الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

"عمان لغز" !!! .. لو غيرك قالها!!!

جريدة الرؤية، 2 صفر 1435هـ/5 ديسمبر 2-13م

يتداول العمانيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام مقطع فيديو للمحلل السياسي الدكتور عبدالله فهد النفيسي يتحدث فيه عن التطورات السياسية الراهنة، وما وصلت إليه الأمور من اتفاق تاريخي بين الولايات المتحدة وإيران، واصفاً خلالها عمان بأنها "لغز" وأنها كانت المطبخ الذي أعد فيه هذا الاتفاق، ومقدما في تحليله كتلة متناقضات لقراءة تاريخية للعلاقة بين عمان وإيران، ومسوغاً كل ما جرى بخلفية علاقة مذهبية ابتكرها ليجعلها ضمن طرحه الجديد الذي يلح عليه؛ وعلى كل حال فإن المشاهدة تغني عن الوصف فالمقطع متداول ومعه ترتسم علامات الاستفهام والدهشة بل والصدمة على الوجوه العمانية وهي ترى محللا ومفكراً عربياً خليجياً له مقامه يصنف عمان وفق منطق غريب بأنها "لغز" و"ثغرة" محتملة، ولسان حالهم يقول: لو غيرك قالها!!
إن ما قدمه الدكتور النفيسي هو صورة لخلل خطاب المثقفين العرب المأزوم، فالمثقف العربي الذي لم ينجح إلى الآن في قراءة وتحليل الواقع العربي وما أفضى إليه من "ربيع" أو "خريف"، ولا استطاع أن يتنبأ بمآلاته بعد أن فشل في توعية الجماهير كما يجب، صار حظه من رسالته أن يحرض الفرد العربي لكي لا يكون جزءاً من القطيع إلا قطيع الطائفية سياسية كانت أم مذهبية! ولكنه في ذات الوقت يطالب دولاً بأسرها أن تفكر بعقلية القطيع في سياستها الخارجية! إنها لمفارقة!
نعم لو أن متحدثاً من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، أو أحد الأغرار المتقولين أطلق عبارات جزافية لا يدرك أبعادها لما تكلف أحد الرد عليه، ولكان مصيره التجاهل أمام الروح العمانية التي نريدها أن تربأ بنفسها عن القيل والقال، لكن أن يأتي أحد صناع الرأي الذين تثق جماهير من الناس في الخليج بمقولاته ليطلق حزمة تناقضات، لا يسائله عنها أحد ولا يفندها رأي، فإن الأمر لا يجوز أن يبقى بلا رد، لأن الحق لابد أن تذود عنه "يد فراسة وفم" كما يقول المتنبي! أما السياسة العمانية بأطرها الرسمية فقد اعتادت أن لا تولج نفسها في مواضع الجدل الكلامي الإعلامي، وهذا أمر يحترمه العمانيون ويدركون آثاره الخيرة في هذه البيئة العربية التي تستنزف طاقتها في الحروب الكلامية بين بنيها، لكن مسؤولية البيان تقع على  عاتق الكتاب العمانيين، فلا يسعهم الصمت أمام هجمة إعلامية بدأت بوادرها، ونرجو أن لا تستمر حلقاتها، فقد سئمنا عدم رغبة بعض إخواننا في الخليج في فهم منطلقات الخطاب العماني سواء الرسمي منه أو الشعبي، وتفسير عدم التفهم أو الفهم هذا بــ "العزلة" التي تأتي لتمزج الاستنكار بالإعجاب بالنموذج العماني في التعامل مع ضجيج وجعجعة ساحات الكلام العربية، ثم ها هو ينضاف إلى وصف "العزلة" وصف "اللغز" من قبل الدكتور النفيسي، والمدهش أكثر أن يأتي ذلك من محلل يفترض به القدرة على فك شفرات وألغاز السياسة العربية، لكن مثقفينا العرب فقدوا المفاتيح على ما يبدو، وهم يقفون حائرين حتى أمام الأبواب المفتوحةً أصلاً! أو لربما كانوا هم الأبواب الموصدة دون فهم الجماهير للحقائق!
نعم لو أن غير الدكتور النفيسي قالها لما تكلف أحد الرد عليه، ولقلنا إنه حديث من جاهل بالحقائق أو متجاهل لها، لكن الدكتور النفيسي مختص بالشأن السياسي الخليجي ويكاد أن يكون مختصاً بالشأن العماني، ورأى ــ في كتابه الأول ــ كيف بدأ العمانيون في وضع قواعد تنميتهم بموارد كانت "متواضعة" حينها لكنها كرست لخدمة الإنسان من ناحية، ولصد هجمة شيوعية شرسة كانت تستهدف الخليج بأسره كما عبرت عنه عناوينها المعلنة من ناحية أخرى.
إن مقولة الدكتور النفيسي كانت مغموسةً بلغة طائفية أصبحت عالية جداً في تحليلاته الأخيرة، وهي في تحليله للشأن العماني تريد أن تعبر من خلال تأصيل تاريخي مغلوط تماماً متجاهلة أبسط حقائق التاريخ وأسطع شواهد الواقع؛ لقد تجاهل الدكتور النفيسي في تحليله لتاريخ العلاقة مع إيران حقائق التاريخ منذ مالك بن فهم ومعركة سلوت وحتى أحمد بن سعيد ومعارك صحار! تجاهل كيف خاضت عمان حرب المقاومة ضد الغزو الفارسي حتى استشهاد الإمام سلطان بن مرشد اليعربي عام 1156هـ/1743م، وتجاهل كيف خاضت ضد الجيوش الفارسية ذاتها حرب التحرير الباسلة بقيادة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي صمد صموداً أسطوريا في حصار الأشهر التسعة في صحار، وذاد عن الوطن العماني حتى تمكن من المضي في مشروع التحرير وإنهاء الوجود الفارسي في عمان، بل ولاحق هذا الوجود الفارسي في الخليج ليتمكن من فك الحصار الفارسي عن البصرة في عام 1170هـ/1756م بأسطول من مائة سفينة وعشرة آلاف مقاتل؛ إن عمان وهي تتعامل مع الجوار تعي جيدا قدر الجغرافيا ودروس التاريخ، وتقدر لكل مرحلة ما يناسبها، وهذه الحالة من الثبات والاستقرار في السياسات ناتج عن وعي حصيف بتبعات الجغرافيا وبخلاصات التاريخ، فعلام المزايدات بالحرص على أمن الخليج؟!
ذلك حديث التاريخ البعيد فما حديث التاريخ القريب الذي هو أدنى للواقع، ولماذا يتجاهل الدكتور النفيسي وغيره أن عمان في حرب السنوات العشر(1965-1975م) كانت لا تدفع عن نفسها فحسب بل وتدافع عن الخليج بأسره حين كانت عمان ساحة المواجهة أمام المد الشيوعي إلى الخليج، فالشيوعية يومها مباشرة أو عبر وكلائها كانت تدير معركة شعارها "تحرير الخليج العربي المحتل"، ودفعت عمان من دمائها ومن جهودها ما لم يتحمله غيرها، ودفعت من تنميتها خمس سنوات كاملة بعد أن انطلقت نهضتها الحديثة عام 1970م، وحينها كان من دول الخليج من أعان، ومن وقف وقفة المتفرج؛ كيف يتجاهل الدكتور النفيسي ذلك وهو المختص في هذا الشأن والعالم بكل تفاصيله حين ألف أول كتبه "تثمين الصراع في ظفار" في هذه القضية بالذات؟!
هل نسي الدكتور النفيسي أم تناسى أن عمان هي التي تبنت وخططت لفكرة الجيش الخليجي الموحد في أعقاب حرب الخليج وتحرير الكويت 1991م، ليكون للخليج قوته العسكرية الضاربة الرادعة في وجه تهديدات الجوار الإقليمي، وليكون في مأمن من ضغوط قوى الحماية الدولية، أفلا يتذكر الدكتور النفيسي أن الذي أجهض المشروع وقلص الآمال به هو تردد الأشقاء الخليجيين وحساباتهم القطرية وتفضيلهم التحالفات الدولية على القوة المستقلة، أفلو بني هذا الجيش من يومها ألن يكون سياجاً يحمي الخليج بدلاً من تسييج الحدود بالخطاب الطائفي الذي يُحرق الداخل قبل أن يستهدف من الخارج!؟
كل المتابعين لتحليلات الدكتور النفيسي ممن كانوا يحترمون خطابه يهولهم المنزع الطائفي الذي أصبح يسيطر على رؤاه السياسية، لكن ما قاله في حديثه الأخير لم يكن طائفياً فحسب، بل كان مع ذلك إعادة إنتاج وتركيب لتاريخ المذاهب الإسلامية، وقلب لحقائق التاريخ لتمرير السيناريو الوهمي الذي بناه في أن عمان يمكن أن تكون "ثغرة" في الجدار الخليجي! وهو ما جعل مقدم البرنامج ذاته مرتبكا أمام مفاجأة الخلط هذه، ثم صمت كالمشدوه أمام إصرار الدكتور النفيسي على نسخته الخاصة من تاريخ المدارس الإسلامية، لا حاجة هنا للتذكير بالنسخة الأصل السليمة من هذا التاريخ غير المعطوبة بهوى الطائفية، لكن التناقض يوقف المرء على مفارقة مدهشة، فالهوى المذهبي صنف الإباضية ردحاً طويلاً من الزمن ضمن "الخوارج"، إلا أن تسامح هؤلاء الإباضية وعدالتهم وانفتاحهم على إخوانهم المسلمين لم يعد ينسجم مع زعم "الخارجية" هذا، إذن فليتحرك هذا الهوى 180 درجة ليضعهم الآن على النقيض ضمن مدارس "الشيعة"! إن الهوى الطائفي حاد التقلب جدا إلى حد التحول من النقيض إلى النقيض! مع تقديرنا لكل المدارس الإسلامية.
ومثل ذلك أيضا الزج بــ "خصب" لتكون الجسر الذي خرق الحصار على إيران، وسمح بمرور التموين والبضائع من دبي ورأس الخيمة لملايين الإيرانيين على ضفة الخليج الأخرى، فهذه الدعوى هي الأخرى من المدهشات التي تشي بأن الدكتور النفيسي وضع سيناريو خيالياً فنتازياً، وأنه لم يزر المنطقة منذ زمان طويل ليدرك من أين وإلى أين تتردد السفن الإيرانية، وهذا السيناريو الشاطح في خياليته الأجدر من الرد عليه أن يحال لبعض متخصصي السينما ليشرح لنا كيف أن شطحاته فوق احتمال الخيال السينمائي ذاته الذي ينبغي أن يتصل بالواقع ولو بخيوط واهية، لا أن يكون خياله فوق احتمال الوعي البشري.
الوعي الفكري المضروب في بلاد العرب أصبح لا يقبل إلا مسعري الحروب وموقدي الفتن ومحترفي فتاوى القتل الطائفي والذبح على الهوية، وهو لم يعد قادراً على فهم صناع السلام ودعاة التسامح ومحترفي التعايش ومطفئي الحرائق، ولذا فإنه لا يريد أن يفهم نماذج التسامح والتعايش كعمان، كما تنكب فهم نماذج العدالة في تاريخه منذ نهاية الخلافة الراشدة، ولعل عمان أصبحت "لغزا" بسبب ذلك، لأن المفاهيم انقلبت لتصبح نماذج التعايش لغزا تحتاج لـ "مجهر" الدكتور النفيسي، ولذلك أيضاً أصبح تسهيل السلام دوراً "خطيرا" في عرف الدكتور النفيسي، أما نحن فلعل "عزلتنا" المزعومة حصنت وعينا من أن تغتاله الكراهية، وفتحت عقولنا على أن هناك خيارات أخرى للبشرية أجدى وأنفع من معاناة حرب والاستعداد لأخرى، وأن الفضاء مفتوح انفتاح بحر العرب والمحيط من بعده لمد الجسور وصناعة التواصل الحضاري، ونشر رسالة الإسلام والسلام، ذلك الذي أتقنه العمانيون كما أتقنوا الذود عن حياض الخليج.
اللهم بارك لنا في "عزلتنا" المزعومة إن كانت ستجلب لنا ولإخواننا خيراً وستدفع عنهم ضراً، وأبق ألفتنا وتعايشنا الواضح "لغزاً" محصنا منيعا نعرف سر صناعته بتوفيقك، ونعلّم غيرنا لو أحب أن يصنع ألفة وتعايشاً مثله، واطمس "مجاهر" من أراد أن يفحص عماننا إلا ناظراً ينظر بخير.

الأحد، 20 أكتوبر 2013

التعليم،، حتمية التقييم والمراجعة الشاملة

التعليم،، حتمية التقييم والمراجعة الشاملة
محمد بن سعيد الحجري 
مجلة أثير الالكترونية، 6/اكتوبر/2013م


في خطاب جلالة السلطان المعظم حفظه الله في مجلس عمان لعام 2011 نبه جلالته تنبيهاً واضحاً على ضرورة حدوث "تقييم شامل للمسيرة التعليمية" وفي خطاب جلالته في مجلس عمان لعام 2012 تحدث جلالته مؤكداً أن من أولويات المرحلة الحالية والمرحلة القادمة "مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه وتطويرها بما يواكب المتغيرات التي يشهدها الوطن والمتطلبات التي يفرضها التقدم العلمي".


ويدرك الجميع حتماً أننا اليوم أمام مرحلة فاصلة في المسيرة التعليمية تؤكد من جديد حاجتنا الماسة إلى التقييم العميق والمراجعة الشاملة للنظام التعليمي؛ مراجعة تفضي بوضوح إلى سياسات جديدة مناسبة لتحديات المرحلة، فالمراجعات لا تأتي إلا لحاجة ماسة إلى تعديل المسار وغربلة السياسات، لينفى منها ما لا يلائم المرحلة وتحدياتها، ويبقى ما يلائم المرحلة وتطلعاتها، مع استحضارنا أن سرعة المتغيرات الاجتماعية والثقافية داخلياً وخارجياً تملي علينا سرعة المراجعة وتصحيح المسارات وأن لا نهدر الفرص ونضيعها.


نذكّر بهذا ونحن نعايش معضلة تعليمية حقيقية لا مجال لاستخدام مصطلحات مخففة في وصفها فهي لا تغير من الواقع شيئاً، وخير لنا في باب التربية والتعليم بالذات أن نرى الحقائق كما هي ــ لا كما نأمل ــ حتى نستطيع معاً أن نبني فهماً مشتركاً لها، فلا يمكن بناء هذا الفهم المشترك على حين نختلف في توصيفها، وكما أن مجال التعليم لا يحتمل المجاملات والتسويف، فهو أيضاً لا يحتمل التجاذبات وتقاذف المسؤوليات، والأمم التي لا تفرط في أسباب النهوض تدرك تماماً أن لا مجال لصناعة قصة نجاح وطني إلا حين يكون نظام التعليم هو أول فصل من قصة النجاح وأول حجر في زاويتها، وكل من درس تجارب النهوض الآسيوي يدرك ذلك بوضوح لا لبس فيه، بل إن الأمم التي تقع في موقف الريادة والقيادة العلمية تدرك أن أي خلل في قدرتها على المنافسة هو نتيجة مباشرة لخلل التعليم، ففي ثماثنينيات القرن العشرين المنصرم عندما لمست الولايات المتحدة تراجعا في قدرتها على المنافسة في مجال الفضاء اتجهت تلقائياً لمراجعة قطاع التعليم، وأوكلت مهمة المراجعة إلى لجنة رفيعة المستوى من أعضاء الكونجرس لتخرج بتقرير شهير يدعو إلى إصلاح التعليم وكان عنوان ذلك التقرير مليئاً بالنذير وهو "أمة تحت الخطر"، ليعاد بناء النظام التعليمي على هذا القدر من الحذر والشعور بالخطر!


نعم إن قضية التربية والتعليم المثارة اليوم ليست قضية آنية لحظية، وهي لا ترتبط بحدث قد ينبهنا إلى أبعادها ومصيريتها، لكن هذا الحدث لا يؤسسها ابتداء، بل هي حاضرة في نفوس الجميع وهي حديث مجالس العمانيين، ولذا كان تنبيه جلالته إليها مرتين في خطابي مجلس عمان 2011 و2012 دليلاً على اعتبارها قضية وطنية محورية يمتلك الجميع شعوراً بإلحاحها وبضرورة بناء سياسات جديدة وقواعد مختلفة بشأنها، وأنه من غير الممكن إدارتها بنفس أساليب وسياسات مرحلة السنين العشر الماضية التي طبقت فيها نظم متعددة وبرامج متنوعة لم تفض إلى النتائج المرجوة.


ومن الإنصاف أن نقول أن جذور هذه المشكلة ليست وليدة عامين أو ثلاثة، بل تعود لأكثر من عشرة أعوام ماضية عندما بني القرار التربوي وفقاً لنزعة انفرادية وصلت إلى درجة احتكار هذا القرار، بينما الأصل في هذا القرار أن يبنى على صيغ معقولة من الشراكة مع الميدان التربوي ومع المجتمع، يومها كانت مؤسسات المجتمع تبلغ بالقرارات والسياسات فحسب لتستوعبها عن قناعة أو على مضض، فذلك لم يكن بالحسبان! بل إن الميدان التعليمي ذاته كان معزولاً عن بناء هذه السياسات والقرارات، لكن هذا الميدان كان يتحمل في آن واحد عبأين كبيرين: عبئ تفسيرها وتبريرها أمام المجتمع، ومشقة تنفيذها على أرض الواقع بكل ما فيها من تجريب وقفز على حقائق الواقع، ويومها للأسف لاذ كثير من التربويين بصمتهم ــ في أحيان كثيرة ــ واكتفوا بالتذمر الصامت، بينما علت أصوات كثيرة في المجتمع تنبه إلى أن المضي في سياسات التجريب، والتغيير الفجائي والانتقالات القافزة، واستيراد النظم، وضعف إشراك المجتمع سوف يؤدي إلى أزمة وشيكة سواء في التحصيل الدراسي أو في البناء القيمي الأخلاقي، أو على مستوى المناخ التعليمي بأسره والعلاقات بين أطرافه، وقد كان كل ذلك للأسف!، وبرهنت عليه مناسبات عديدة من بينها الاختبارات الدولية في مادتي العلوم والرياضيات لعام 2007 والتي كانت صدمة كبيرة للوسط التربوي بأسره، والتي أكدتها أيضاً نتيجة الاختبارات الدولية في عام 2011/2012م؛ ولعل من الإنصاف هنا أن نقول ما قلناه منذ عامين، وهو أن طبائع الأمور تقتضي أننا سنحتاج للسنوات الخمس القادمة وربما العشر في معالجة عثرات المرحلة الماضية وتقويم السياسات وردم الفجوة بين أطراف العملية التعليمية، وهو ما يعني أن هذه الساحة التي تبنى فيها الثقة على مهل بين هذه الأطراف لا تحتمل أي قدر من الهزات والاضطراب أو التراخي في التواصل بين أطرافها، وأن مسارين لابد أن يمضيا على تواز: تصحيح الأخطاء وبناء الثقة ومعالجة الجسد التربوي في مسار، والتقييم والمراجعة الشاملة في مسار مواز؛ والعناية بالمعلم في المسارين هي أول الواجبات سواء لجهة تأهيله وتدريبه، أو لناحية حقوقه، فهو شريك أساسي فيهما وبدون حماسه وإيمانه سيتعطل المساران.


من الواجب أن نقول أيضاً أن هناك مكاسب تحققت خلال العامين الماضيين، فقد أنشئ مجلس التعليم كهيئة مرجعية عليا على هذا القطاع الكبير، وعين الآلاف من المعلمين ليتراجع العبئ نسبياً عن كاهل المدرس المثقل بالأعباء، ووضعت لائحة نظام سلوكي للطلاب تعيد للمدرسة هيبتها المهدرة وتضع سلطات في أيدي إدارات المدارس بعد أن كانت شبه مجردة منها، وهناك حركة تغيير في بعض المناهج فأصبحنا نصغي لنقاش حول تفاصيها من قبل إخواننا التربويين، وهناك تعزيز لموازنة التدريب سمحت بإطلاق برامج تدريبية كانت مفتقدة، وهناك بعض المعالجات التي أُقرت لمشكلة المدرسين العاملين في المناطق البعيدة عن الحواضر والذين يتحملون عبئاً قد لا يتصوره المستريحون في ولاياتهم، وهناك بداية معالجة لمشكلة النقل المدرسي المزمنة والمعقدة، وهذا كله عمل جيد وجهد كبير له احترامه وتقديره، ولا نتصور أن إخواننا المعلمين يتنكرون له؛ لكنه يثير في المقابل سؤالاً كبيراً يطرح ونحن في غمرة الأزمة، لماذا لم تنجح الوزارة في إقناع الميدان التعليمي بأن حركة التطوير بدأت؟ ولماذا لم تنجح في صنع الشراكات معهم للتعاون في هذا الاتجاه؟ ولماذا تركت الفجوة بين الوزارة والميدان لتتعاظم؟ ولماذا امتلأ المناخ التعليمي بالاحتقان لنصل إلى هذه الحالة التي يعاني منها اليوم كل بيت عماني دون استثناء؟! ولماذا لم تعزز مبادرات التكريم ليصل أثرها بشكل جدي ومؤثر إلى الساحة التعليمية ليتلاشى الاحتقان وتعود الثقة؟ ولماذا لم نتدارك الأمر حتى لا نصل إلى ذروة المشكلة التي يتشبث فيها الأطراف بمواقفهم ونبدأ في الخسارة؟! ومعها نخسر الثقة وتتشنج المواقف.


هناك عنصران واضحان في نظري يبرران كل ذلك: أولهما: أن عملية “التقييم والمراجعة الشاملة” لم تتم أو لم تستكمل، وما لم تحدث هذه العملية الواسعة النطاق التي تفحص كل مفاصل المنظومة التعليمة، وتنتج سياسات جديدة ملائمة للمرحلة، فإن منظومتنا التعليمية ستظل عرضة للأزمات والمطبات الكبرى، وبكل بساطة لأن عدم إتمام “التقييم والمراجعة” يسمح ببقاء أذيال من السياسات القديمة التي صنعت المشكلة أصلاً، وهي التي تأزم المناخ التعليمي اليوم.


وثانيهما: أن الهوة لا تزال موجودة وضعف الثقة ما يزال قائماً تاركاً مساحة واسعة لنشوء الاحتقانات، سواء داخل المؤسسة التربوية بين الهياكل الإدارية والميدان التعليمي، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، وهو ما يفسر اليوم هرولة كثير من العمانيين للتعليم الخاص الذي تتعاظم كلفته، وهو ما يفسر بقاء أسئلة كبرى قائمة إلى اليوم من بينها الفرق الهائل في معدلات التحصيل الدراسي بين الجنسين خاصة في الرياضيات والذي هو أعلى المعدلات عالمياً، وهو ثالث أعلى المعدلات عالمياً في العلوم، وذلك في الاختبارات الدولية 2007، وهو أيضا ما يفسر بقاء تساؤلات المجتمع دون إجابة مقنعة حول قضية التعليم التكاملي مثلاً وما جرى له.


إن القضية المثارة الآن ليست وليدة حدث، لكن الحدث الراهن الذي سمي إضراباً أو انقطاعاً ــ سمه ما شئت ــ هو ظاهرة تعبر عن بقاء مشكلة عميقة لم تتم فيها إجراءات معالجة تنطلق من مبدأ "التقييم والمراجعة الشاملة" أو أننا لم ننجح في إشراك الأطراف جميعها في القيام بمسؤولية المراجعة؛ وهو مؤشر على أننا نفتقد لمنهجية واضحة في إدارة الأزمة أو التنبؤ بها، ومن المؤسف أننا كنا نتوقع من مؤسسة الشورى أن تبادر إلى تدارك الأمر قبل وقوعه، خاصة وأن لجنة التربية والتعليم بالمجلس كانت في الميدان قبيل وقوع المشكلة تزور المدارس وتستمع للمعلمين، وقد لاحظت بوضوح مستوى التذمر والاحتقان وعدم الرضى والفجوة القائمة بين أطراف العملية التعليمية، وقد كان الجميع يعول على أن تحركاً من قبل المجلس قد يصنع انفراجة أو يقترح حلا أو يستبق الأزمة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث للأسف.


وقد تركنا الساحة التربوية بأطرافها لتحسم أمرها خلال الأيام الماضية، ومن الواضح أن المشكلة لا تزال قائمة بدرجة أو أخرى.


والذي نتصوره اليوم أن حلها لا بد أن يأتي بتدخل جهة مرجعية ولتكن "مجلس التعليم" أو "مجلس عمان" أو بجهد مشترك بين المجلسين يؤسس بمبادرته لحل القضية من ناحية، كما يجعلها من ناحية أخرى مناسبة لانطلاق عملية "التقييم والمراجعة الشاملة" التي تضعنا على الطريق لبناء نظام تعليمي محكم ومتناغم وفاعل يكافئ عمان وطناً وتاريخاً وآمالاً وفرصاً.


وبين يدي وثيقتان مهمتان يؤسسان لمبدأ "التقييم والمراجعة الشاملة" هما "تقرير التنمية البشرية، عمان 2012" الصادر عن المجلس الأعلى للتخطيط، و"التعليم في سلطنة عمان، المضي قدماً في تحقيق الجودة" وهو دراسة مشتركة بين وزارة التربية والتعليم والبنك الدولي وقد نشرت في عام 2012م، والوثيقتان كلاهما تتيحان من التوصيف للمشكلات والتحديات، ومن البيانات والمعلومات، وتضعان من التوصيات والمقترحات ما يجعل الشروع في "التقييم والمراجعة الشاملة" متاحاً في أقرب فرصة، لتحل الإشكالات وتمكن الثقة، وتنمو الفرص وتولد الحلول الإبداعية، وتعزز الجودة، وليكون الاستثمار في التعليم وضخ الموارد فيه ضمانة لمستقبل عمان المشرق دائماً بعون الله،،، ولعل لنا وقفة لاحقة مع هاتين الوثيقتين المهمتين .

الثلاثاء، 6 أغسطس 2013

فسحة رشد(حديث زرقاء اليمامة والوعي بالتاريخ)

محمد بن سعيد الحجري 
جريدة عمان 28 رمضان/6 أغسطس.

يروى في قصة زرقاء اليمامة أن هذه المرأة العربية رأت الجيش القادم على مسيرة ثلاثة أيام فأنذرت قومها "جديس" الذين لم يكونوا يرون الخطر الذي تراه، فقد كانت ترى الجيش المموّه وراء الأشجار المتحركة، فسخر القوم منها وما صدقوها، ولا أخذوا بالحزم في أمرهم و"كان عاقبة أمرها خسرا".
إن لكل دهر زرقاءه وقبيلته وعدوه القادم الغامض! وما زال الناس يكرهون حديث زرقاء أزمانهم التي تستشرف الآفاق وترى الخطر المحدق، فالناس يحبون ما يوافق توقعاتهم عادة، ولا يحبون ما يقلق طمأنينتهم ولو كانت تلك الطمأنينة وهماً! 
ومن يقرأ التاريخ جيداً يملك قدرة على الاستبصار كقدرة زرقاء اليمامة على الإبصار، لأن من يقرأه بعمق ويحلل الواقع بدقة يكون على مُرتَفع من الوعي يرى منه ما وراء اللحظة، فليس ثمة حدث يبدأ الآن فحسب، معزولاً عن سياقه التاريخي!

نقول هذا ونحن نرى كيف قلص توالي الكوارث التاريخية حدود الطموح العربي من الدولة القومية إلى الدولة القطرية، لتغدو الدولة القطرية ذاتها في عديد من الحالات أمام مصير غامض اليوم، فقد أصبح الإبقاء على وحدة بعض الأقطار العربية محل شك كبير، بعد أن أرهقتها الدكتاتوريات المتسلطة وفشلها في التنمية، وتعاظمت خيبات آمال الشعوب إزاءها، وبعد أن انتهكت ساحتها تدخلات الخارج التي وجدت مساحاتها الرحبة في هذه الفجوات الواسعة بين الأنظمة والشعوب، وبخلل المناعة السياسي والفكري الذي غير بالطائفية المذهبية والعرقية خارطة الأعداء والأصدقاء في ذهن الإنسان العربي المعاصر، وحطم إرادة الاستقلال لترحب بالتدخل الخارجي، حتى رأينا بعض الثوار العرب على أبواب الدول الكبرى يستجدون الدعم والتدخل الخارجي، في مشهد يعيد إلى الذاكرة العربية الواهنة أحداث بداية القرن العشرين، وكأنها تعد لتقبل "سايكس بيكو" جديد يعيد "تقسيم المقسم وتفتيت المفتت وتشتيت المشتت".
إن هناك استهدافا واضحا للدولة المركزية القطرية، التي يراد لها أن تتحول لدويلات أو لحالة الفراغ والدولة الفاشلة، وأي عين فاحصة لا يجوز لها أن تتخطى هذه الحقيقة، وسؤال: "من هو المسؤول؟" يغدو بلا جدوى في هذا الخضم الهادر، فلا أحد يتصور عمق الخنادق واتساع الصدوع عندما يتعلق الأمر بالشعوب والأمم التي تعبأ بالنعرات الطائفية والانحيازات الحزبية والأحقاد، ولا أحد يستطيع أن يدرك الجهد الهائل، ولا المدى الزمني الطويل الذي تتطلبه إعادة البناء والوحدة!
أمام هذا الوضع العربي العام الذي نشهد تداعياته، ونحن نتحدث عن القراءة العميقة للتاريخ، ربما يكون الأجدر بنا أن نمثل لحالة الوعي بالتاريخ التي نقصدها بتاريخنا العماني الذي قرأناه جيداً، وفهمنا خلاصاته ودروسه أكثر من غيره، خاصة وأن الكثيرين يرون في عمان استثناء من حالة التوتر، ومثالاً يشاد به ويشار إلى قيمه؛ وأتصور أن حالتنا العمانية الراهنة ناتجة عن وعي بهذا التاريخ في جزء كبير منها، أو هكذا ينبغي أن تكون، وحصانتنا العمانية تزداد متانة كلما ازداد وعينا بهذا التاريخ، ولا بد أن تستمر أجيالنا العمانية والعربية في التعلم منه، فعمان مدرسة للتاريخ في صعودها وحتى في تراجعها الحضاري. 
ففي التاريخ العماني مثلا كانت لحظة من الخلاف السياسي في أواخر القرن الثالث الهجري (في نهاية عصر الإمام الصلت بن مالك) حدثاً فارقاً جر إلى تبعات هائلة، فالخلاف السياسي تطور لاحقاً إلى خلاف فكري عميق أنتج ما عرف بالمدرستين "النزوانية" و"الرستاقية"، ثم أدى إلى نشوء حزبية ضيقة أسلمت البلاد إلى شقاق وتشرذم، لتدخل بعدها طوراً طويلا من فشل للدولة ونشوء دويلات المدن استمر أكثر من خمسة قرون، ختمت بجثوم الاستعمار البرتغالي على مدن الساحل العماني طوال القرن العاشر الهجري(السادي عشر الميلادي)، لتبدأ بعدها مرحلة توحيد ونضال شاقة ومضنية في القرن الحادي عشر الهجري. كان ذلك درساً تاريخياً كبيراً ومريراً.

إن من شأن قراءة التاريخ بعمق أن يضاعف مناعة الشعوب، ويؤمّن وعيها في المنعطفات المصيرية الحاسمة من أخطار الانقسام والتشرذم والتسلط، وأن يمتّن إيمانها بالوحدة الوطنية، وأن يعطيها القدرة على إبصار الحد الفاصل بين الوطن الباقي والممارسات الطارئة، وأن يزودها بقدرة على قراءة خيارات المستقبل ودروبه، وهذه المعاني على اتساعها ومثاليتها، تجد عند الشعوب والأمم الحية آليات التحقق تلقائيا، عندما تتوفر لها قيادات سياسية مدركة لحركة التاريخ ورحلة تشكل المجتمع وضرورات اللحظة، وهذا هو دور القيادات التاريخية التي تستوعب روح أمتها وآمالها، لتصنع المسالك والدروب وتجترح آليات العمل، وإلا أين يكون المميز بين القيادات التي شكلت الفرق في التاريخ الإنساني فأنقذت شعوبها، وبين القيادات التي ورطت أممها ودفعتها من لحظة حرجة إلى ما هو أشد حرجاً!

الثلاثاء، 30 يوليو 2013

فسحة رشد (الوعي بالتاريخ وحلقاته المفرغة)

جريدة عمان، 21 رمضان/ 30 يوليو.
  
   الوعي بالتاريخ رشد، والسكون فيه تخلف ورجعية، وبين الأمرين فرق هائل يساوي الفرق بين التقدم والتراجع، وبين الصعود والهبوط؛ والسؤال الذي يقذف بنفسه دائماً: لماذا يعيد التاريخ نفسه؟! ولماذا تعيش بعض الشعوب العربية والإسلامية دورته العدمية وحلقته المفرغة؟

والسبب واضح: لأن إلهاماته وعبره القريبة والبعيدة مجهولة أو متجاهلة، والجهل والتجهيل بالتاريخ خطر محدق بوعي الأمم والشعوب، لأن الوعي به هو الذي يمكن من تقييم اللحظة الراهنة ووضعها في سياق الأحداث، وهو الذي يزودنا بالقدرة على فهم كيان الوطن، فمن يقرأ التاريخ جيدا يعرف عناء الرحلة الطويلة لتشكل الأوطان، وحجم التضحيات التي أوصلت الأوطان إلى كينونتها التي نعرفها، ويكون أكثر من سواه حرصاً على وطنه وخوفاً عليه، ومنشغلاً أبداً بهاجس تقدمه لأنه يعرف جيداً أين ومتى تبدأ حالة التراجع، ومن يقرأ التاريخ يدرك بوضوح أن الحاضر فصل من فصول الحياة، وليس نهايةً للتاريخ، وأن الأعلام والشخصيات التاريخية تروس محركة له، قد تدور إلى الأمام أو تدور إلى الوراء!
وبدون هذا الوعي الذي يشمل صفحات التاريخ البيضاء والسوداء على السواء لن يكون هناك إلهام ولن تكون هناك عبرة، فصفحات المجد التاريخية النيرة هي التي تصنع الإلهام وتوثق الانتماء وترفع روح الفخر الوطني، وصفحات الضعف التاريخية الكابية هي التي تزود بالعبرة وتطلق إشارات التحذير من تكرار مشاهد العمى التاريخي، ومن يقرأ التاريخ جيداً يكون أكثر قدرة على إدراك اللحظة المُعاشة وتصور مآلات الأحداث والتنبؤ بالعواقب.
ينظر الغالبية العظمى من الألمان مثلا لمرحلة الحكم النازي على أنها مرحلة مظلمة من تاريخهم الحديث، وأي إشارة لاستعادتها أو للفخر بها مجرمة قانوناً، بينما يرى فيها العديدون من غير الألمان لحظة قوة وتألق وسطوة! والألمان بقدر ما ينظرون لتلك المرحلة باشمئزاز وأسى فإنه ليس بوسعهم إنكارها لأنها جزء من وعيهم بحاضرهم، ولأنهم يرون فيها سببا لهلاك أكثر من 50 مليون إنسان، ومن وراء ذلك مسؤولية أخلاقية وتاريخية، ويرونها سببا لدمار وطنهم وتقسيمه وجعله تحت الوصاية الشرقية والغربية لأكثر من 40 عاما، ولأن هناك رغبة حاسمة في أن لا يتكرر المشهد من جديد، وكل ذلك لا يدفع للتجهيل بالتاريخ أو إنكاره، ولكنه يدفع للبناء عليه وعدم تكرار أخطائه.
ولدينا في عالمنا العربي والإسلامي حالة مزمنة من التلاعب بالتاريخ ــ هذا إذا كانت هناك عودة إليه أصلا ــ ونزع لصفحاته السوداء أو تجهيل الأجيال بها، وهو أمر خطير على الوعي، إذ هو هدر لخلاصات التاريخ، يسلم وعي أجيال الشباب لهذه اللحظة الملتبسة فحسب، بكل ما فيها من سخط ورفض للواقع المتأزم، ومن آمال كبرى بغد أفضل، ومن تطلعات وتوقعات، ومن غبش وادعاءات وتهم متطايرة، ومن تعقد وتداخل، ومن استقطابات واصطفافات، يراد لها كذلك أن تكون لحظة عمى تاريخي! أفضت وتفضي إلى تجاهل النذر التي يقذف بها حتى التاريخ القريب بل والقريب جدا!

نقول هذا والمرء يرى السير الحثيث لتكرار مشاهد الاصطفاف والتجاذبات التي تمزق الأوطان وتقسم المجتمعات وتغيب لغة الرشد، وتدخل بالمجتمعات في أكثر من بلد عربي "لحظات من العمى الثقافي الخطرة التي لها الويلات من بعدها" كما يصفها عبدالله الغذامي في إحدى تغريداته، ففي الحالة المصرية مثلاً ـ وهي هم الجميع ــ ظلال من مشاهد التاريخ البعيد والقريب، ففيها ظلال تطل من تجربة الجزائر وسنواتها العشر الدامية، وملامح كئيبة من الأزمة السورية الطاحنة، ولا أمل في لغة التعبئة الجماهيرية ولا في التطاحن الإعلامي، بل الأمل يبقى في مبادرات الرشد التي تدرك الخطر المحدق بالأمة بأسرها وتسعى لإيجاد المخارج على الأرض، وهي الأجدر من غيرها بالتصديق والانحياز.
وحديث التاريخ لنا عودة إليه، فإعادة الوعي العميق به داع ضروري من دواعي الرشد الذي نجهد في البحث عنه في هذه المرحلة المعقدة.

"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" (يوسف،111)

الأربعاء، 24 يوليو 2013

فسحة رشد (الرشد في خضم الفوضى)

جريدة عمان 15 رمضان/24 يوليو
 
   قبل أكثر من أربعين عاماً رأى مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" أن أزمة الأمة العربية الإسلامية هي أزمة أفكار، ويومها كانت الخيارات أكثر وضوحا، وسوق الأفكار تطرح بدائل محدودة لإدارة الدول الوطنية الناشئة بعد مرحلة الاستعمار، لا تتجاوز بها خيارات الاشتراكية أو الرأسمالية، أو أن تظل دولاً تقليدية تحكمها ملكيات تقوم على اقتصاد ريعي، تدار بطريقة قريبة من حكم عشيرة تضرب أطناب خيامها في بعض أطراف الصحراﺀ.
خيارات متصارعة نعم، وبنزعات داخلية وتدخلات خارجية، ولكنها واضحة وبسيطة، وبوسع أي نظام أو حزب أو تيار أو فرد أن يتبناها; بيد أن ما نجده في راهن أمتنا العربية الإسلامية اليوم أكثر تعقيدا بكثير! إنه فوضى الأفكار والرؤى والتصورات، التي لا تتبين فيها الحدود الفاصلة بين ثنائيات كثيرة! لا بين الماضي والحاضر، ولا الراهن والمستقبل، ولا بين الداخل والخارج، ولا بين المحلي والدولي، ولا بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، ولا بين الحقائق والأوهام، ولا بين الأعداء والحلفاء، ولكل هذه الفوضى أسباب كثيرة لا يتسع المجال لتحليلها.
وفي الأثناء رأينا ابتعاد الكثيرين من أولي الرأي من مفكري الأمة عن مقاربتها وتحليلها في شبه استسلام أمام هذا المشهد المعقد، وزاد من هذا النكوص أن صخب الجماهير انضاف إلى استتباع الأنظمة في ضغطه على الرأي، وفي الحالتين هناك تضييق على استقلاله وسلامة تحليله، كما أن أدوات التحليل التي أنضجتها تجارب سابقة قد لا تعمل في جو مختلف تماما وغير واضح المعالم وملتبس كهذا! 
و إذا كان "الرائد لا يكذب أهله" كما تقول الحكمة العربية، فإن من كان صادقاً مع أمته لن يجازف بقول تحاصر الشكوك نتائجه! ومن أراد أن يصدق أمته ولا يكذبها فلن يكتفي بهدم ما هو كائن ليسلمها إلى المجهول، بل سيقدم بما أوتي من بصيرة وقدرة على التحليل كل حسابات الاحتمالات ومخاطرها الماثلة والمتوقعة، وكل الفرص الممكنة والكامنة، وبدون ذلك، بدون هذا المستوى من الصدق ومن الدقة، لن يكون جزءاً من التنوير بل يكون مصدراً للعتمة، وبدونه يكون قد اشترى تهليل الأطراف هنا أو هناك بخداع أمته وتضليلها!
نعم هناك من آثروا أن يتحولوا من التحليل والتبصير إلى التنظير والتبشير بفكرة جاهزة، وكانوا أصداءً لهتاف الجماهير أو أبواقا للأنظمة، وعندها أصبح خطاب المثقف جزﺀا أصيلاً من المشكلة، وسبباً لمزيد من الفوضى، وتحولت مهمة الفكر من صياغة الرشد إلى صناعة التضليل.
كان يمكن لحالة الفوضى هذه أن تكون ظاهرة طارئة لو كان الزمان غير الزمان، ولكن أدوات العصر التقني تحيلها إلى حالة عامة ومتجذرة، إنها تحولها أكثر فأكثر إلى أصل دائم لو لم ننتبه! فسهولة النشر كما سمحت بزيادة وعي الجماهير، فإنها شيطنت أدوات برمجتها وتوجيهها وخداعها! وعصرنا هو عصر تقنية الاتصالات وشيوع المعلومة، وكل تقدم أو تخلف سيرتبط بها فهي أداة العصر الأولى بلا منازع، وإذا لم يتغير شيئ في النفوس التي توظفها فليس ثمة ضمانة واحدة أنها ستحرك المجتمعات إلى الأمام، وليس ثمة ضمانة واحدة أنها لن تكون أداة تخلف وتراجع، خاصة حين تمادت في تجريد متلقيها أكثر فأكثر من قدرته على الفرز والنقد والتمحيص، لتحيله فردا متلقيا للمعلومة ولأثرها بتسليم يزيد على تسليمه بالقدر! إن من اللافت مثلاً أن التقنية أكسبت البعض جرأة على معارضة مدلول مسلم به لآية قرآنية، لكنها لم تعزز أي حس نقدي أو حذراً في التعاطي مع إشاعة أو خبر غامض أو تهمة يتقاذفها الخصوم!
نقول هذا ونحن نتابع توظيف هذه التقنية منذ بدايتها الأولى قبل خمس عشرة سنة، حين التفتت الأذهان فورا إلى المذهبية الطائفية لتكون المحتوى الأكثر انتشاراً وتوسعاً وجاذبية، فانكشفت بذلك ــ أكثر مما هي منكشفة أصلاً ــ تلك القابلية في المجتمعات العربية والإسلامية لكل أنواع التشظي والتفتيت، وبان للكثيرين اللحام الفج بين المكونات، وبان معه كل فرص العبث بالتناقضات!
إن استخدامنا لمفردة الفوضى يعيد إلى الأذهان المفردة التي اقترنت بها في أدبيات الإعلام خلال الخمس سنوات الماضية وهي مفردة "الخلاقة" فكانت "الفوضى الخلاقة" مادة للجدل تطل حيناً وتختفي حيناً منذ ظهر هذا التعبير المليئ بالمفارقة! والكل كان يترقب متى يحين أوان إطلاقها وتحققها! وليس ثمة شك أننا الآن نعيش ذروتها المنظورة إن لم تكن بداياتها؛ والفوضى لا تَخلُق ولا تَصنع شيئا سوى العدم والفراغ والدمار، ولا تكون خلاقة إلا لمن يصنعها أو يترقب حدوثها في خصمه، حينها فقط يمكن أن تكون خلاقة!
لا نجد مفردة في المقابل تجدي في مواجهة جنون الفوضى إلا "الرشد" بكل ما تحمله هذه المفردة من مفاهيم الإيمان والتأمل ووضوح الغاية، والوعي والتوازن، وتقدير المصالح وتحري الأصلح بين البدائل والخيارات، والشراكة في الرأي، وتغليب الصالح العام، والانحياز إلى خير المجتمع؛ بكل هذه الحمولات الخيرة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس.
حتما يدرك الجميع أنها ليست لعبة كلمات، أو صراع مفردات؛ ولكنه تنافس مسارات ومفاهيم تريد أن تستحوذ على القلوب والعقول، ومن ورائها صناعة حاضر ومستقبل أمم وشعوب.
وهذا العمود محاولة للانتصار لمسار الرشد، ومساحة للتبشير به والدعوة إليه في التعاطي مع قضايا شأننا الوطني، أو في فهمنا لقضايا أمتنا.
والقرآن الذي "يهدي إلى الرشد" وتقترب منه الأرواح في هذه الأيام، جوهر دعوته في أن نتبين "الرشد من الغي" عسانا نكون جميعا من الذين "تحروا رشداً" فنتبع "سبيل الرشد" لا "سبيل الغي"، ويهيﺀ لنا ربنا أفراداً ومجتمعات "من أمرنا رشداً".

الثلاثاء، 14 مايو 2013

محمود الداود ،، رجل من جيل الشموخ العربي ،، نشر بجريدة عمان يوم الثلاثاء 14 مايو 2013م

   عرفت البروفسور محمود علي الداود قبل عدة سنوات  في عام 2010م يوم أن قدم إلى عمان التي يحبها ضيفاً على المركز ليلقي محاضرة حول "النفوذ البحري العماني في زمن السيد سعيد بن سلطان" وعرفنا يومها أننا أمام أكاديمي وسياسي ودبلوماسي عراقي مخضرم، يصل تاريخه الأكاديمي والسياسي بالدبلوماسية الثقافية التي يراها جسر التواصل الأهم في هذه المرحلة.
هذا الرجل الوقور القادم من الموصل، والثمانيني الذي ينوف عمره عن 86 عاماً، لا يزال في وفرة عطائه و روحه الدمثة وتواضعه الآسر ونشاطه الدؤوب يخجل من يزعمون أنهم في ميعة الصبا و زهو الشباب وربيع العطاء! حصل على شهادة الدكتوراه عام 1957م من جامعة لندن، وهو أيضاً خريج جامعتي هارفار وجون هوبكنز الأمريكيتين المرموقتين، كان ولا يزال متابعاً لتاريخ الخليج ومهتماً على وجه الخصوص بتاريخ عمان المليئ بقصص النهوض الحضاري والانتصارات والأحداث وبالأزمات والمفاجآت، وتابع شأن عمان منذ بزوغ نهضتها عام 1970م، وهو لا يفتأ يحدثك عن إعجابه ودهشته لما استطاعت تحقيقه من تغيير وجه البلاد ونقلها إلى بلد متحضر وحديث.
لقد عني الدكتور الداود بتاريخ عمان والخليج دارساً أحياناً ومتابعاً أحياناً وشاهداً عليه في أحيان أخرى، وفي بعض المراحل كان مساهماً في صياغة الأحداث والأفكار حين كان قريباً من مراكز صناعة القرار في العراق وفي الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم يوم كان التجاذب على أشده بين العرب وبقايا السيطرة الاستعمارية، وحين كانت الجامعة العربية بأمينها العام "حسونة باشا" والدول المستقلة حديثاً فيها تصوغ أفكاراً لما يشبه "مشروع مارشال" عربي لتنمية منطقة الخليج كان الدكتور الداود هو أول من اقترحه وتبنى التفكير فيه، أيام كانت القومية العربية في أوج انتشائها وعنفوانها.
هذا الدبلوماسي المخضرم لا يزال كما كان سفيراً للعراق وثقافته وحضارته وآدابه وأعلامه، يواصل نشاطه ضمن مؤسسة "بيت الحكمة" التي يرأس قسم الدراسات السياسية فيها، يطوف العالم حاملاً معه ثقافة العراق وحضارته، متنقلاً بين قاراته ودوله وعواصمه عبر الأسابيع الثقافية والأيام العراقية وما تحتويه من مناشط وندوات ومعارض، وهو يرى أن الدبلوماسية الثقافية هي التي ستصل الجسور المقطوعة خاصة في منطقتنا هذه، مدللاً على هذه الأهمية بأن دولاً كبرى أصبحت تدرك ذلك كاليابان مثلاً حين اشترت جميع ما احتوته مكتبة شركة الهند الشرقية البريطانية التي أنشئت عام 1600م بكل ما فيها من كنوز وأسرار تاريخية تتصل بتاريخ دول المحيط الهندي والخليج.
قدم الدكتور الداود إلى السلطنة عام 2010م ونحن نعايش إعصار فيت، وقدم الأسبوع قبل الماضي ونحن نعايش أمطار الخير التي توالت على عمان، قلت له: ما أتيتنا زائراً إلا والمطر رفيقك يا دكتور! جاء الدكتور محمود الداود يحمل معه حبه الذي لا يخبو لعمان منذ خمسين عاماً، وبمعيته وفد من مؤسسة ثقافية عراقية كبرى تحمل في اسمها مجد التاريخ وعظمة المهمة "بيت الحكمة" ببغداد، ويحدثنا الدكتور الداود عن هذه المؤسسة الكبيرة أنها ورغم ظروف العراق القاسية أخرجت خلال العشر سنوات الماضية 400 كتاب، وتصدر 8 مجلات متخصصة محكمة، ومجلة ثقافية واحدة، وملحقاً صحفياً، ليؤكد العراق أنه ــ رغم كل شيء ــ لن يكف عن التنوير والتفكير!
ومن أجل المشاركة في "مؤتمر رأس المال الفكري العربي" الذي نظمته وزارة الخدمة المدنية جاء الدكتور الداود مترئساً وفداً من هذه المؤسسة العريقة من ثمانية من العلماء والخبراء والمسؤولين يمثلون أركان هذه المؤسسة بطيف جهدها وإنتاجها المتنوع بين الدراسات السياسية والتاريخية والترجمة والفلسفة والدراسات الاجتماعية، وإيماناً بأهمية الديبلوماسية الثقافية كان اهتمام الدكتور الداود ووفده كبيراً باللقاء مع قيادات المؤسسات الثقافية في السلطنة لبحث عقد الشراكات وصياغة المشاريع المشتركة ومد جسور التعاون مع عمان وثقافتها.
في لقاء رائع مع الدكتور الداود ــ وكل لقاءاته رائعة ــ وبصحبة الصديق الشاعر والإعلامي عبدالرزاق الربيعي تدفق محمود علي الداود بالذكريات عن أيام العمل العربي المشترك في ربيعها الزاهر في الخمسينات والستينات، حين كانت أقطار عربية قد تحررت وأقطار أخرى تحاول التحرر من الاستعمار، مستذكراً هنا كيف كان اهتمام العراق كبيراً بمصير الشعوب العربية وهي تواجه الاستعمار، وكيف أن العراق بميزانية بسيطة لا تزيد عن 60 مليون دينار يخصص منها نسبة غير قليلة للثورة الجزائرية، لكن الذي أدهشنا أيضاً في حديثه هو الراهن والمستقبل، وروح العزيمة والتفاؤل التي تدفق بها حول مستقبل العراق رغم كل ما يجري من تجاذبات، ورغم كل الحرائق التي تشتعل في الجوار.
إن حاجة أمتنا العربية الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة كبيرة إلى أمثال الدكتور محمود الداود بكل ما لهم من رصيد التجربة الأكاديمية والدبلوماسية والسياسية، فهو وأمثاله من هذا الجيل حكماء عرب تحتاج أمتنا لرأيهم ورؤيتهم وخلاصة تجربتهم وتفاؤلهم وولائهم لقضايا أمتهم ... لو قدّر العرب حكماؤهم!!
لقد كتب الأخ الشاعر الأستاذ عبد الرزاق الربيعي في صفحته عن الدكتور الداود، وأجرى الصديق الصحفي الأستاذ عاصم الشيدي مقابلة مستفيضة معه، وهذا الذي أكتب بعض شكر نقدمه للأستاذ الكبير على نبيل مشاعره التي يحملها لعمان وثقافتها وتاريخها، وبعض شكر على ما أثرانا به من تاريخ ومعرفة وخلاصة تجربة وتفاؤل يوقد به الشموع حين يطفئها الكثيرون، ويمد به الجسور حين يقطعها العديدون.

الخميس، 18 أبريل 2013

اللقاء الحواري حول آليات التواصل بين علماء المسلمين

ضمن فعاليات ندوة: العلماء العمانيون والأزهريون والقواسم المشتركة المنعقدة بجامعة السلطان قابوس، انتظم اللقاء الحواري مساء الأحد 3 جمادى الآخرة 1434هـ الموافق له 14 إبريل 2013م، لمناقشة آليات التواصل بين علماء المسلمين والذي شارك فيه عدد من أصحاب الفضيلة العلماء ضيوف الندوة من مصر ودول الخليج العربي وحضره عدد من المشاركين والمتابعين والطلاب، وقد أدار الحوار المكرم الشيخ زاهر بن عبدالله العبري عضو مجلس الدولة، ولخص مداولاته محمد بن سعيد الحجري.
وقد أتى الحوار على عدد من القضايا المهمة المتعلقة بالتواصل بين علماء المسلمين، واضعاً جملة من القواعد الأساسية التي يجب أن يتحلى بها جهد التواصل، ومحذراً من عدد من الظواهر التي لابد أن يتخلى ويبتعد عنها ذلك الجهد لضمان وصوله إلى مبتغاه المنشود خدمة لتعاون الأمة الإسلامية وتعاضدها، وقياماً بمسؤولية العلماء تجاهها.
وقد تحدث فيه فضيلة الشيخ الدكتور يوسف القرضاوي مركزاً على إحياء معنى الأخوة الإسلامية والبناء عليه في التواصل، وعلى أهمية إشاعة المعنى الايجابي للجدال والحوار، عبر الجدال بالتي هي أحسن مع غير المسلمين والدعوة بالحكمة والموعظة بالتي هي أحسن بين المسلمين. كما شدد فضيلة الشيخ القرضاوي بقوة على أهمية اتصال الجهود في التواصل بين علماء الأمة، ومثابرة هذا الجهد واستدامته وعدم انقطاعه، وعلى التفاؤل في مواجهة مشكلات الأمة، مبيناً أن التواصل بين العلماء يأتي من أجل اتصال الأمة الإسلامية، ودعا إلى الإبقاء على مبدأ التواصل والحذر من التقاطع، وعلى البحث عن إطار عملي للتواصل والحوار.



كما تحدث سماحة الشيخ علي السيد الهاشمي مستشار رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة للشؤون القضائية والدينية، فشدد على الاهتمام بمعنى آداب الخلاف العلمي بين أهل العلم، كما نبه إلى الأخذ من المناهج الغربية التي تحتفي بالعلماء وتحيطهم بالإجلال والتقدير ودراسة جهودهم العلمية، كما دعا إلى التناصح بالخير بين علماء المسلمين والانتباه الى ما قد يشيعه البعض من نشر الأحاديث التي قد تسبب البغضاء.
 
وقد أشار المكرم الشيخ زاهر العبري إلى أهمية الحذر من اتباع الهوى، كما دعا الى إعادة تحرير معنى التسامح ليتواءم مع معايير الإسلام في المنهج والدعوة.

أما فضيلة الشيخ الدكتور شوقي علام مفتي الديار المصرية فقد ركز على أهمية استدعاء نموذج الحوار العلمي من تراث الأمة عبر المراسلات العلمية التي تمحص الحقائق وترسخ تقاليد الحوار العلمي وآدابه.
كما دعا إلى تمكين طالب العلم لكي يتواصل مع العلماء مقترحاً إعادة إحياء الأوقاف العلمية كأداة لدعم هذا التواصل، مبيناً أهمية عودة هذه المبادرات الى عالمنا الاسلامي، كما نبه الى أهمية تكثيف المؤتمرات العلمية والمحافل البحثية، وتوظيف وسائل التواصل التقني في صناعة هذا التواصل.
كما حذر من امتطاء العلم من قبل غير أهله، من أجل تحصين هذا التواصل ليكون بين أهل العلم الحقيقين والعلماء المعتبرين .
أما فضيلة الشيخ الدكتور عائض القرني فقد أوضح أن مهمة العلماء هي بيان الحق والرحمة بالخلق، وحذر من التمترس المذهبي، والزعم الدائم بامتلاك الحقيقة واستحقاق النجاة الأخروية واحتكارها، كما حذر من نزعات التبديع والتكفير، مذكراً بأن العلماء هم قواد السفينة. داعياً إلى أن يكون لعلماء الأمة جميعا خطاب عالمي واحد ينبني على الأصول الكبرى، مستشعراً سياق العداء للإسلام، وفي ذات الوقت حاجة العالم إلى قيم الاسلام وسماحته ورحمته.
فضيلة الشيخ الدكتور عبداللطيف آل محمود من مملكة البحرين الشقيقة دعا إلى المنهج الرباني القائم على أخلاق وآداب الحوار، وعلى استصحاب نسبية الصواب والخطأ، وإلى تجاوز حديقة المذهب إلى ما في حدائق الآخرين في مذاهبهم، مذكراً بالأدب القرآني في عدم استفزاز الآخر في الحوار،والالتفات كذلك الى مرحلية المعرفة في عمر العالِم الواحد الذي قد تتفاوت آراؤه بمضي الزمان.
الشيخ الدكتور عبدالله بن سعيد المعمري يرى أن الانطلاق في مناقشة القضية لابد أن يكون من الاعتراف بضعف هذا التواصل وأنه دون الطموح، مبيناً أن المسؤولية مشتركة في ضعف هذا التواصل، وأنها مسؤولية تتعلق بجميع شرائح المسلمين، ولا تقتصر على العلماء وحدهم .
كما نبه إلى أهمية التدريس عبر منهج الدراسات العلمية المقارنة في الوصول للحقائق العلمية. ودعا إلى مأسسة التواصل و الحوار بين علماء الأمة ليتضمن آليات للمتابعة تكفل استدامة هذا التواصل ووصوله إلى أهدافه المنشودة. داعياً كذلك إلى الإخلاص لله وتصفيه النفوس واستقامتها في جهد العلم، وجهد جمع الأمة وتقريبها، و إلى الجرأة في بحث المسائل العلمية مع مراعاة المصالح، والبناء على الشورى بين العلماء في بحث القضايا، وإتاحة المجال للشباب والتواصل معهم، وإلى التكوين العلمي للطلبة على قيم التواصل.

الأربعاء، 27 مارس 2013

الاستثناء العماني، عمان وثنائية العدل والرفق

الاستثناء العماني
عمان وثنائية العدل والرفق

نشر مختصراً في جريدة القدس العربي، 26 مارس 2013م


http://www.alquds.co.uk/index.asp?fname=data\2013\03\03-26\26j468.htm

"أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"
     في رسالة عظيمة مليئة بالقيم السياسية يتحدث الإمام علي كرم الله وجهه إلى واليه على مصر مالك الأشتر محدداً له قواعد سياسة الولاية ومنهج المسؤولية العامة فيقول:"وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم، فإنّهم صنفان: إمّا أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه، فإنّك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك، وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم"
والناظر لهذه القيم السامية التي تبثها هذه الرسالة و إلى حال أمتنا لن يحتاج لكبير جهد ليعلم أن ما تعيشه من تخبط في القسوة والعنف آت من غياب قواعد الرشد هذه التي ينبه عليها الإمام علي، ومن آثار الهدر المشين لهذه القاعدة القائمة على الرفق والحكمة وبناء جسور المحبة بين الحاكم والمحكوم بالتماس الأعذار، وتجاوز الإساءات، وبذل المروءات، واستبدال قاعدة أخرى بهذه القاعدة في التعامل بين الحاكم والمحكوم، قاعدة كان شذوذا فغدت أصلاً، تقوم على التوحش والسبعية الضارية، والتوتر الدائم في العلاقة بين طرفي الحكم، وارتقاب الفرص للنيل من الخصوم بل وصناعة الفرص حين لا تتوفر! حتى تحول الساسة بكل أصنافهم (أنظمة ومعارضة) إلى منطق التوحش الذي لم يوفر شيئا ولا أحداً عن غائلة البطش.
إن الإغراء بالتغيير السياسي وحده دون تغيير أعمق في الوعي وآليات التفكير لن ينقل الشعوب إلا بين أشكال متعددة من الاستبداد والقهر طلعها كأنه رؤوس الشياطين! بل وربما إلى استبداد أعتى يستبيح كل شيء متذرعاً بشرعية السماء! ولو نظرنا فقط في مدد أعمارنا القصيرة التي تابعنا فيها أحداث العالم وهي تموج من حولنا لوجدنا عشرات الأمثلة لمعارضين سابقين كانوا مشردين مضطهدين،أو ثواراً "تحرريين" "تقدميين" ما إن تمكنوا من قبضة الحكم حتى ساخت أقدامهم في الدماء وجروا على سنن من قبلهم، وتفتح إبداعهم على أساليب بطش لم يصل إليها من سبقهم من الحكام!"ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون"(يونس 14).

لقلب قاعدة الرفق هذه إلى قاعدة العنف أسباب كثيرة في تاريخنا الذي شكل وعينا بالدين وفهمنا لمنهج السياسة والحكم، فتاريخنا العربي العام يقدم دائماً على أنه حلقات متوالية من الصراع بين مستبدين سابقين ولاحقين، يصاحب فيه الحقُ القويَ الغالب أبداً، ويعرف فيه الحق بالرجال ولا يعرف فيه الرجال بالحق، وكم دمر هذا المسار وعي أجيال أو زيفه! ومن أسباب ذلك أيضاً أن تجارب أخرى لمناهج الحكم في تاريخنا العربي لم تدرس تاريخياً، ربما لقيامها في مناطق يراها البعض "أطرافاً" لا"مراكز"، ولم تقدم لأجيالنا باعتبارها نموذجاً يقوم على مسؤولية الحاكم عن بناء جسور المحبة، وعلى أن الرحمة بالشعب والإشفاق عليه جزء من مسؤولياته الإلهية، فأقصيت هذه التجارب من دائرة التأثير وصياغة الوعي، وتركت أجيال الأمة لتاريخ يلح أبداً على فكرة حكم المتغلب وحظها معه، وقلما كان هذا الحظ طيباً!

في عالمنا العربي الذي هجر قيم الرشد هذه وغادرها في هذه المرحلة الموارة بالتحولات والعواصف والعنف! تذكّر عمان هذا العالم العربي ــ وتذّكر العالم أيضاً ــ بالقاعدة الأصل المنسية والمطمورة، قاعدة الرفق والحكمة والدفع بالمروءات التي يجب أن تنظم علاقة الحاكم بالمحكوم، تذكّره بالتاريخ كما تذكّره بالواقع لعل عالمنا العربي يدرك أن ثمة صيغة أخرى للتعاطي وللتعامل مع هذه المرحلة غير صيغة العنف والإقصاء التي حولها الكثيرون إلى قاعدة! وأن الصيغة الأساس القائمة على الرفق والحكمة والاستيعاب والصفح والتجاوز هي التي يمكن أن نعول عليها في الخروج من هذه المآزق التاريخية إلى البناء والتقدم للأمام بعيدا عن حلقات الفراغ والعدم والفشل.

هذه القاعدة المنسية التي تذكّر بها عمان وتطبقها نسيجها الحب وتقوم على ثنائية العدل والرفق، وكان من صورها خلال الأسبوعين الماضيين صدور حكم المحكمة العليا العمانية في قضية كانت مثار الرأي العام حين حكمت بنقض الأحكام التي أدين بها عدد من المتهمين بقضايا التجمهر والإخلال بالنظام العام، وأمرت بإعادة المحاكمة بهيئة مغايرة، ولم تمض مدة يسيرة الوقت إلا وصدر عفو من السلطان عن كل المتهمين في هذه القضية، وعن محكومين آخرين أدينوا بالإساءة والإعابة لشخص السلطان نفسه وكانت قد صدرت في حقهم أحكام نهائية، وهذا العفو والقرار أشاع أجواءً من الإيجابية والألفة والارتياح في الشارع العماني من ناحية، وأكد على مواصلة تثبيت استقلالية القضاء من ناحية أخرى، ومن جهة ثالثة فقد زاد قاعدة الحكمة والرفق والتجاوز والصفح رسوخاً وثباتاً وتأسيساً في التجربة العمانية الحديثة، لتكون عمان حاضنة لكل أبنائها تحتضنهم وترفق بهم ولا تقصيهم.

ثنائية العدل والرفق، التي تشيع الطمأنينة وتفشي السلام وتبني المحبة وتؤسس سلم المجتمع هو ما تقدمه عمان للعالم الصاخب من حولها، حتى نعيد لهذه القيم اعتبارها في واقع ثقافتنا العربية، ولتعود سنة للتاريخ كما ينبغي؛ نعم إن هذه القيم أصيلة في تراث أمتنا وثقافتها، لها قيمتها الذاتية الأصيلة مهما طمرها ركام فكر المغالبة والتغلب الذي بليت به أمتنا، لكن سنة ممارستها في ظرف أمتنا هذا أمر يزيدها أثراً وبهاءاً وقوة، ويعيد التأكيد على أن ممارستها ليست ممكنة فحسب، بل و واجبة أيضاً.

في رسالة تاريخية أخرى ــ كالتي بدأنا بها ــ يبعث الإمام ناصر بن مرشد اليعربي العماني(انتخب1624م) إلى أحد ولاته مبيناً له فلسفة العقوبة كما يؤمن بها قائلاً له: "وإذا وجبت العقوبة على أحد من الرعية، على فعل شيء يستحق به العقوبة، فاعتقد فيه بمعنى المحبة، لا بمعنى الغضب، لأن الإنسان إذا أحب أحداً حال بينه وبين ما يضره و يعطبه"، وبالمناسبة فإن ناصر بن مرشد هذا هو الذي وحد عمان في القرن السابع عشر الميلادي، لتواجه بعد ذلك وطوال مدة حكمه الاستعمار البرتغالي وتطرده من الأرض العمانية، وليلاحق الأئمةُ من بعده البرتغاليين في موانئهم وقلاعهم في المحيط الهندي والشرق الإفريقي.

ذلك ما أرادت عمان تاريخاً و واقعاً أن تقدمه لأبنائها ولأمتها العربية والإسلامية.

الاثنين، 25 فبراير 2013

حول مؤتمر الجمعية الاقتصادية السادس، حضور المعالجات الشاملة وافتقاد الحضور الشامل

نشر بجريدة الرؤية ص 8، في 25 فبراير 2013
    انعقدت في الأسبوع الماضي واحدة من أهم مؤتمرات هذا العام وهو مؤتمر الجمعية الاقتصادية العمانية الذي أضحى تقليداً سنوياً ينتظره المختصون والمهتمون على السواء، ومن يتابع مؤتمرات هذه الجمعية يدرك تماماً مستوى المهنية و الشمول و الجهد الموضوعي الذي يصنع مؤتمراتها وندواتها، حيث ركزت كل مؤتمراتها على أهم مفاصل التفكير الاقتصادي الذي يحتاجه الوطن في المرحلة الماضية والراهنة بدءاً من "الاقتصاد الجديد" ثم "الحوكمة والتنافسية" ثم "المساءلة والشفافية ودورهما في تنمية الاقتصاد الخليجي" ثم "فرص وتحديات التنمية المستدامة في دول الخليج" و" التحولات الديمغرافية وسوق العمل" و "التنمية المستدامة بين التخطيط و الواقع" الذي كان المحور الرئيسي للمؤتمر السادس هذا العام،ومن يحضر هذه المؤتمرات يدرك أنها موجهة للرأي العام و لصناع القرار وللمخططين الاقتصاديين أكثر من توجيهها للمختصين الأكاديميين أو لرجال الأعمال أو لدوائر الاقتصاديين المغلقة، ذلك لأن معالجاتها من الشمول بحيث يخرج المرء بقناعة مفادها أن التنمية بكل تجلياتها وأبعادها الإنسانية والاجتماعية يجب أن تكون هي الهم الأول للاقتصاد الحقيقي، وأن تشويه رأس المال و النظريات الاقتصادية المنحازة له قد بدأ يتراجع أمام وطأة الكوارث الإنسانية والبيئية والمالية التي سببها حين لم ير في الاقتصاد إلا أرقاماً وإحصاءات ونظريات اقتصادية جامدة متبلدة الإحساس لا تلامس هم الإنسان و قضاياه المعيشة. إن المعالجات التي تطرحها مؤتمرات الجمعية سواء في عناوينها الرئيسية أو في المحاور وأوراق العمل والحوارات التي تثيرها هي في صلب الهم الإنساني وفي عمقه وفي شموله، حين تتصل بقضايا قد لا يخطر على بال المتابع من بعيد أنها تعني الاقتصاديين، فقضية التعليم وإصلاح المنظومة التعليمية حاضرة بقوة، ومسألة العلاقة بين اللغة العربية والاقتصاد مطروحة دائماً، والجانب القانوني التشريعي جزء من المحاور، وهموم البيئة وحفظها جزء من حسابات النظرية والتطبيق، هذا فضلاً عن القضايا المعتادة في أدبيات الاقتصاد كالحديث عن الطاقة والعمالة والإنتاجية والتنافسية والدخل والضرائب والدعم وغيرها، وهذا الشمول في المعالجة هو ترجمة حقيقة لفكرة "استدامة التنمية" التي أعادت الاقتصاد لجوهره الانساني وزحزحته من ضيق "النمو" إلى رحابة "التنمية"، وكل هذا حاضر في تفكير خبرائنا الاقتصاديين وهم ينظمون مؤتمرهم السنوي الذي غدا تقليداً يتداعى إليه أبرز خبراء الاقتصاد العرب والخليجيين، مع إصرار واضح على التمكين للباحثين العمانيين و تقديمهم للأوساط المتخصصة و المهتمة. أجل إنني أحترم المؤتمر السنوي للجمعية الاقتصادية العمانية لكل هذه الاعتبارات، ولاعتبار آخر مهم وهو العبور المباشر إلى صلب القضايا المحورية ــ بل المصيرية ــ بصراحة ووضوح بعيداً عن ذلك الإسراف في الإنشاء والدوران حول الحقائق التي قد تبدو مؤلمة، وتمييع كتل التحديات الصلبة بغمرها في الأحاديث الفائضة عن الحاجة! فالذي نحتاجه في هذه المرحلة أن لا نضيع الوقت في بذخ الكلام الفائض الذي يشتت انتباهنا عن الحقائق التي تحتاج لمواجهة وديناميكية؛ والصدق مع الوطن ومع قيادتنا التي تحدثت بشفافية ووضوح في "سيح الشامخات" يوجب علينا أن نعبر إلى صلب القضايا وجوهرها، وأن نكون في وضوح تلك الروح التي تحشد الإرادات والهمم لصناعة مستقبل أفضل وأرقى لعمان والعمانيين، وأن تكون ندواتنا ومؤتمراتنا مادة للتقدم للأمام ولصناعة القرارات ووضع البدائل وابتكار الحلول الابداعية التي يحتاجها تعقد الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في منطقتنا، ويحتاجها تعاظم التوقعات وارتفاع الطموحات في مجتمعنا . لابد لنا من القول أيضاً أن المرء يفتقد في هذه المؤتمرات المهمة بعض المؤسسات التي كان جديراً بها أن تكون حاضرة وفاعلة، كما افتقدنا بعض المسؤولين الذين وضعت بين أيديهم مهام هائلة تحدد معالم المستقبل، ويغدو حضورهم ومشاركتهم في مثل هذه المؤتمرات تحقيقاً لعنصر الشراكة و التعاون بين الحكومة و القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني كما وجه جلالة السلطان المعظم في خطاب "سيح الشامخات"، وبدهي أن الشراكة والتعاون لا يتعلق بالتنفيذ فحسب كما قد يظن البعض، فالشراكة في التفكير والتخطيط والتشاور واستماع رأي الخبراء المتخصصين هي الأدعى لأن تكون هناك شراكة وتعاون في التنفيذ والعمل؛ وهذا الحضور الذي كنا نرجوه يتجاوز حتما ما اعتاده كثير من مسؤولينا من حضور احتفالي برتوكولي يكتفي بكلمات الجلسة الافتتاحية، فما طرح من القضايا في أهميتها بل ومصيريتها، وفي شمولها وتنوع زوايا النظر إليها يستحق متابعة أفضل ومشاركة أقوى، وما نتج من توصيات ومقترحات تمثل خلاصة التفكير الاقتصادي المتخصص يستحق تحليلاً ودراسة وتعاملاً بأقصى درجات الجدية منقبل أهم مؤسساتنا المعنية بالشأن الاقتصادي وصولاً إلى مجلس الوزراء الموقر، ذلك لأن هذا المؤتمر ــ كما أوضح البيان الختامي والتوصيات ــ قدم رؤية تتوخى الشراكة في التفكير والتخطيط لـ "عمان التي نريد" أي نريد جميعا.