ومن آثار الهدر المشين لهذه القاعدة القائمة على الرفق والحكمة وبناء جسور المحبة بين الحاكم والمحكوم بالتماس الأعذار، وتجاوز الإساءات، وبذل المروءات، واستبدال قاعدة أخرى بهذه القاعدة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، قاعدة كان شذوذا فغدت أصلاً، تقوم على التوحش والسبعية الضارية، والتوتر الدائم في العلاقة بين طرفي الحكم، وارتقاب الفرص للنيل من الخصوم بل وصناعة الفرص حين لا تتوفر! حتى تحول الساسة بكل أصنافهم (أنظمة ومعارضة) إلى منطق التوحش الذي لم يوفر شيئا ولا أحداً عن غائلة البطش.
إن الإغراء بالتغيير السياسي وحده دون تغيير أعمق في الوعي وآليات التفكير لن ينقل الشعوب إلا بين أشكال متعددة من الاستبداد والقهر طلعها كأنه رؤوس الشياطين! بل وربما إلى استبداد أعتى يستبيح كل شيء متذرعاً بشرعية السماء! ولو نظرنا فقط في مدد أعمارنا القصيرة التي تابعنا فيها أحداث العالم وهي تموج من حولنا لوجدنا عشرات الأمثلة لمعارضين سابقين كانوا مشردين مضطهدين،أو ثواراً "تحرريين" "تقدميين" ما إن تمكنوا من قبضة الحكم حتى ساخت أقدامهم في الدماء وجروا على سنن من قبلهم، وتفتح إبداعهم على أساليب بطش لم يصل إليها من سبقهم من الحكام!"ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون"(يونس 14).

لقلب قاعدة الرفق هذه إلى قاعدة العنف أسباب كثيرة في تاريخنا الذي شكل وعينا بالدين وفهمنا لمنهج السياسة والحكم، فتاريخنا العربي العام يقدم دائماً على أنه حلقات متوالية من الصراع بين مستبدين سابقين ولاحقين، يصاحب فيه الحقُ القويَ الغالب أبداً، ويعرف فيه الحق بالرجال ولا يعرف فيه الرجال بالحق، وكم دمر هذا المسار وعي أجيال أو زيفه! ومن أسباب ذلك أيضاً أن تجارب أخرى لمناهج الحكم في تاريخنا العربي لم تدرس تاريخياً، ربما لقيامها في مناطق يراها البعض "أطرافاً" لا"مراكز"، ولم تقدم لأجيالنا باعتبارها نموذجاً يقوم على مسؤولية الحاكم عن بناء جسور المحبة، وعلى أن الرحمة بالشعب والإشفاق عليه جزء من مسؤولياته الإلهية، فأقصيت هذه التجارب من دائرة التأثير وصياغة الوعي، وتركت أجيال الأمة لتاريخ يلح أبداً على فكرة حكم المتغلب وحظها معه، وقلما كان هذا الحظ طيباً!

في عالمنا العربي الذي هجر قيم الرشد هذه وغادرها في هذه المرحلة الموارة بالتحولات والعواصف والعنف! تذكّر عمان هذا العالم العربي ــ وتذّكر العالم أيضاً ــ بالقاعدة الأصل المنسية والمطمورة، قاعدة الرفق والحكمة والدفع بالمروءات التي يجب أن تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، تذكّره بالتاريخ كما تذكّره بالواقع لعل عالمنا العربي يدرك أن ثمة صيغة أخرى للتعاطي وللتعامل مع هذه المرحلة غير صيغة العنف والإقصاء التي حولها الكثيرون إلى قاعدة! وأن الصيغة الأساس القائمة على الرفق والحكمة والاستيعاب والصفح والتجاوز هي التي يمكن أن نعول عليها في الخروج من هذه المآزق التاريخية إلى البناء والتقدم للأمام بعيدا عن حلقات الفراغ والعدم والفشل.

هذه القاعدة المنسية التي تذكّر بها عمان وتطبقها نسيجها الحب وتقوم على ثنائية العدل والرفق، وكان من صورها خلال الأسبوعين الماضيين صدور حكم المحكمة العليا العمانية في قضية كانت مثار الرأي العام حين حكمت بنقض الأحكام التي أدين بها عدد من المتهمين بقضايا التجمهر والإخلال بالنظام العام، وأمرت بإعادة المحاكمة بهيئة مغايرة، ولم تمض مدة يسيرة الوقت إلا وصدر عفو من السلطان عن كل المتهمين في هذه القضية، وعن محكومين آخرين أدينوا بالإساءة والإعابة لشخص السلطان نفسه وكانت قد صدرت في حقهم أحكام نهائية، وهذا العفو والقرار أشاع أجواءً من الإيجابية والألفة والارتياح في الشارع العماني من ناحية، وأكد على مواصلة تثبيت استقلالية القضاء من ناحية أخرى، ومن جهة ثالثة فقد زاد قاعدة الحكمة والرفق والتجاوز والصفح رسوخاً وثباتاً وتأسيساً في التجربة العمانية الحديثة، لتكون عمان حاضنة لكل أبنائها تحتضنهم وترفق بهم ولا تقصيهم.

ثنائية العدل والرفق، التي تشيع الطمأنينة وتفشي السلام وتبني المحبة وتؤسس سلم المجتمع هو ما تقدمه عمان للعالم الصاخب من حولها، حتى نعيد لهذه القيم اعتبارها في واقع ثقافتنا العربية، ولتعود سنة للتاريخ كما ينبغي؛ نعم إن هذه القيم أصيلة في تراث أمتنا وثقافتها، لها قيمتها الذاتية الأصيلة مهما طمرها ركام فكر المغالبة والتغلب الذي بليت به أمتنا، لكن سنة ممارستها في ظرف أمتنا هذا أمر يزيدها أثراً وبهاءاً وقوة، ويعيد التأكيد على أن ممارستها ليست ممكنة فحسب، بل و واجبة أيضاً.

في رسالة تاريخية أخرى ــ كالتي بدأنا بها ــ يبعث الإمام ناصر بن مرشد اليعربي العماني(انتخب1624م) إلى أحد ولاته مبيناً له فلسفة العقوبة كما يؤمن بها قائلاً له: "وإذا وجبت العقوبة على أحد من الرعية، على فعل شيء يستحق به العقوبة، فاعتقد فيه بمعنى المحبة، لا بمعنى الغضب، لأن الإنسان إذا أحب أحداً حال بينه وبين ما يضره و يعطبه"، وبالمناسبة فإن ناصر بن مرشد هذا هو الذي وحد عمان في القرن السابع عشر الميلادي، لتواجه بعد ذلك وطوال مدة حكمه الاستعمار البرتغالي وتطرده من الأرض العمانية، وليلاحق الأئمةُ من بعده البرتغاليين في موانئهم وقلاعهم في المحيط الهندي والشرق الإفريقي.

ذلك ما أرادت عمان تاريخاً و واقعاً أن تقدمه لأبنائها ولأمتها العربية والإسلامية.