الثلاثاء، 30 يوليو 2013

فسحة رشد (الوعي بالتاريخ وحلقاته المفرغة)

جريدة عمان، 21 رمضان/ 30 يوليو.
  
   الوعي بالتاريخ رشد، والسكون فيه تخلف ورجعية، وبين الأمرين فرق هائل يساوي الفرق بين التقدم والتراجع، وبين الصعود والهبوط؛ والسؤال الذي يقذف بنفسه دائماً: لماذا يعيد التاريخ نفسه؟! ولماذا تعيش بعض الشعوب العربية والإسلامية دورته العدمية وحلقته المفرغة؟

والسبب واضح: لأن إلهاماته وعبره القريبة والبعيدة مجهولة أو متجاهلة، والجهل والتجهيل بالتاريخ خطر محدق بوعي الأمم والشعوب، لأن الوعي به هو الذي يمكن من تقييم اللحظة الراهنة ووضعها في سياق الأحداث، وهو الذي يزودنا بالقدرة على فهم كيان الوطن، فمن يقرأ التاريخ جيدا يعرف عناء الرحلة الطويلة لتشكل الأوطان، وحجم التضحيات التي أوصلت الأوطان إلى كينونتها التي نعرفها، ويكون أكثر من سواه حرصاً على وطنه وخوفاً عليه، ومنشغلاً أبداً بهاجس تقدمه لأنه يعرف جيداً أين ومتى تبدأ حالة التراجع، ومن يقرأ التاريخ يدرك بوضوح أن الحاضر فصل من فصول الحياة، وليس نهايةً للتاريخ، وأن الأعلام والشخصيات التاريخية تروس محركة له، قد تدور إلى الأمام أو تدور إلى الوراء!
وبدون هذا الوعي الذي يشمل صفحات التاريخ البيضاء والسوداء على السواء لن يكون هناك إلهام ولن تكون هناك عبرة، فصفحات المجد التاريخية النيرة هي التي تصنع الإلهام وتوثق الانتماء وترفع روح الفخر الوطني، وصفحات الضعف التاريخية الكابية هي التي تزود بالعبرة وتطلق إشارات التحذير من تكرار مشاهد العمى التاريخي، ومن يقرأ التاريخ جيداً يكون أكثر قدرة على إدراك اللحظة المُعاشة وتصور مآلات الأحداث والتنبؤ بالعواقب.
ينظر الغالبية العظمى من الألمان مثلا لمرحلة الحكم النازي على أنها مرحلة مظلمة من تاريخهم الحديث، وأي إشارة لاستعادتها أو للفخر بها مجرمة قانوناً، بينما يرى فيها العديدون من غير الألمان لحظة قوة وتألق وسطوة! والألمان بقدر ما ينظرون لتلك المرحلة باشمئزاز وأسى فإنه ليس بوسعهم إنكارها لأنها جزء من وعيهم بحاضرهم، ولأنهم يرون فيها سببا لهلاك أكثر من 50 مليون إنسان، ومن وراء ذلك مسؤولية أخلاقية وتاريخية، ويرونها سببا لدمار وطنهم وتقسيمه وجعله تحت الوصاية الشرقية والغربية لأكثر من 40 عاما، ولأن هناك رغبة حاسمة في أن لا يتكرر المشهد من جديد، وكل ذلك لا يدفع للتجهيل بالتاريخ أو إنكاره، ولكنه يدفع للبناء عليه وعدم تكرار أخطائه.
ولدينا في عالمنا العربي والإسلامي حالة مزمنة من التلاعب بالتاريخ ــ هذا إذا كانت هناك عودة إليه أصلا ــ ونزع لصفحاته السوداء أو تجهيل الأجيال بها، وهو أمر خطير على الوعي، إذ هو هدر لخلاصات التاريخ، يسلم وعي أجيال الشباب لهذه اللحظة الملتبسة فحسب، بكل ما فيها من سخط ورفض للواقع المتأزم، ومن آمال كبرى بغد أفضل، ومن تطلعات وتوقعات، ومن غبش وادعاءات وتهم متطايرة، ومن تعقد وتداخل، ومن استقطابات واصطفافات، يراد لها كذلك أن تكون لحظة عمى تاريخي! أفضت وتفضي إلى تجاهل النذر التي يقذف بها حتى التاريخ القريب بل والقريب جدا!

نقول هذا والمرء يرى السير الحثيث لتكرار مشاهد الاصطفاف والتجاذبات التي تمزق الأوطان وتقسم المجتمعات وتغيب لغة الرشد، وتدخل بالمجتمعات في أكثر من بلد عربي "لحظات من العمى الثقافي الخطرة التي لها الويلات من بعدها" كما يصفها عبدالله الغذامي في إحدى تغريداته، ففي الحالة المصرية مثلاً ـ وهي هم الجميع ــ ظلال من مشاهد التاريخ البعيد والقريب، ففيها ظلال تطل من تجربة الجزائر وسنواتها العشر الدامية، وملامح كئيبة من الأزمة السورية الطاحنة، ولا أمل في لغة التعبئة الجماهيرية ولا في التطاحن الإعلامي، بل الأمل يبقى في مبادرات الرشد التي تدرك الخطر المحدق بالأمة بأسرها وتسعى لإيجاد المخارج على الأرض، وهي الأجدر من غيرها بالتصديق والانحياز.
وحديث التاريخ لنا عودة إليه، فإعادة الوعي العميق به داع ضروري من دواعي الرشد الذي نجهد في البحث عنه في هذه المرحلة المعقدة.

"لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب" (يوسف،111)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق