الخميس، 8 نوفمبر 2012

التاريخ له مراكزه

التاريخ الذي يفترض به أن يكون جامعاً كان سبباً لجدل واسع خلال الأيام الفائتة ، فتحتها  " تغريدات"  على " تويتر" أطلقتها شخصية خليجية مرموقة لها احترامها على المستوى الدولي ، و قد كنت أحد الذين علقوا على تلك "التغريدة" منطلقاً من أن الذي يجمعنا هو تاريخ واحد لم نتنكر له يوماً و إن تحسس منه بعض الأشقاء ، و خدمه آخرون منا و منهم،و منطلقاً من حقيقة أن للتاريخ مركزاً لابد من الاقرار به ، تماماً كحقائق الواقع التي لا تنكر، ومراكز التاريخ ليس من الممكن تحويلها ، كما لا يمكن الإملاء على التاريخ بعد أكثر من 400 عام من قول كلمته و توثيق أحداثه، و تلك حقيقة على الجميع أن يسلم بها ، و إذا كانت محاولات نقل مركز التاريخ غير مجدية،فإن بوسعنا و بوسع أخوتنا ــ بدلاً من ذلك ــ أن يستظلوا بسدرته الوارفة الممتدة هنا و هناك ، و إن نبت أصلها هنا ، و هي من الوسع و الغنى بحيث تكون جامعة لنا ، بدل أن نشتغل على جدل و محاولات لم توفر شخصية تاريخية ، أو فناً شعريا ، أو فلكلوراً شعبياً ، أو أكلة محلية ، إلا طالته محاولات الزحزحة و إعادة النسبة!! .
تلك المحاولات التي ذكرتها و ما أثارته تلك "التغريدات" كانت سبباً لردود فعل غاضبة من بعض الأخوة،و لعلي أقول هنا بأن تلك الردود ليست بالضرورة مدفوعة بتلك "التغريدة" في حينها و في لحظتها، و لكنها كانت ناتجة عن كل تلك المحاولات المتواصلة لزحزحة حقائق التاريخ و أصله الواحد الجامع من مركز إلى موقع آخر.

وهنا يجب علينا أن نقول بأن من يتكئ على هذا الأصل التاريخي الكبير جدير به أن لا ينفعل أو يشتط ،و جدير به أن يتعامل بثقة و بمعرفة ، و حديث العلم و المعرفة بالتاريخ هو الذي يزود بهذه الثقة التي تغني عن أي انفعال قد لا يناسب مقام من نرد عليه.
لعل هذه مناسبة مهمة لنا لنعود للتاريخ من جديد ، و لنتصل به كما يجب ، بعد أن مرت مرحلة غير يسيرة من تباعدنا عنه ؛و من تباعد عن التاريخ لم يفهم ذاته و لا رحلة تشكله! و فقد الوعي حتى باللحظة التي يعيشها .
و قد كان من جميل المناسبة أن يصدر في هذه الأثناء الكتاب الوثائقي " البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة " الذي كتبت عنه قبل أكثر من أسبوعين ، فكان مادة لبعض التغريدات التي أوردتها في ثنايا هذا الجدل.

الثلاثاء، 16 أكتوبر 2012

كتاب "البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة، بحث في الوثائق" قراءة و رؤية

* نشر هذا المقال عبر ملحق شرفات الثقافي في حلقتين يومي 9 و 16 أكتوبر 2012م .

الجزء الأول من المقال :
 
المجموعة الكاملة لمجلدات الكتاب الــ 16

كانت الوثائق المتعلقة بالشأن العماني في دور الوثائق البرتغالية حديث الساحات العلمية والثقافية خلال العشرين سنة الماضية ، وكان الحديث عنها يدوردائماً حول ما يمكن أن تضيفه لمصادر التاريخ العماني فيما لو كشف عنها من سد لبعض الثغرات ، أو إضاءة لزوايا معتمة في تاريخنا ، خاصة و أن الحقبة التي سبقت قيام الدولة اليعربية والتي تعني عملياً سنوات الاحتلال البرتغالي للساحل ،وهي تنوف على المائة و العشرين سنة ،فهذه الحقبة كانت غامضة و شبه مبهمة ، و قلما تعرضت لها كتب التاريخ العماني ، خاصة فيما يتعلق بعملية الاحتلال نفسها ثم الاستعمار و البقاء في أمهات المدن الساحلية ؛بل إن الثورات و عمليات المقاومة التي واجه بها العمانيون الاحتلال البرتغالي قبل قيام الدولة اليعربية قلما كشفت عنها كتب التاريخ العماني أو الدراسات العربية إلا ما ندر من إشارات قليلة أوردتها مراجع غير عمانية ، و إن نقل منها بعد ذلك باحثون عمانيون و عرب ، إلى حد أن هذه الفجوات تصنع صورة خادعة بأن هذا الساحل سقط في قبضة البرتغاليين دونما مقاومة تذكر ، و لربما نبه  صدور كتاب مذكرات البوكيرك بترجمة: عبدالرحمن عبدالله في عام 1420هـ/2000م نبه مرة أخرى إلى الأهمية الهائلة التي تنطوي عليها الوثائق البرتغالية في هذا الصدد ، فقد أبانت مذكرات هذا الغازي البرتغالي أن الساحل العماني اشتعل بالمقاومة الضارية لموجات الغزو من سقطرى إلى جلفار، و لم تسقط المدن العمانية الساحلية إلا بصعوبة بالغة ، و هو ما يفسر صور الانتقام الوحشي الذي قام به "أفونسو دا البوكيرك" لهذه المدن.


صفحة  غلاف الكتاب
لكن سنوات متطاولة من الاستعمار طوال القرن الـ 16م والربع الأول من القرن الـ 17م بقيت غامضة أشد ما يكون الغموض ، الذي ما كان له أن يزاح ، وما كان لحلقاته المفقودة أن تكتمل إلا بالكشف عن هذه الوثائق ، بجمعها و تصنيفها و طباعتها ، ثم ترجمتها و نشرها ، هذا إضافة إلى ما تكشفه من رؤية البرتغاليين لسنوات الصراع بينهم و بين العمانيين الذي استوعب القرن الـ 17م بأكمله تقريباً.
لا شك أن هذا المشروع كانت دونه من المكابدات و التحديات الشيء الكثير ، خاصة في الوصول إلى الوثائق و في تمييز ما يتعلق بالشأن العماني منها ، إذ هي مهمة عسيرة للغاية في حالة دولة كالبرتغال لها تاريخ استعماري واسع زمنياً و جغرافيا، تمددت بين قارات ثلاث: أمريكا الجنوبية ،و إفريقيا ،و آسيا حيث مقر البرتغاليين في "جوا" الهندية و إلى ساحل الخليج العربي ؛أقول هذا تمهيداً لاستحضار أمرين مهمين للغاية ،أولهما: الأهمية الكبرى لهذه الوثائق في تغطية حقبة لا تقل عن مائتي عام من التاريخ العماني ، و من وجة نظر معادية حينها ؛ و ثانيهما :مدى المشقة في معالجة شأن هذه الوثائق سواء من الناحية الإجرائية أو العملية ،أو من ناحية اللغة التي تتعدد في البرتغالية بين برتغالية قديمة و حديثة ،أو من ناحية تشتت هذه الوثائق بين أراشيف برتغالية عدة و ربما أراشيف المستعمرات البرتغالية كذلك .
و بوسعنا اليوم أن نشعر بالاطمئنان و نحن نرى صدور الكتاب المعنون بــ " البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة ، بحث في الوثائق " و هو عمل كبير في 16 مجلداً فاخراً اعتمدت على الجمع و التصوير و التصنيف ، و ضمت هذه المجلدات 1500 وثيقة برتغالية تتعلق بعمان ، و قد عمل على تحقيقه و إعداد مادته كل من:الدكتور عبد الرحمن السالمي و الدكتور مايكل يانسن ، و قد طبع من قبل دار "فيليب فان زيبرين" ، و قد كشف عنه النقاب لأول مرة في
مؤتمر الفكر الإباضي الثالث الذي انعقد في مدينة نابولي الإيطالية خلال شهر مايو الماضي .
 

* العمانيون و ثنائية الممانعة و التواصل :

في تصديرهما للكتاب يؤكد كل من صاحب السمو السيد هيثم بن طارق آل سعيد وزير التراث و الثقافة و معالي الشيخ عبدالله بن محمد السالمي وزيرالأوقاف و الشؤون الدينية أن هذا الكشف الكبير ونشر هذه الوثائق سوف "يكشف غوامض كثيرة ما جلت أسرارها أقلام الباحثين بعد" و أنه سيمد الباحثين بمعلومات مذهلة تكشف عن بعدها المعرفي و التاريخي،و تضيء زوايا ظلت مظلمة خاصة في الجوانب التالية :
ــ الأحداث التاريخية التي تخللت تلك العلاقة من وجهة نظر البرتغاليين .
ــ عمليات التنافس و الصراع بين القوى الأوربية على المحيط الهندي ، و سواحل عمان والخليج .
ــ المعلومات الجغرافية و الثقافية و الدينية التي تعرضها التقارير البرتغالية عن عمان وسواحلها و جوارها.
ــ الانطباعات و التصريحات و الرؤى التي تنم عن الدوافع و الأهداف من وراء الصراع على عمان و المحيط.
و في رأيهما أن الصمود العماني في المواجهة و في تحرير الأرض في تلك المرحلة يرد إلى عاملين اثنين هما : " الريادة البحرية العمانية القديمة في المحيط الهندي،والقيم الدينية الإسلامية السمحة التي شكلت ثنائيتي الممانعة و التواصل في آن واحد " و هذان العاملان ونتائجهما هما أيضاً اللذان دفعا إلى إنتاج هذا العمل الوثائقي الضخم كما يبين ذلك التقديم.

الصفحتان الأوليان من تقرير برتغالي
 في 1698م حول حصار العمانيين لمومبسا

و بوسعنا القول هنا بأن حقائق التاريخ تثبت إدراك العمانيين التاريخي بأن التأثير الإقليمي والعالمي إذا ما أريد له أن يكون بعيد الغور و واسع المدى ، فلن يكون ذلك نتيجة مباشرة للعمل العسكري ،بل هو بالقيام بمهمة الناقل الحضاري ، و العمل العسكري هنا هو حماية و دفاع عن هذه المهمة الحضارية ضد غاز لم يكن لينتمي لا جغرافياً و لا حضارياً لمنطقة بحر العرب أو المحيط الهندي أو الخليج العربي ، و مهمة التجسير الحضاري هي رسالة نهض بها العمانيون قبل و بعد الاستعمار البرتغالي ، ولم تكن مرحلة الاستعمار البرتغالي تلك إلا استثناءً و عائقاً ما لبث أن انقشع ، لتعود المهمة الحضارية على أشدها ؛ و لقد حملت السفن العمانية من الأفكار و الرواد و السلع أكثر مما حملت من المدافع و آلة الحرب ،و يشهد على ذلك تاريخ طويل موغل في القدم لم يعرف حالة صراعية واحدة بين ساحلي المحيط في الهند أو الصين و عمان ؛بل سجل التاريخ كيف أن بعض حكام عمان تصدوا  لخطر القرصنة المهدد للساحلين العماني و الهندي في عهد الإمام غسان بن عبدالله (ت 207هـ) ،و ما زالت دلائل هذا الجهد الحضاري الدؤوب تظهر بين فينة و أخرى ، و لعل من أهم هذه الدلائل ما عرف بـ "سفينة التانج" التي ترجع للقرن الـ 9 الميلادي ،واكتشفت كنوزها في عام 1998م في بعض سواحل جنوب شرق آسيا ،لتمثل نموذجاً تاريخيا للتجارة العابرة للمحيطات و إسهام العمانيين فيها ،حيث لا تزال محتوياتها التي تبلغ 60 ألف قطعة مادة هائلة للدراسة و البحث.
إن ثنائية "الممانعة" و " التواصل" التي أشار إليها ذلك التقديم تمثل نضج الإنسان العماني والرسوخ المبكر لمفهوم الوطن لديه ، و قدرته على إنتاج الخيارات المناسبة لكل وضع تاريخي ، و إدراكه المبكر بأن الانغلاق لا يفضي إلا إلى الموات ، وأن الأمة التي تحمل رسالة للعالم هي أمة "الانفتاح الواثق" ، و إداركه أيضاً أن الانفتاح بلا هوية واضحة و قوية لا يؤدي إلا إلى التيه و الذوبان في لجج الحضارات الأخرى ،و فقدان الرسالة التي تضيف للعالم و تغنيه ، ومن ثم تلاشي القيمة.
و الإسلام بما هدي إليه العمانيون منذ وقت مبكر عبر مدرستهم العقدية و الفقهية هو الذي مكنهم ــ في آن واحد ــ من تمثل حصانة الهوية و رسالية الحضور الإقليمي و العالمي والانفتاح الواثق الواجب،و لذا كان جهدهم و أثرهم ضخماً و فارقاً في المسارين: مسار التواصل ،و مسار الممانعة و الدفاع.

رسالة نائب الملك في الهند إلى ملك البرتغال في 
 21 يناير 1718 حول الخطورة التي  يشكلها
العرب في الأقاليم الشمالية
من الضروري التأكيد هنا أن نشر هذه المجموعة "بأصولها الوثائقية" الآن و بترجمتها لاحقاً مهم للغاية و في هذه المرحلة بالذات لعدة اعتبارات منها: أن الإدعاءات التاريخية تتصاعد، وبعض من يطلقها اليوم هم شخصيات مرموقة ــ للأسف ــ لم يترددوا في ترويج مغالطات تاريخية تكاد تكون تزويراً للتاريخ ، وبعض هذه المغالطات قامت عليها جهود مؤسسات بسوء نية أو بدونها ، و قد تحركت في مساحات فراغ لم نشغلها كما يجب ، و إن تنبهت إلى ذلك مؤسساتنا مؤخراً؛ و من هذه الاعتبارات بل و من أهمها أن أجيالنا العمانية الصاعدة عليها أن تعيي أكثر من أي وقت مضى رحلة تشكل الوطن العماني المضنية ، وما التحديات و الأخطار التي أحدقت بعمان في مسيرة كفاح كان الإيمان بالله ثم بالوطن العماني في القلب منها؟ و أي جهود و بلاء قام به الأسلاف العمانيون ليبقوا الكينونة العمانية ثابتة و محصنة بل و ناشطة و رائدة ؛ كما يأتي هذا العمل الوثائقي بعد سنوات من نأي أجيالنا الراهنة عن التاريخ ،وهو أحد أهم محددات و مقومات الهوية ، لنسترجع من جديد أحاديث مرت سنوات طوال منذ سمعناها آخر مرة ، و لنكمل حلقات من تاريخنا لا يضير أن تكون بلسان غيرنا أو حتى "أعدائنا" حينها فــ "الحق ما شهدت به الأعداء" .

* المهاد التاريخي للمجموعة الوثائقية :

 من أجل وضع العمل في سياقه التاريخي يقدم المحققان (د.عبدالرحمن السالمي و د.مايكل يانسن) مهاداً تاريخياً مهماً ، لهذه المجموعة الوثائقية الضخمة ، يؤكدان من خلاله أن الأحداث التاريخية الفاصلة في القرن الرابع عشر الميلادي و بالأخص في النصف الثاني منه أدت إلى متغيرات جيوسياسية ألقت بظلالها على القرنين التاليين، فأحداث كقيام الدولة العثمانية و سقوط القسطنطينية عام 1453م ، و سقوط غرناطة آخر معاقل المسلمين في الأندلس عام 1492م ، و بدء عصر الاكتشافات و ظهور القوى البحرية الكبرى كالبرتغال و أسبانيا و هولندا و بريطانيا و فرنسا ، و بروز الملاحين الكبار الذين قادوا عمليات الاستكشاف كـ : كولومبوس و فاسكو دوجاما و ماجلان و غيرهم  ، ثم اكتشاف القارة الأمريكية ، و تحول طرق التجارة الاستراتيجية ، كلها أدت إلى نتيجة تتلخص في بداية حركة الاستعمار الأوربي التي استمرت طوال الخمسمائة عام التالية.



رسالة نائب الملك في الهند في 29 ديسمبر 1626م
إلى ملك البرتغال تتعلق بإرسال أسطوله لمساعدة مسقط
إذن فقد كان البحر هو ساحة الصراع و المنافسة سواء بين تلك القوى ، أو بينها و بين القوى الإقليمية الشرقية عسكرية أو تجارية ، و لذا فقد كان لهذه التدخلات الأوربية على عمان "عواقب جسيمة ، فباعتبارها أمة دربت على ارتياد البحر فقد فقدت الزعامة في تجارة الصين لصالح البرتغال " التي أسست في عام 1508م مركزاً دوليا لها في الهند في "جوا" يديره نائب للملك و رئيساً للأساقفة "مطراناً"، ونظر البرتغاليون إلى هذا الاكتشاف و الحضور في المحيط الهندي ، و تدمير التجارة العربية فيه، نظروا إليه باعتباره فتحاً عظيما رسخت صورته في نمط التفكير البرتغالي و الأوربي، و لقد كانت تلك هي الخلفية التاريخية لهذه المجموعة الوثائقية .
و يسوق المحققان سبباً رئيسياً يجعل من الاهتمام بالوثائق في هذه المرحلة أكثر أهمية ، وهو إعادة النظر في الصور القديمة للوجود البرتغالي في بحار عمان ، خاصة مع تعالي التساؤلات حول تأثير الدين في هذا الوجود ،المسيحية من جهة و الدين الإسلامي متمثلاً في المدرسة الإباضية من جهة أخرى .

كما يسرد المحققان قصة البدء في هذا العمل الذي كانت بذرته في عام 1994م حين زار وفد عماني الأرشيفات البرتغالية ، ثم الشروع في المشروع البحثي عام 2006م الذي شمل الأرشيفات البرتغالية الرئيسية ،خاصة الأرشيف الوطني و المكتبة الوطنية ،محددا هدفه في الكشف عن الوثائق البرتغالية المتعلقة بالوجود البرتغالي في عمان منذ عام 1508م ، و تسليط الضوء على علاقة عمان بساحل شمال الهند و شرق أفريقيا منذ منتصف القرن الــ 17م فصاعداً،وهو ما يعني تغطية مرحلة المواجهة العمانية للوجود البرتغالي في الساحلين الآسيوي و الأفريقي .

رسالة نائب الملك في الهند إلى القائد العام للأسطول الشمالي
في 21 نوفمبر 1715 مشيرة إلى هجوم عربي وشيك
و يسوغ لنا أن نقول هنا :إن هذه الوثائق و ما ينضاف لها من شأنها ــ في ما يتعلق بكتابة التاريخ العماني ــ أن تعيد كتابة تاريخ تلك المرحلة بالكامل خاصة الشق الأول منها (ما بين نهاية القرن الـ 15 و بداية القرن الـ 17 الميلاديين) ، إذ لا تعطي المراجع التاريخية العمانية و العربية صورة واضحة عن تلك المرحلة باستثناء إشارات عابرة و غامضة ، بني بعضها على كتابات أوربية ، بل يمكن القول ــ كما سبق ــ بأن القارئ العربي و العماني لم يعرف شيئاً ذا بال عن مواجهة طلائع الاستعمار البرتغالي في عمان و لا أعمال المقاومة له ، و لا الثورات التي قامت ضده إلا عندما ترجمت مذكرات البوكيرك و نشرت عام 2000م ، أما الشق الثاني منها (أي بداية القرن الـ 17م إلى نهايته) وهي المرحلة التي قامت فيها الدولة اليعربية و بداية عملية التحرير و مطاردة النفوذ البرتغالي في الشرق الإفريقي و سواحل الهند الغربية ،فرغم أن المراجع التاريخية العمانية تحتفي بهذه المرحلة و تؤرخ لها بشكل جيد ، إلا أنها ــ بطبيعة الحال ــ كتبت من وجهة نظر طرف واحد ، و بقي أن نعرف كيف كان البرتغاليون ينظرون لتلك المرحلة من الصراع ، و كيف تهاوى وجودهم تحت قوة الضربات العسكرية العمانية البرية و البحرية ،و المراجع العمانية ــ رغم تتبعها لتفاصيل الصراع في الربع الثاني من القرن الـ 17م وما بعده ــ إلا أن ثغرات بقيت فارغة ، و أسئلة ظلت معلقة في انتظار أن يفصح الكشف التاريخي عن شيء جديد بشأنها ، ومن ذلك مثلاً ما يتعلق بوقعة "بتة" التي لا تذكر المراجع العمانية إلا اسم القائد العماني فيها "محمد بن مسعود الصارمي"  و قصيدته حولها ، و معركة "ديو" البحرية مع البرتغاليين ،و هما معركتان لا نعرف عنهما إلا أقل القليل ، و كذلك بعض الرسائل المتبادلة مع البرتغاليين التي أوردتها المراجع العمانية. و خلاصة الأمر أننا إزاء مرحلة طويلة جداً من التاريخ تكاد تصل لقرنين من الزمان ، و ما يتوفر حولها من المادة الوثائقية كان قليلا و غير كاف لإعطاء صورة مكتملة أو شبة مكتملة عما كان يجري بين الساحلين العماني و الهندي "البرتغالي" وصولاً إلى ساحل إفريقيا الشرقية ، و من شأن هذه المجموعة الوثائقية الضخمة أن تساعد كثيراً في رسم ملامح تلك المرحلة .

مذكرات كنيسة أوغسطين في المشرق محررة من
قبل الراهب سيماو داجراسا في 24 ديسمبر 1669 
تتعلق بالأنشطة الدينية للكنيسة في مسقط و صحار و دبا
و كما سبق و أشار المحققان فإن أهمية المجموعة يتعدى رصدها لجوانب الصراع و المنافسة إلى رصد العامل الديني المساوق لهذا الصراع ، فتصفح سريع للمجموعة سوف يدلنا على ما لحركة القسس و الرهبان من أهمية بالنسبة للبرتغاليين ،و اهتمام الوثائق بالحركة التجارية و المصالح المالية ،وهذان الأمران (الامتداد الديني و السيطرة على تجارة الشرق) أمران يرتبطان بأهداف الوجود البرتغالي في المحيط الهندي من حيث المبدأ ، و يؤثران بشكل حاسم في تحليل و تفسير الأحداث الواقعة في المحيط الهندي خلال القرنين الـ16 و الـ17 الميلاديين.
و يوضح المحققان أن هذه المجموعة المنشورة في 16 مجلداً تمثل الجزء الأول و الثاني من المشروع ، فالجزء الأول الذي يشمل المجلدات من 1-10 هي نسخ مصورة من وثائق الأرشيف الوطني البرتغالي ، بينما تمثل المجلدات 11-16 الجزء الثاني ، و تحتوي على صور من الوثائق المأخوذة من المكتبة الوطنية البرتغالية ، أما الجزءان الثالث و الرابع من هذا المشروع فهما يحتويان على الترجمات إلى العربية و الإنجليزية ، و هما ــ كما يفيد المحققان ــ في المراحل النهائية من الإعداد .
و بذلك فإننا أمام مشروع متكامل يستهدف وضع المادة الوثائقية بأيدي الباحثين مصورة و مصنفة أولاً ، ثم مترجمة ثانياً و بأكثر من لغة ، و على ذلك فإن هذا المشروع سيقدم خدمة نوعية شاملة عز نظيرها في كثير من مشاريعنا البحثية ، ما يفتح الباب أمام أفق من الأعمال البحثية التي كنا نطمح أن يعكف عليها باحثونا و مؤرخونا.
الجزء الثاني من المقال :

 


رسالة نائب الملك في الهند إلى القائد العام
للأسطول الشمالي في 21 نوفمبر 1715
مشيرة إلى هجوم عربي وشيك
كان من يمن الطالع أن يتزامن نشر الجزء الأول من هذا المقال مع الاحتفاء في معرض فرانكفورت الدولي للكتاب بصدور كتاب "البرتغال في بحر عمان ، الدين و السياسة، بحث في الوثائق"، حيث احتفت دار "فيلب فون زيبرين" للنشر المرموقة عالمياً و المتخصصة في نشر التراثيات بهذا الكتاب في هذا المعرض الذي يعد أضخم معارض الكتاب الدولية و أكثرها أهمية ، و بذا فإن هذا الكتاب يعد أول كتاب عماني يحتفى به في هذا المعرض الشهير.
و نستكمل هنا الجزء الثاني من هذا المقال، منطلقين في ذلك من مقدمة الكتاب ، ومن عناوين الوثائق التي صنفها الكتاب و وضعت بحيث تلخص مضمون الوثيقة ،كاشفاً بذلك عن اهتمام البرتغاليين الشديد في نهاية القرن الــ 17م و بداية القرن الــ 18م بكل ما يجري في المحيط الإقليمي العماني ، خاصة بعد أن استكملت حركة التحرير العمانية تخليص الأرض العمانية بأكملها من الاحتلال البرتغالي ، و بدأت الأساطيل العمانية تمد جهدها التحريري نحو الخليج العربي شمالاً، وشرقاً نحو موانئ الساحل الهندي التي يسيطر عليها البرتغاليون كديو و منجلور ، وجنوباً نحو شواطئ الشرق الإفريقي في بتة و موزانبيق و زنجبار و مومباسا و غيرها .


سجل أحداث مدون في 22 ديسمبر 1727 
لرحلة سفينة برتغالية إلى ممباسا و بتة
مع وصف المناوشات مع العرب
و لأن هذه الحركة التحريرية كانت قد أوشكت في بدايات القرن الـ 18م على استكمال قرن منذ انطلاقتها ، فإن الخصومة و التوجس كانا قد تجذرا و اشتدا بين العمانيين و البرتغاليين ، حيث اتخذ الصراع من حوض المحيط الهندي و الخليج ساحة واسعة له، و لذا فإننا نجد أن الوثائق البرتغالية لا تكتفي برصد تحركات الأسطول العماني و تبادل المعلومات حولها ، بل تلتفت تلك الوثائق أيضاً إلى العلاقات العمانية مع القوى الدولية الأخرى كفرنسا مثلاً ، كما تكشف عن جهود حثيثة لبناء تحالفات تقف ضد العمانيين مع القوى الإقليمية المجاورة ، ومن الملفت للنظر أيضاً أن تتطرق بعض الوثائق لما يدور في الداخل العماني من خلافات و منازعات! مما يؤكد مرة أخرى الأهمية الكبرى التي ينطوي عليها الكشف عن هذه الوثائق .

* حول الأرشيف البرتغالي :

من سجل الأحداث في الهند في 12 ديسمبر 1719
و وصف المعركة البحرية بين البرتغاليين و العرب
يضع المحققان فصلاً شيقاً للغاية يوضح تاريخ الأرشيف الوطني البرتغالي فيما يشبه سرداً لرحلة وصول هذه الوثائق إلينا،والتقلبات السياسية التي خضع لها نظام الأرشيف ، و كذلك الكوارث الطبيعية التي حلت بمقراته ، و عمليات النقل التي تعرضت لها الوثائق منذ القرن الـ 16م و حتى القرن الـ 20م سواء كان نقلاً من خط قديم إلى ما هو أحدث منه ، أو نقلا لمقره من بعض أبراج القلاع البرتغالية إلى بعض الأديرة ،وكذلك حالة الفوضى التي أتت عليه إبان دمج المملكتين الإيبيريتن (إسبانيا و البرتغال) في نهاية القرن الـ 16م و النصف الأول من القرن الــ 17م ، و تأتي أهمية هذا الفصل من ناحية أن الوثيقة سواء بوجودها المادي المتعين أو بمحتواها التاريخي و مضمونها تخضع لظروف الحفظ و التخزين و الفهرسة،و التوجهات السياسية أحياناً ، مما يجعل سرد تاريخ وصولها إلينا مهماً لبيان أي ثغرات واقعة أو متوقعة ، و هو ما يرتبط تلقائياً بالصورة الكلية التي تصنعها جزئيات الصورة التي تقدمها كل وثيقة، وملخص ما يشير الباحثان إليه هنا ،أنه و رغم كل تلك التقلبات فإن الأرشيف البرتغالي ظل في أعلى دوائر الاهتمام من قبل التاج البرتغالي ،و بقي مؤسسة مرعية يشرف عليها حراس و قيمون يعينون من قبل الملك منذ مرحلة مبكرة جداً في القرن الــ 15م ؛بل و قلبه منذ عهد الملك دي جاوو(1383-1433م)، و كانت تحكم العمل فيه لوائح منظمة ودقيقة وصارمة يتم تطويرها على مراحل متفاوتة ، كما خضع لعملية نسخ و إعادة تدوين للنصوص القديمة بخط جديد في مرحلة مبكرة في بداية القرن الـ 16م فيما سمي بمبادرة "القراءة الجديدة" ، ثم لإعادة تصنيف بسبب كارثة الزلزال الذي دمر لشبونة عام 1755م ، و هو ما يعني أن هذا الأرشيف برحلته الطويلة شكل تحدياً كبيرا للباحثين لفحص ما يقرب من 90000 وثيقة ،و فرز ما يتصل بالشأن العماني منها.



رسالة من ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
في 5 مارس 1620م تتعلق بإنشاء قلعة صحار
كما يتطرق الباحثان إلى "أرشيف جوا التاريخي" في الهند و "أرشيف ما وراء البحار" في لشبونة،و ما فيهما من مجموعات وثائقية مهمة ــ خاصة في الشأن العماني ــ و اللذان يحتاجان لمشروع بحثي مستقل سيبدأ قريباً ، و في هذا الصدد يورد الباحثان تفاصيل تاريخية حول حيثيات التوثيق البرتغالي، خاصة لوثائق المستعمرات البرتغالية فيما وراء البحار فيما يسمى بـ "كتب الرياح الموسمية" أو "الوثائق المرسلة من الهند" ،التي كانت تتبع إجراءات صارمة في إرسال الوثائق خشية عليها من السرقة أو التلف نتيجة هجمات الأعداء على السفن ، حيث يبعث منها عدد من النسخ في أكثر من سفينة ، لتبقى النسخة الأصلية في "جوا" أو "لشبونة"، و يجدر بالذكر هنا أن الباحثان يؤكدان أن شطراً من هذه المجموعات الوثائقية، خاصة ما يتعلق منها بــ "سكرتير حكومة جوا" قد نقلت من "جوا" إلى "لشبونة" بناء على مرسوم ملكي صادر عام 1774م ،وعلى ذلك فإن هذه الجوانب الإجرائية تؤكد أن الوثيقة ظلت في الإمبراطورية البرتغالية سواء في البرتغال نفسها أو في المستعمرات شأناً عالي المستوى .
و يذكر المحققان مثلاً أن بحثا في السجلات الديبلوماسية و بالذات في سجلات "الهبات" التي كان يعدها و يدققها الملوك البرتغاليون بأنفسهم فيما بين مرحلة الملك مانويل الأول(1495-1521م) و الملك جاواو الرابع(1640-1656م) فيما يتعلق بأسماء الأشخاص الذين تم تعيينهم في مناصب أمراء القلاع أو عمال أو مديرين أو كبار سماسرة في كل من مسقط و قلهات و صحار في عمان؛ فقد أسفر البحث عن كشف أكثر من 100 وثيقة تتعلق بعمان ، كما أن البحث في بعض السجلات المتعلقة بالامتيازات و الاعفاءات أو الحصانات أو منح ألقاب أو أوسمة من قبل المسؤولين الكبار الممثلين للملك في مناطق خارج البرتغال لأولئك الذين قدموا خدمات مميزة أو أثبتوا جدارة أو بسالة في ميادين المعارك كشف عن أكثر من 12 سجلاً تصف حدوث بعض هذه الأمور في عمان ،و معها أوصاف لإنجازاتهم و أعمالهم التي قدمت على أنها "بطولية" .



رسالة ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
 في 15 مارس 1649 يطلب منه المساعة
على كسب تأييد الشيوخ ضد الإمام
كما يتحدث الباحثان عن مجموعة أخرى من الوثائق المكتوبة باللغة العربية يبلغ عددها 97 وثيقة تتعلق بمراسلات من ملك هرمز و ملوك و أمراء منطقة الخليج العربي.
و هكذا فإنه في مجموعات متفرقة و متعددة المصادر في بعض الأحيان يكشف البحث عن وثائق ذات صلة بعمان قد لا تخطر على البال بادئ الرأي ، إذ يكشف البحث مثلاً عن وجود 12 وثيقة ذات علاقة بعمان في مجموعة من السجلات المالية البرتغالية تسمى "مجلس حكومة الهند الملكي للمالية" ،و مضامينها التزامات ملكية و مدفوعات مسؤولين و نفقات على مصانع و قلاع ، كما ترد إشارات "لافتة" لمسقط في مجموعة "محكمة المكتب المقدس للتفتيش" و هي إحدى محاكم التفتيش البرتغالية كما يظهر اسمها ، حيث ترد مسقط كمكان ولادة أو عيش أو عقوبة لعدد من المعتقلين أو المدانين في هذه المحكمة! ،و في مجموعة " القديس فنسنت" والمكونة من 26 مجلداً تتناول الشؤون الديبلوماسية في الحقبة ما بين القرن الـ 16م و 18م ،في هذه المجموعة يجد الباحثان 20 وثيقة ذات ارتباط بعمان ، و في مجموعة "المخطوطات المتفرقة من دير جراسيا" و هي مجموعة وثائقية متنوعة تتعلق بحكومة الهند خاصة في القرن الـ 17م و جد أكثر من 20 تقريرا و وثيقة تتعلق بالشؤون الكنسية في الخليج. و في مجموعة وثائق أخرى تسمى "مخطوطات المكتبة" تعود ملكيتها لأديرة و لرهبان من أتباع كنسية القديس "أوجستين" الذين كان لهم دور مهم في الهند ، وهي مجموعة ذات نفس أدبي و مضامينها في التاريخ و الرومنسيات و علم النبالة و السير الذاتية و الأعمال الدينية ، كما تضم وثائق إدارية كنسية ،يجد الباحثان أكثر من 20 و ثيقة تشير لعمان، هذا إضافة إلى مجموعات وثائقية شخصية جمعها أفراد ذو مكانة مرموقة ثم ضمت إلى الإرشيف الوطني البرتغالي لاحقاً ، و من أبرد هذه المجموعات مجموعة "دوم جاواو دو كاسترو" الذي كان حاكماً على الهند بين سنوات 1545-1548م و "مجموعة القديس لورانس" التي جمعها "دوم أنتونيو دو آتيدي" و غالبيتها تعود إلى "دوم ألفاروا دو كاتسرو" ، و أبيه "دوم جاواو دو كاسترو" و هي وثائق و مراسلات لهذا الحاكم و لمسؤولين محليين في موانئ آسيا ، ففي هاتين المجموعتين وجد الباحثان حوالي 36 وثيقة لها علاقة بعمان.
رسالة ملك البرتغال إلى نائبه بالهند
في 13 أغسطس 1710  تتعلق بالمفاوضات
مع العرب في مدينة ممباسا

*مجموعة المكتبة الوطنية البرتغالية :



هذا فيما يتعلق بوثائق الأرشيف الوطني البرتغالي بمجموعاته المتنوعة ، أما مجموعات المكتبة الوطنية البرتغالية التي تصل إلى 13400 وثيقة و 261 صندوقاً من المخطوطات إضافة إلى مجموعات أخرى ،فإن الباحثان يشددان على أهميتها النوعية خاصة من ناحية التفاصيل الواسعة و المتشعبة التي تحتويها 430 و ثيقة كشف عنها البحث ،وهي ذات علاقة بالشأن العماني .
و لعل أكبر حشد من هذه الوثائق المرتبطة بعمان تأتي في الفترة التي كان "دوم فرانسيسكو دي جاما" نائباً للملك في الهند في فترتين (1597-1600م و 1622- 1628م) خاصة المراسلات بين لشبونة وجوا ، و سجلات المجلس الاستشاري الذي كان يساعده في الهند و مجلس الإيرادات في جوا ،و الوثائق المالية المتعلقة بالتموينات لعدد من القلاع و الحصون في آسيا ، و كذلك في المذكرات القيمة و المفصلة التي كتبها "دوم ميغل دو نورونها"  أثناء توليه منصب نائب للملك على الهند في سنوات (1629-1635م)،هذا إضافة إلى وثائق أخرى تتحدث عن البعثات العسكرية في الخليج ،بما في ذلك الأفراد الذين طلبوا تولي مناصب في مسقط ،كما تكشف وثائق دينية كتبت أواخر ثلاثينيات القرن السابع عشر عن سير ذاتية لمبشرين عبر بعضهم مسقط و مناطق أخرى من عمان خلال رحلاتهم التبشيرية . و تكشف وثائق أخرى عن سفارات و مفاوضات و اتفاقيات موقعة مع قادة ذوي سيادة في بعض مناطق آسيا خلال الجزء الأخير من القرن الـ 17 و بداية القرن الـ 18م.
بيد أن "مجموعة بومبالين" الوثائقية هي الأهم في هذا الصدد ،فقد كشفت عن وثائق تعود إلى أواخر القرن الـ 17م حينما شكلت مسقط معضلة عسكرية كبيرة أمام البرتغاليين بسبب توغلات أساطيل الإمام في مناطق النفوذ البرتغالي شمال الهند، و على طول الساحل الإفريقي الشرقي ، إذ تقدم هذه الوثائق شرحاً مسهباً لسقوط مومباسا ذلك الميناء الإفريقي الهام في أيدي العمانيين نهاية القرن الــ17م ، كما تقدم دفاتر للسجلات الخاصة بأساطيل البرتغاليين التي حاربت ضد سفن الإمام في الربع الأول من القرن 18م .
*جهد مستمر توثيقاً و تحليلاً:
 

من سجل الأحداث في الهند في 12 ديسمبر 1719
و وصف المعركة البحرية بين البرتغاليين و العرب
من المهم أن ندرك هنا أن البحث في أكوام الوثائق الهائلة لابد أنه شكل تحدياً كبيراً للباحثين ، خاصة إذا ما نظرنا لحاجز اللغة التي تمثل البرتغالية فيه بأجيالها المختلفة عقبة كؤوداً ، و هو ما سنظل مدينون فيه لشغف البحث الذي تمسك به الباحثان ،والدعم المؤسسي الذي كان مؤازراً لهما و ممهداً السبل أمامهما ، و لا شك أن أي باحث جاد يدرك إلى أي حد يكون عمل من هذا القبيل مضنياً ، و محتاجاً لطول النفس و وفرة الموارد و سعة العلاقات ، و الباحثان مع ذلك ينبهان إلى أن هذا الجهد لن يكون نهاية المطاف نظراً لسعة و ضخامة مقتنيات المؤسسات الإرشيفية البرتغالية ، ومن ثم فإن أي وثائق سيعثر عليها مستقبلاً ستنشر في الجزء الثالث من هذه السلسلة مع الوثائق الموجودة في الأرشيف الدولي و مكتبة أجودا ، ما يعني أن على هذه الجهود أن تستمر توثيقاً و تحليلاً من أجل وعي أكثر عمقاً بالتاريخ ، خاصة و أنها  تقف أمام تاريخ هائل ، و مصادر تاريخية مشتتة.
و إذا كان هذا الجهد الكبير كتب له النجاح ــ بتوفيق الله ــ ثم بإرادات أحبت تاريخ عمان و صدقته الانتماء ، فكان أن وثق و نشر أصول هذه الوثائق لحفظ المصدر التاريخي في بداءته الأولى ، فإن أول النتائج التلقائية التي ستظهر قريباً كما يبدو هي ترجمتها باللغتين العربية و الإنجليزية ، لتسمح يومها بفتح باب ضخم من الدراسات التحليلية ،وهي حتماً ستسهم في سد الثغرات و إكمال الحلقات الناقصة ،و تجلية كثير من الملابسات،و إضاءة زوايا ظلت معتمة ردحاً من الدهر.
رسالة ملك البرتغال إلى نائبه في الهند
في 12 ديسمبر 1636م
حول
 التدابير الاحتياطية المتخذة  في مسقط
و يأمره فيها بالتحقق من الذخائر المرسلة
إلى القلعة فيما إذا كانت كافية .
مع جلاء المعرفة و سطوع الحقائق يعرف عمان من لم يعرفها ، و يدرك الصورة باتساعها و بأبعادها العميقة وبتضحياتها الجسام من تباعد عن التاريخ من أبناء عمان ، حتى نحيى جميعاً على بينة من الأمر أمام العبر التي كتبتها سيرورة التاريخ على الأرض العمانية ، و دونها الحضور العماني على ساحلي المحيط الهندي ، في مرحلة تاريخية فاصلة كان من المفارقة أن توسم في التاريخ العربي بعصر "الجمود و الانحطاط" ، بينما كان الحضور العماني في أوج قوته و تأثيره وهو يقوم بمهمته الخالدة بين ثنائيتي "الممانعة" و "الانفتاح" ، متصدياً في مرحلة مبكرة من التاريخ العربي لأولى موجات الاستعمار وأكثرها طولاً في الزمان و المكان، و مبشراً ــ في ذات الوقت ــ بقيم الاستقلال و التحرر و العدالة .




الاثنين، 15 أكتوبر 2012

البعثات.. النوع مع الكم

* نشره ملحق وزارة التعليم العالي الصادر مع جريدة عمان "رؤى" 
الثلاثاء 18 سبتمر 2012م

لم تعد مسألة البعثات الخارجية لتمثل مشكلة فيما يتعلق بالكم بعد أن تدفق الدعم على هذا البند عبر مباردات عديدة من أهمها الأوامر السامية بالابتعاث للدراسات العليا و تخصيص موازنات مهمة لهذا الغرض ، و تحسين أوضاع المبتعثين،و غير ذلك من السياسات
التي ستشكل قفزة حقيقة ستنحسر بفعلها مشكلة الباحثين عن فرص التعليم العالي ، و لقد صنع هذا الدعم ارتياحا كبيرا لدى الرأي العام و أبان عن حقيقة أن قضايا تنموية كان ينظر إليها باعتبارها قضايا معقدة يمكن أن تجد الحل بسهولة عند توفر الإرادة و حسن الإدارة و سياسة فتح الأبواب و صناعة الفرص.
و أتصور هنا أننا لا يجوز أن نضيع الوقت قبل أن نعتني بالنوع أيضا أي نوعية البعثات خاصة الخارجية منها ، و هي البعثات التي تستثمر فيها موارد و أموال و جهود أكثر من غيرها بكثير ، و حس الاستثمار في الكادر البشري لابد أن يكون مرتفعا هنا ليس باعتبار كلفتها فحسب ، بل و باعتبار كونها جسرا حضاريا ناقلا للمعرفة و الخبرة.
إن هذا سيدفع تلقائيا إلى مناقشة نوعية التخصصات التي تقع فيها النسبة الأكبر من البعثات و كذلك ارتباطها بمدى الحاجة إليها و مدى اتصالها بسوق العمل ، و أيضا توزيعها على الدول و البلدان لضمان تعدد و تنوع المعرفة و الخبرة.
لكن من المهم جدا أن نناقش نوعية المبتعثين و كيف ينبغي أن نضمن إيمانهم و قدرتهم على النقل الحضاري للمعرفة ، و القيمة المضافة التي تأتي من وراء الاستثمار في الابتعاث ،في عالم أصبحت فيه المعلومة بسبب ثورة وسائط التقنية متاحة قد لا تحتاج إلى عناء و كلفة الرحلة في طلبها ، إذ المعلومة هي حد أدنى من الوعي بالحقائق ،و قد أصبحت شائعة و تكاد بعض مستوياتها أن تكون مجانية أو زهيدة الثمن ، لكن الذي ينبغي أن نسلح به أبناءنا المبتعثين هو القدرة على الوصول للمعرفة و ليس المعلومة فحسب ، لأن المعرفة هي خلاصة المعلومة و نتيجتها ،و الأهم من ذلك أيضا الوعي بالمنهج أي منهج الوصول للمعرفة إذ هو أهم أشكالها ، فهو الذي يزودنا بالقدرة على إنتاج المعرفة و توليدها بدل أن نكون مستهلكين لها فقط.
و لا يجب أن يفهم ذلك بأنه إخلال بمبدأ تكافؤ الفرص في الحصول على فرص الابتعاث ،بل إن الذي أعنيه هنا أن هناك طورا من الإعداد لمبتعثينا ينبغي أن يتم حتى نضمن أن هذه الفرص تذهب في الاتجاه الصحيح و أن الاستثمار في هذا المسار سيغني بلادنا بالمعرفة النوعية التي نحتاجها.
في تاريخ الابتعاث وجدنا أن إمام الشعائر للبعثة التي أرسلها محمد على باشا إلى فرنسا في القرن التاسع عشر هو الذي ترك الأثر الحضاري الأكبر لإنه اعتنى بالمعرفة، بما وراء المعلومة من فكر و ثقافة و نظام إداري و مجتمعي ، فقد سجل التاريخ لرفاعة رافع الطهطاوي سبقه و ريادته في محاولة تحليل أسباب التقدم ،بينما لم يذكر التاريخ شيئا لزملائه الكثيرين الذين وقف اهتمامهم عند حد البحث عن المعلومة.

الأربعاء، 12 سبتمبر 2012

تحقيق الشبيبة حول أداء الجهاز الحكومي

نشرت جريدة الشبيبة ــ مشكورة ــ خلال الأسبوع الفائت الأحد و الإثنين و الثلاثاء 2-3-4 سبتمبر تحقيقاً استطلعت فيه آراء مجموعة من أعضاء مجلسي الشورى و الدولة و الاقتصاديين و الباحثين و الكتاب ، مستعرضة آراءهم حول الأداء الحكومي خلال المدة القليلة المنصرمة ، و قد تميزت تلك الآراء بتنوعها و اختلاف نظرتها للشأن الوطني و للقضايا الرئيسية المطروحة في ذلك التحقيق من قبيل قضايا أداء المؤسسات و المسؤولين و الشفافية و البيروقراطية و مكافحة الفساد ، و قد اختلفت تقييماتها للمرحلة تشاؤماً أو تفاؤلاً ، كما قدمت بعض القراءات رؤية موضوعية تحاول أن تنظر للمنجز الوطني خلال المرحلة الماضية ضمن سياق التغيير و التطوير في وطننا العزيز ، شارحة الأسباب و العلل و طارحة المقترحات و الحلول .  و كان الأولى أمام هذا التنوع في الآراء أن يترك للقارئ اكتشاف الخلاصات و النتائج دون توجيه نحو رأي بعينه أو حول نتيجة محددة تجنح إلى التشاؤم أو التفاؤل ، أو لدفعه نحو قراءة تختزل هذا السياق المتحرك في عبارة متعجلة ، لكن الصحيفة آثرت أن تستنتج خلاصة أو نتيجة و تقدمها للقارئ ، بينما كانت الآراء متنوعة و متعددة ، كما أن الأبعاد و الأسباب و التحديات و الظروف و التعقيدات التي ترافق هذه المرحلة من الأداء الحكومي ، لا تحتاج لحكم جازم بقدر احتياجها لحوار و نقاش و شرح لكل جوانب القضايا و حيثياتها حتى يتحمل الجميع مسؤوليته من مسؤولين في كل درجات المسؤولية ، و مواطنين نحرص على حاضر و مستقبل وطننا ، كما أن المطلوب منا ليس تحديد أو دفع المسؤولية بل أن نستشرف المستقبل ، و نقترح الحلول و المخارج التي يمكن أن تكون مادة للنظر و البحث و الدراسة.
و هنا أرجو أن تسمحوا لي بنشر مشاركتي في هذا التحقيق منفردة ، في محاولة لاستجلاء الرأي و طرح الأفكار للقارئ ، و تداول الرؤى بشأنها ، و ترك الخلاصات و النتائج لتأملنا و وعينا جميعاً بمسؤوليتنا الوطنية .
 
 
• المحور الأول :  كيف ترون الأداء الحكومي بعد عمليات التطوير في العديد من الأجهرة الحكومية ؟
لا يمكن أن نخرج بحكم عام واحد على ذلك الأداء لأن هناك تفاوتاً بين هذه المؤسسات و بين من يقودون هذه المؤسسات في إدراك متطلبات المرحلة الراهنة و المستقبلية ، لكن الجميع يلاحظ إجمالاً تحسناً ملحوظاً ، و نحن في حاجة إلى : شموليته ، و استدامته و لا يأتي ذلك إلا بمزيد من المؤسسية و المهنية في الأداء ، و أعني بذلك أن يتحول ذلك إلى طابع مؤسسي دائم لا يرتبط وجوده بوجود مسؤول معين يزول هذا التوجه بزواله .
أقول إن هناك تفاوتاً لعدة اعتبارات : فهناك مؤسسات كانت قد شرعت في تطوير أدائها من حيث تطوير الإنتاجية و ربطها بمعايير عالمية لجودة الخدمات ، و تحسيين التقنيات و إدخال النظم التفاعلية ، و هذه تلقائيا ستستمر في تطوير الأداء و ستعزز هذا التوجه ، و هناك مؤسسات تغيرت قياداتها و من طبائع الأمور أن القيادات الجديدة و في ضوء متغيرات و ظروف جديدة ستسعى إلى وضع سياسات أفضل و تطوير الإنتاجية و تحسين الأداء ، و نادراً ما نتوقع تراجعاً في مثل هذه الحالة . لكن حتماً هناك مؤسسات لم تبارح مكانها في تطوير أدائها إما لأن رؤسائها لا يزالون يتشبثون بمنهج قديم في التعاطي مع سياسات وممارسات مؤسساتهم ، أو لعدم قدرة عن إدراك المتغيرات و الظن أن قفزة الوعي و اهتمام المواطن هو عرض طارئ .
و هناك مؤسسات جديدة ظهرت على ميدان العمل خلال العام المنصرم ، و هي تقوم بجهد كبير و عمل مشرف و وجدت دعم المواطنين و احترامهم ، أذكر منها على سبيل المثال الهئية العامة لحماية المستهلك فرغم حداثة نشأتها إلا أنها أثبتت رعايتها لمصالح المواطنين و قدرتها على تطبيق القانون .
و هناك مؤسسات أخرى ايضاً حديثة النشأة و هي ستصب في مصلحة تعزيز الأداء الحكومي الآن أو في المستقبل من ناحية التزويد بالمعلومات و البيانات اللازمة لاتخاذ القرار منها: الهيئة العامة لسجل القوى العاملة ، و المركز الوطني للإحصاء و المعلومات.
على وجه العموم تحدي استدامة جودة الأداء الحكومي كبير جداً لأن المجتمع ينحو إلى التعقد و قضاياه الحساسة تتعدد والاقتصادية على وجه الخصوص ، و المنافسة الإقليمية حاضرة دائماً و تضع مؤسساتنا أمام مقارنات منها المنطقي و منها غير المنطقي ،و مجهر الإعلام التقليدي و أضواء الإعلام البديل تزداد تركيزاً ليضخم و يعظم أبسط الإشكالات ، و في هذا التحدي الكثير من الإيجابيات على مستوى الأداء لو أحسن التعامل معه .
و هناك في نظري عدة مرتكزات بدأت بعض الجهات في الأخذ بها و جعلها ضمن القيم المؤسسية فيما تتردد مؤسسات أخرى في تطبيقها :
ــ جعل المواطن محور الارتكاز في تقديم الخدمة و رسم السياسات و تطوير الممارسات.
ــ تطوير آلية اتخاذ القرار داخل المؤسسات لتتخلص من الفردانية و تنحو إلى التشاور و التخصص .
ــ  تفويض الصلاحيات إلى الكفاءات و التقليل من الاعتماد المطلق على رأس المؤسسة و استبدال ذلك بوضع القيم و الخطوط العامة .
ــ تعزيز التقنيات التفاعلية للجمهور و تدريب العاملين على توظيفها.
ــ تعزيز الرقابة الإدارية و المالية الداخلية بما لا يعيق أداء العمل و بما يضمن تعزيز النزاهة و الكفاءة.
 
• المحور الثاني : ما تعليقكم حول ما يقال بأن التطورات التي شملت قمة الهرم في العديد من أجهزة الدولة لم تحقق الطموحات نظرا لبقاء مسؤلين قدامى دون قمة الهرم يناط إليهم تسيير الاداء الحكومي؟
هذه المقولة تحتاج لفحص و نظرلأنها تقدم سبباً و تحمل المسؤولية ، و على أي قطاع يمكن أن تنطبق أو تصح ، حتى نطرح بعدها سؤال عن السبب، لماذا؟ ذلك لأن الوزير لا يزال إلى اليوم هو المسؤول التنفيذي الأول ، و هو مسؤول عملياً ليس عن سياسات الوزارة فحسب بل و عن ممارستها في تطبيق الأنظمة و لوائح العمل و غير ذلك ، و علمياً لا يمكننا الفصل بين المسؤول الأعلى و المسؤول الأدنى ، لكن من يمارس العمل الإداري يدرك أن كثيراً من التطوير و المبادرات الإيجابية تأتي من مستويات الإدارة المتوسطة و العليا ، إذا لقيت آذاناً صاغية و مناخاً من التشاور لا يستأثر فيه بالرأي و يرحب بالمبادرات التي ترمي لتطوير الأداء ، و مسؤولية صنع هذا المناخ التشاوري هي على المسؤول الأول و عليه تبعة الإخفاق في إيجاد هذا المناخ.
مشكلة قيادات الصف الثاني و الثالث في مؤسساتنا ــ رغم أن كثيراً منهم أقرب للشباب ــ مشكلة بعضهم على الأقل هي أنهم اعتادوا منهج إدارة قائم على التفرد و الشخصانية و سياسة التنفيذ بلا مناقشة و لا مراجعة ،و بعضهم يرى في ذلك نوعاً من قوة الشخصية الإدارية و الحسم دون انتباه إلى أن قوة القرار هي في تحقيقه للمصلحة و برهنته على ذلك و ليس في متخذ القرار ، و هؤلاء لم يعوا بعد المتغيرات التي حدثت ، قد يعيها من هو أعلى رتبة منهم بسبب وفرة المعلومات لديه ، و من هو أدنى رتبة منهم بسبب التخصص أو القرب من ميدان العمل ، و لذلك يبقون أحياناً كجزر تقاوم التغيير الإيجابي ، و أمر طبيعي أن هذا المخاض سيحدث تغييراً ، و علينا أن ننظر له باعتباره من سنن تطور المجتمعات و لا مناص عنه .

• المحور الثالث :هل الأداء الحكومي الحالي حقق المطالب الشعبية الاخيرة في ما يتعلق بالشفافية والقضاء على الفساد والبيروقراطية ،وكيف ؟
أرجو أن تسمح لي بأن أخفف من إطلاق العبارة في السؤال ، فليست هناك شفافية مطلقة ففي كل دول العالم هناك شفافية من ناحية و حجب نسبي للمعلومات من ناحية أخرى، و لذلك تتعاظم اليوم مثلاً قضية موقع ويكليكس و مؤسسه "أسانج" ، و ليس هناك قضاء مطلق على الفساد ، و لكن المهم دائماً أن يكون هناك حصار و مواجهة للفساد، فحتى في دولة النبوة واجه النبي صلى الله عليه و سلم أشكالاً من الفساد ، وفي أعرق الديمقراطيات تفاجؤنا فضائح الفساد في أفدح صورها و يكشفها الإعلام بينما قد تفشل الأجهزة في كشفها!، و في دولة الخلافة الراشدة صادر الخلفاء أموال الولاة تحت شبهة استغلال النفوذ. و ليس هناك قضاء مطلق على البيروقراطية ، لأن البيروقراطية في جوهرها هي نظام الإدارة المتضمن للتراتبية و الهيكلية و آلية اتخاذ القرار و غيرها ، و هذه من ضرورات العمل الإداري و بدونها ننحو إلى التسيب و الاستخفاف بالوظيفة العامة و تهاوي الشعور بالمسؤولية .
و لذا من المهم أن نخفف من التصورات المغالية في المثالية في هذا الصدد ، فإذا كانت السياسة فن الممكن ، فالإدارة لها نصيب من ذلك ، ففي الحالتين هناك ضرورات تنموية و احتياجات للمواطنين و تحديات و موارد محدودة و تعقيدات و مطالبات مشروعة و مطالبات غير واقعية و إلى آخره. و إذا كان هذا مهماً فإن الأهم هو وجود المساءلة و الرقابة سواء منها تلك المتخصصة إدارية أو قضائية، أو متابعة الرأي العام من خلال وسائل الإعلام .
و في شأننا الوطني ، و في النقاط الثلاث التي ذكرتها (الشفافية ، مكافحة الفساد ، البيروقراطية) تحقق تقدم نسبي و متفاوت ، وهو لم يكتمل بعد ، وقد يرى بأنه غير كاف لأن التحديات كبيرة و لأننا تأخرنا في تحريك بعض المسارات و نحن نحاول اللحاق بما فات . و لنا أن نسأل هنا ما هو الضابط لكل هذه الأمور ؟ و المفردة الأكثر بروزاً هنا هي المحاسبة ثم المحاسبة ثم المحاسبة ، و سياسة من أين لك هذا ؟ المحاسبة بآلياتها المختلفة إدارية ، و قضائية ، و عبر استكشاف موقف الرأي العام هي التي ستطور الأداء و ستضع البيروقراطية في حدها الطبيعي دون تزمت أو تعقيد ، و هي التي ستعزز الشفافية و تجعل الأداء الحكومي تحت نظر و بصر الرأي العام ،  و هي التي ستكافح الفساد ، ليكون تحت طائلة الأجهزة المعنية بالمتابعة و الرصد و التي توجه لها الخطاب السامي لجلالة السلطان المعظم حفظه الله في مجلس عمان بتكليف واضح بأن تكافح الفساد و " أن تقوم بواجبها في هذا الشأن بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون"، و هو في حقيقة الأمر ما سيضع المسؤول الحكومي ــ في أي مستوى من مستويات المسؤلية ـــ أمام حقيقة أنه مسؤول أي مساءل ، و من المفارقات هنا أن كلمة مسؤول بصيغة المفعول أخذت في المخيال العام معنى آخر تماما ينطوي على التشريف أكثر من التكليف ! و هو ما ينبغي أن يتغير في المفهوم العام .
في مجال مكافحة الفساد لابد أن أن ننظر إلى حقيقة أن الفساد متلون و متنوع ، و من يقومون به يستغلون الثغرات القانونية و بطئ المحاسبة ، لكن هنا ألفت الانتباه أن ما يتم خسارته بسبب سوء التخطيط أو سوء الإنفاق أو تضخيم الكلف قد يكون أكثر مما نخسره من الاختلاس أو الرشوة أو استغلال النفوذ. و هذا الهدر في المال العام الناتج عن ذلك يودي بموارد مهمة قد نحتاجها ذات يوم ، وقد لا يوضع هذا الأمر قانوناً في قائمة أشكال الفساد و لكن ضرره على الموارد و على الثقة بالمؤسسات كبير،و هناك دول عظمى اليوم دخلت في أطوار من التقشف و ترشيد الانفاق ، بل و تقليل الإنفاق على الخدمات الأساسية! فلماذا لا نطرح سؤالاً مهماً حول ترشيد الإنفاق و تقليل الهدر؟ و فضلاً عما نعلمه جميعاً من صور الهدر هذه فحتى في أبسط الصور و أقل الأمثلة لا يوجد تعميم إداري واحد اطلعنا عليه يوصي الموظفين بإغلاق أجهزة التكييف عند نهاية الدوام الرسمي مثلاً ، أو تقليل الإسراف في استخدام الأجهزة المكتبية و القرطاسيات بلا داع ، هذا على سبيل المثال و في أدنى الأمور فضلاً عن أكبرها؟!
المحاسبة في العناصر الثلاثة التي ذكرتها تتجلى تلقائيا في الآتي :
ــ أجهزة تدقيق و رقابة داخلية و هي في شكلها داخل كل مؤسسة موجودة بحمد الله ، و في شكلها العام موجودة ممثلة في جهاز الرقابة المالية و الإدارية للدولة و الذي يترقب الجميع تقريره عن عام 2011م .
ــ محاسبة قانونية و قضائية قوية و محترفة و مستقلة و هي بحمد الله موجودة و قد بدأنا في ملامسة بعض آثارها ، لكننا في حاجة إلى مزيد من رؤية فعاليتها على الواقع ، أقصد هنا أن المواطن يريد أن يرى أثراً أكبر لعملها ، تماماً كما يلمس المواطن اليوم قوة و فعالية نموذج محكمة القضاء الإداري و الثقة المتعاظمة في أدائها و هي حقاً نموذج مشرف وحضاري جعلت المسؤول يحب لقراره الإداري ألف حساب .
ــ محاسبة برلمانية عبر مجلسي الشورى و الدولة ، و هو ما يؤسفنا أن نقول فيه إن أعضاءه لم يتمثلوا بعد حقيقة الصلاحيات الرقابية و التشريعية الممنوحة بموجب المرسوم السلطاني 99/2011م ، إذ لا يزال التعامل مع الجهاز التنفيذي قائم على آلية البيانات الوزارية التي لا تعطي الفرصة للتركيز على قضايا محددة و الخروج بنتائج لصالح أو ضد أي وزارة من الوزارات.
ــ محاسبة إعلامية و قد بدأ حضورها عبر البرامج الجماهيرية الإذاعية و التلفزيونية التي تتناول الأداء الحكومي بكثير من الرصد و النقد ، و لكن لا بد أن تضمن هذه الحرية الإعلامية بقانون مطبوعات و نشر جديد يوازن بين حاجتنا لصحافة حرة و نشطة و مؤثرة و لكنها مسؤولة و تحفظ حقوقر الناس و احترامهم ، و هذا القانون المرتقب هو الذي سيضع المظلة الحقيقية لحرية التعبير و حرية النشر.

الأحد، 29 يوليو 2012

ملتقى التواصل العماني المغاربي (سليمان الباروني و حضوره في الثقافة العمانية)

حضور الباروني في الشعر العماني
بين صورة المجاهد و شخصية المصلح
ملخص ورقة ألقيت في :
ملتقى التواصل الحضاري العماني المغاربي الثاني
(سليمان الباروني و حضوره في الثقافة العمانية)
جامعة آل البيت بالمملكة الأردنية الهاشمية
الثلاثاء و الأربعاء  20 -21 شعبان 1433هـ .
الموافق 10 -11 يوليو 2012م

* مقدمة :
إن شخصية بمثل سمات العظمة التي امتلكها الباروني و بمثل جهودها و جهادها  و إنجازاتها جديرة أن تكون جسراً يصل بين شرق الوطن العربي و مغربه ، و هكذا كان ، فإن كل ما يتعلق بشخصية الباروني تؤكد حقيقة أنه جسر ثقافي و إصلاحي كبير ، و يتجلى ذلك في مهامه السياسية و في أعماله الجهادية العسكرية إبان آخر موجات الاستعمار الغربي و بدايات الحركات النضالية للتخلص من الاستعمار في الوطن العربي ، كما  يظهر ذلك في أعماله العلمية و مؤلفاته ، و في إنجازاته الصحفية و في مجال النشر ، و في رسالته الإصلاحية التي حاول يبثها في عمان .
ويكفي للتدليل على جوانب ريادته الواسعة ما تضمنته شخصيته من وجوه و اهتمامات فهو السياسي البرلماني ، و هو السياسي الديبلوماسي ،وهو السياسي الذي ترأس أول جمهورية في التاريخ العربي الحديث حين أنشأ الجمهورية الطرابلسية بمعية زملائه الذين جاهدوا الاستعمار الإيطالي ، إلى حد أن بعض الباحثين الليبيين يرى أن حلم الباروني في تكوين دولة ليبية مستقلة لم يتحقق فعلياً إلا مع الانتخابات التشريعية الأخيرة يومي 7 و 8 يوليو الحالي . و هو إلى جانب ذلك قائد عسكري صادم الاستعمار الإيطالي و أدمى وجهه في معارك ضارية حقق فيها انتصارات كبرى ، و هو أيضاً صحفي أنشأ أكثر من صحيفة في القاهرة و استانبول ، و ناشر حمل هم تحقيق و نشر التراث في وقت مبكر جداً ، و هو مؤلف و مؤرخ ترك مؤلفات اعتبر بعضها مراجع رئيسية في التاريخ ككتابيه "الإزهار الرياضية في أئمة و ملوك الإباضية" و " مختصر تاريخ الإباضية" ، و هو خطيب و كاتب و شاعر سجل وقائع أيامه بالشعر و قدم رؤاه الإصلاحية شعراً و نثرا ، و هو رحالة دون وقائع رحلاته و سجل انطباعاته عنها خاصة تلك الرحلات التي قام بها إلى عمان ، و هو تربوي يرى أن أول أسس النهضة ينبغي أن ترسى في المدارس و دور العلم ، و اجتهد في تطبيق هذه الرؤية عملياً حين شرع في تأسيس المدرسة النظامية الأولى في عمان في ولاية سمائل .
إذن فقد كان الوطن العماني منتصف عشرينيات القرن العشرين على موعد مع رجل استثائي يجمع مواهب و إمكانات و خبرة واسعة و يتحلى في ذات الوقت بالاخلاص و الالتزام بقضية وطنه ،وقضايا الإحياء و النهوض و الإصلاح في العالم الإسلامي ، ولكن القوى الاستعمارية كانت قد تكالبت على نفيه و محاصرته و التضييق عليه ، حتى انفرج باب الحصار حين أزمع الوصول إلى الأراضي المقدسة للحج ، ثم تواترت عليه رسائل القيادات العمانية تطلب منه الزيارة و القدوم إلى عمان .
لقد التفت العاطفة العمانية حول الباروني في شخصه ، و ما يمثله من معنى التجسير ما بين المشرق والمغرب العربي ، وما يحمله من قضية وطنية و نضالية، ولذا فإن دراسة المدونة الشعرية المتمحورة حول الباروني ينطوي على أهمية فارقة، لأن الشعر يمثل مدخلاً مهماً لفهم الشخصية العمانية و فهم التاريخ و الثقافة ؛ ففي عمان تترسخ حقيقة أن الشعر ليس خطاباً أدبياً صرفاً بل هو مدخل معرفي و حضاري كبير ، و شكل رئيسي من أشكال الخطاب المعرفي بله الأدبي، إنه كان على الدوام أداة رئيسية لترسيخ و تكريس المعاني الأساسية المتعلقة بالوطن و بالذات و بالهوية و توثيق خلاصات التجربة ، و لذا فإن قراءة القصائد التي احتفت بالباروني سيكون قراءة لرؤية عمانية شاملة تجاه الباروني و قضيته و مشروعه ، بل إن الباروني نفسه قد أدرك هذا الجانب البعيد الغور في الشخصية العمانية التي تفضل المعرفة و الفكرة في صورتها الشعرية منغمةً موزونةً مقفاة، و لذا أعلن الباروني عن برنامجه الإصلاحي الذي دعا الإمام إلى تبنيه في قصيدة ضمن خطابه أمام الإمام بجامع نزوى يوم الجمعة 7 ربيع الأول 1344هـ /25 سبتمبر 1925م ، حيث قدم فيه رؤيته الناقدة و المحرضة على الإصلاح مضمناً إياها برنامجاً إصلاحيا سياسيا و قضائيا واجتماعيا وعسكريا و تطويرا للعلاقات الخارجية ،ومركزاً على أفكار تتعلق بالوحدة الوطنية والتآلف الوطني بين الإمامة و السلطنة ، و صياغة تآلف سياسي بين ممالك الجزيرة العربية ، و قد ختمها بقوله :
هذي نصيحة مخلص في دينه *ما شابها مدح و لا إطراء
إني امرؤ ترك المديح لأهله * مذ أنشبت أظفارها الهيجاء
و لقد أدركت عمان و رجالاتها ما انطوت عليه شخصية الباروني من استثنائية و عظمة ، و لذا كان استقبالها له حدثاً هائلاً بكل ما في الكلمة من معنى ، إذ مثلت الأدبيات التي رافقت وصوله و جولاته في عمان مثلت ظاهرة أدبية حقيقية في تمحورها على شخصه و جهوده و الترحيب به و دعم مشروعه الإصلاحي، فالخطب و القصائد التي ألقيت في أثناء استقبالاته تبلغ في كمها حداً كبيراً ، كما أنها في نوعها تمثل ــ في عدد غير يسير منها ــ بعض أجمل نصوص الشعر العماني ،و من أكثرها استحضاراً للهم العربي و الإسلامي .
و في كل لحظة من لحظات هذه الظاهرة كان الأدب شعراً و نثراً حاضراً و مرحباً و راسماً لصورة الباروني في الوجدان العماني.
·       القصائد المدروسة :
إن هناك مجموعتان متوفرتان تجمعان القصائد التي قيلت في الباروني :
ـ  الأولى : مجموعة " القصائد العمانية في الرحلة البارونية" و التي دونها الشيخ عيسى بن صالح الطائي (ت1362هـ/1943م)، و هي قيد الطبع بمراجعة و تصحيح الباحث سلطان بن مبارك الشيباني ، و هي تسجيل ليوميات الباروني في رحلته الأولى في عمان و التي وضع الباروني بنفسه بعض الإضافات عليها، و قد أمكن الاطلاع على القسم الأول منها الذي يروي يوميات الرحلة الأولى ، و تشير في نهايتها إلى القسم الثاني ، الذي سيكون من كتابات الباروني نفسه حول رحلته الثانية إلى جهات جعلان و بدية و نزوى والحمراء و الجبل الأخضر و غيرها من الديار العمانية ، و هو ما كشف عنه بعض الباحثين حديثاً و يتم العمل على تحقيقه و نشره.
ــ الثانية : هي مجموعة "غاية السلوان في زيارة الباشا الباروني لعمان" و التي جمعها الدكتور سعيد بن محمد الهاشمي ، و تحتوي على اثنين و خمسين قصيدة أغلبها لشعراء عمانيين و بعضها للباروني نفسه ، و لشعراء غير عمانيين كأبي اليقظان إبراهيم و غيره؛ و قد جمعت هذه القصائد من مصادر عمانية كــ "شقائق النعمان" للخصيبي و "قلائد الجمان" للبوسعيدي ، و بعض الدواوين الشعرية.
إن أقرب طريق لدراسة حضور الباروني في الشعر العماني هو في دراسة هاتين المجموعتين.
و اللافت هنا أن هاتين المجموعتين تحتويات على قصائد لشعراء لا نجد لبعضهم ذكراً في تاريخ الشعر العماني ، إلا ما أنشدوه في الباروني من مثل الشعراء: (عبدالله بن مسلم الرمضاني، سعيد بن سليمان الخروصي ، أحمد بن سعيد ، سيف بن علي الحجري ، حمدان من محسن الجابري ، عبد الله بن خالد ، محمد بن عيسى بن عامر الطائي)؟! و هو ما يدفعنا للتساؤل : هل استنهض الباروني بما يمثله من شخص و مشروع و قضية همة الشعر حتى في النفوس التي لم تكن شاعرة؟! لعل هذا المعنى هو ما أشار أليه القاضي الشاعر منصور بن ناصر الفارسي أثناء زيارة الباروني لفنجا:
تاقت لمنظرك البلاد وأهلها * فكأنهم يرجون منك هلالا
كم صامت بك قد غدا متكلماً * يبدي من الرتل البديع مقالا
و في مستوى آخر نجد أن الباروني يمثل لبعض الشعراء كأبي سلام الكندي ، وعيسى بن صالح الطائي موضوعاً رئيسياً في المدونته الشعرية ، كما يمثل موضوعاً مهماً لشعراء آخرين كأبي الفضل محمد بن عيسى الحارثي ، و محمد بن عبدالله السالمي و غيرهما.
و على وجه الإجمال فإن ثلاثة مسارات رئيسية يتمحور عليها حضور الباروني في الشعر العماني شخصاً و مشروعاً و قيمة :
1-  صورته في السياق الترحيبي.
2-  صورة المجاهد.
3-  صورة المصلح.

·       صورته في السياق الترحيبي:
 تظهر الصور في سياق الترحيب في مقدمات القصائد حيث تبرز بقوة قيم النصرة و الاحتضان و الإعجاب الذي يستحضر القيم النمطية المألوفة في شعر المديح ، و يأتي مطعماً باستحضار المعاني الوطنية ، و معنى الحماية و الدخول في الكنف العماني ، و هو يثني على الباروني في شخصه في المقام الأول ثم على إنجازاته تالياً.
و في هذا السياق لنا أن نتصور هنا أن هذا الرجل العظيم الذي طاردته الدول الاستعمارية الكبرى و ضيقت عليه و منعته من الوصول إلى مستعمارتها العربية، ليعيش سنوات من حياته منفياً مغترباً ، لنا أن نتصور أن بلداً آخر يدعوه إليه مقدماً له حمايته و رعايته ، فإذا ما نزل برحابه تلقاه كل شيء فيه بالترحيب و التهليل لقدومه ، ليتحول وصوله إلى موجة احتفالية كبرى تسري في عمان بسلاطينها و أئمتها و زعمائها و علمائها و مشايخها و قبائلها ، و كل بلدة أو قبيلة تطلب زيارته بل و إقامته كما يقول أبو سلام سليمان بن سعيد الكندي :
و غدا الورى يتهافتون لقربه * فرحا وكل بالتهاني يبدر
حدقوا به فكأنه من بينهم * ملك يتوج و الخلائق تنظر
عرفوه حقا قبل رؤية شخصه * لما رأوه استعظموه و كبروا
لله يوم الوصل أصبحت القرى * كل تطالب بالوصال و تنذر
و في ذات المعنى يقول الشاعر أحمد بن سعيد :
فكم من يد لما رأتك مشيرة *و كم من عيون بالمحبة تنظر
تساءل إجلالا و ترقب هيبة * و تضمر إعظاما و عن ذاك تخبر
و هما نجد أن الشاعر العماني كثيرا ما يخاطب الباروني مفاخراً بوجوده في عمان معتبرا أن وجوده بها حظ عظيم لها ،و قدر ساقه الله إليها كما نجد في أبيات أبي الوليد سعود بن حميد  :
سليمان إن المشرقين تنازعا * رضاك فكنت الآن أعدل حاكم
تزينت الدنيا ابتهاجا بطالع *عمان به فازت على كل عالم
و حق لها أن تنشر الشكر و الثنا * فإن لها فخرا بأعظم قادم
و مع أن الصور الشعرية تستحضر و هي ترسم شخصية الباروني معاني تقليدية من قيم المديح في الشعر العربي إلا أنها أحياناً تفارق مألوفها ، لترسم صوراً لافتة غير مكرورة كما يقول سالم بن سليمان البهلاني:
يا وافداً ملأ القلوب مسرة * كالماء يورق عذبه الأريافا
و منور الأكوان منه بسيرة * زهراء لا تخشى الردى إن طافا
بقدوم موكبك ابتهاج نفوسنا * و غدا الزمان يرنح الأطرافا
و اهتزت الأقطار من فرح و قد * قامت تجر لوفدك الأطرافا
و يقول سعيد بن سليمان الحراصي منبهاً إلى سيرورة أفكار الباروني و جهوده قبل وصوله إلى عمان :
كنا نشم أريج فكرته التي * نشرت على الأكوان مسكا أذفرا
حتى تجلى كالهلال منوراً* أقطارنا فسمت إلى أعلى المذرى
و يقول جمعة بن سليم الحارثي مستحضراً معجماً شعريا تقليدياً لكنه موشي بلمحات إبداعية قائمة على المفارقة اللفظية و المعنوية:
رب السياسة و الرياسة و الحجا * و مجيل أمر الحرب كل مجال
فإذا دجت نوب فنير فكره * يهدى به من حيرة و ضلال
أعدى الحسام ببأسه و بهائه * فدهى بحد و ازدهى بصقال
و تكفلت هماته و هباته * بمصارع الأعداء و الأموال
·       صورة المجاهد :
صورة المجاهد هي الصورة الأكثر شيوعاً في الأدبيات العمانية الشعرية حول الباروني ، و من الطبيعي أن تمتزج بالمركبات المرافقة لها من نحو معاني الشجاعة و التضحية و الفداء و الصبر و المكيدة و حسن تدبير الحروب و القيادة و غيرها من العناصر ، و بالمجمل فهي تصنع صورة البطولة ، التي يبدو أن سيرتها قد سبقته إلى عمان ؛ و يعود شيوع صورة المجاهد هنا إلى توق الشعوب في تلك المرحلة الاستعمارية إلى الأبطال الذين يرفعون الرؤوس في زمن الانكسار و الذين تعلق بهم آمال التحرر ، و قد يبلغ الحماس لدى بعض الشعراء العمانيين لبطولات الباروني أن طلبوا إليه قيادة الجهاد بالعمانيين هذه المرة .
كما يلفت النظر أن الإطارات الصورية هنا لا تنثال مفردة دون سياق يجمعها ، فهي كثيرا ما تستحضر الحرب الطرابلسية و القضية الليبية و الكفاح ضد المستعمر الإيطالي ، مما يدل على متابعة حثيثة من شعراء القطر العماني لما يدور في الساحة العربية و هي تناضل الاستعمار :
يقول أبو الوليد سعود بن حميد :
همام تربيه السياسة مذ نشا * جدير بفك المعضلات العظائم
كمي له الأعداء تشهد أنه * فتى الحرب معروف بضرب الجماجم
فسائل بني الطليان عنه فإنهم * جهينة أخبار بتلك الملاحم
فما زال في تلك الكتائب قائداً * يفلق هامات العدو المهاجم
فلا عجب لما كاده الخصم إنهم * رأوا منه ضربا في الطلا و الغلاصم
إذا عقدوا للدين عقدة باطل * تدرع حتى فكها فعل حازم
و في ذات المعنى يقول أبو سلام الكندي :
فإن قبضت كفاه سيفاً سطا به * و إن قلماً منه الجبابر تفزع
له صدمات في الحروب شهيرة * تؤرخها إيطاليا يوم تصرع
فمن كابن عبدالله جئني بمثله * إذا ازدحم الفرسان و البيض تلمع
أما أبو الفضل محمد بن عيسى الحارثي فإنه يقول :
مشمراً شاهراً للسيف ذو همم * تسنمت ذروة الجوزاء و الحمل
تروي مفاخره أقرانه سنداً * عن صهوة الخيل و الهندي و الأسل
فاسأل هديت بني الطليان ما وجدوا * يوم الكفاح و يوم الروع و الفشل
ينبيك مخبرهم أن الهمام له * قلب يرى غير رعديد و لا كل
تروي الرماح يداه حين يوردها * بيضاً و يصدرها حمراً بلا وجل
خيوله للقنا حلت قلائدها * لكن منها حرام حوزة الكفل

أما حمود بن أحمد الخروصي فإن ذات المعنى يرد في قصيدته مشفوعاً بالحفاوة بقيمة حرية الوطن :
  كأخلاق من في الغرب جرد سيفه * على حجفل الطليان و النقع صائحه
غيور على حرية الوطن الذي * يحرره الإسلام و النصر فاتحه
سليمان أنت الناس و الناس فضلة * كثير و لكن أكثر الخلق طالحه
و كل امرئ بالسمر يكتب فيصلا * و سفر ابن عبدالله يقصر شارحه

أما أبوسلام الكندي فإنه يورد صورة تقليدية للمحارب و جيشه في الشعر العربي ، و لكنه يشفعها بتفجير للمبالغة فيقول:
إن سار بالجيش سار الطير يتبعه * و جاءت الوحش من سهل ومن جبل
كأنما أجل الأعداء في يده * أو سيفه عارف عن مدة الأجل
·       صورة المصلح :
أما صورة المصلح فإنها كثيراً ما ترد في أدبيات الرحلة الثانية ، خاصة بعد أن أفصح الباروني عن رؤيته و منهجه الإصلاحي و قلده الإمام الوزارة ، و سعى في تنظيم الدولة و إدخال بعض الأنظمة الحديثة عليها ، و اجتهد في تطوير نظام المالية و التعليم .
و كثيراً ما نجد صورة المصلح في شعر أبي سلام الكندي الذي كان أحد كبار المناصرين لمشروع الباروني الإصلاحي ، ومن ذلك قوله :
قم سليمان في صلاح العباد * لا تبالي بقول أهل الفساد
إنما أنت عالم كيف أضحت * أمم الغرب تزدري بالعباد
هي بالعجز أم بجهل بنيها * نالت المجد أم سمت بالرقاد
و في  قصيدة أخرى يقول أيضا :
وزير إمام المسلمين لك الهنا * بما نلت من مجد لك العقد و الحل
فدم يا ابن عبدالله في أوج العلا * تحف بناديك الملائك و الرسل

كما يلفت نظرنا في هذا السياق بعد آخر إذ يظهر الباروني مصلحاً يتجسد فيه معنى تجسير العلاقة بين المشرق و المغرب العربي ، و ذلك في القصائد التي كان الباروني محوراً لها أو الفكرة الباعثة لها ، فالباروني (شخصاً و قيمة ) هو المحور الذي دارت عليه القصائد المتبادلة بين شعراء المشرق و المغرب ، و بخاصة قصيدة الفقيه و المصلح الجزائري أبي اليقظان إبراهيم ، و التي تبارى الشعراء العمانيون في معارضتها أو مجاراتها ، و طوفت في الأنحاء العمانية محفزة الشعراء التجاوب مع رسالتها ، و قد انضاف إلى هذه المجاوبات قصائد أخرى كقصيدة الأديب و الشاعر الليبي علي بن محمد الزواري، و قصيدة الشاعر التونسي سليمان الجادوي ، و قصائد الباروني نفسه، و ما أثارته من معارضات و ردود في عمان أو في الشرق الإفريقي  حيث الأقليم الثقافي العماني .