الأربعاء، 24 يوليو 2013

فسحة رشد (الرشد في خضم الفوضى)

جريدة عمان 15 رمضان/24 يوليو
 
   قبل أكثر من أربعين عاماً رأى مالك بن نبي في كتابه "مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي" أن أزمة الأمة العربية الإسلامية هي أزمة أفكار، ويومها كانت الخيارات أكثر وضوحا، وسوق الأفكار تطرح بدائل محدودة لإدارة الدول الوطنية الناشئة بعد مرحلة الاستعمار، لا تتجاوز بها خيارات الاشتراكية أو الرأسمالية، أو أن تظل دولاً تقليدية تحكمها ملكيات تقوم على اقتصاد ريعي، تدار بطريقة قريبة من حكم عشيرة تضرب أطناب خيامها في بعض أطراف الصحراﺀ.
خيارات متصارعة نعم، وبنزعات داخلية وتدخلات خارجية، ولكنها واضحة وبسيطة، وبوسع أي نظام أو حزب أو تيار أو فرد أن يتبناها; بيد أن ما نجده في راهن أمتنا العربية الإسلامية اليوم أكثر تعقيدا بكثير! إنه فوضى الأفكار والرؤى والتصورات، التي لا تتبين فيها الحدود الفاصلة بين ثنائيات كثيرة! لا بين الماضي والحاضر، ولا الراهن والمستقبل، ولا بين الداخل والخارج، ولا بين المحلي والدولي، ولا بين ما هو أخلاقي وما هو غير أخلاقي، ولا بين الحقائق والأوهام، ولا بين الأعداء والحلفاء، ولكل هذه الفوضى أسباب كثيرة لا يتسع المجال لتحليلها.
وفي الأثناء رأينا ابتعاد الكثيرين من أولي الرأي من مفكري الأمة عن مقاربتها وتحليلها في شبه استسلام أمام هذا المشهد المعقد، وزاد من هذا النكوص أن صخب الجماهير انضاف إلى استتباع الأنظمة في ضغطه على الرأي، وفي الحالتين هناك تضييق على استقلاله وسلامة تحليله، كما أن أدوات التحليل التي أنضجتها تجارب سابقة قد لا تعمل في جو مختلف تماما وغير واضح المعالم وملتبس كهذا! 
و إذا كان "الرائد لا يكذب أهله" كما تقول الحكمة العربية، فإن من كان صادقاً مع أمته لن يجازف بقول تحاصر الشكوك نتائجه! ومن أراد أن يصدق أمته ولا يكذبها فلن يكتفي بهدم ما هو كائن ليسلمها إلى المجهول، بل سيقدم بما أوتي من بصيرة وقدرة على التحليل كل حسابات الاحتمالات ومخاطرها الماثلة والمتوقعة، وكل الفرص الممكنة والكامنة، وبدون ذلك، بدون هذا المستوى من الصدق ومن الدقة، لن يكون جزءاً من التنوير بل يكون مصدراً للعتمة، وبدونه يكون قد اشترى تهليل الأطراف هنا أو هناك بخداع أمته وتضليلها!
نعم هناك من آثروا أن يتحولوا من التحليل والتبصير إلى التنظير والتبشير بفكرة جاهزة، وكانوا أصداءً لهتاف الجماهير أو أبواقا للأنظمة، وعندها أصبح خطاب المثقف جزﺀا أصيلاً من المشكلة، وسبباً لمزيد من الفوضى، وتحولت مهمة الفكر من صياغة الرشد إلى صناعة التضليل.
كان يمكن لحالة الفوضى هذه أن تكون ظاهرة طارئة لو كان الزمان غير الزمان، ولكن أدوات العصر التقني تحيلها إلى حالة عامة ومتجذرة، إنها تحولها أكثر فأكثر إلى أصل دائم لو لم ننتبه! فسهولة النشر كما سمحت بزيادة وعي الجماهير، فإنها شيطنت أدوات برمجتها وتوجيهها وخداعها! وعصرنا هو عصر تقنية الاتصالات وشيوع المعلومة، وكل تقدم أو تخلف سيرتبط بها فهي أداة العصر الأولى بلا منازع، وإذا لم يتغير شيئ في النفوس التي توظفها فليس ثمة ضمانة واحدة أنها ستحرك المجتمعات إلى الأمام، وليس ثمة ضمانة واحدة أنها لن تكون أداة تخلف وتراجع، خاصة حين تمادت في تجريد متلقيها أكثر فأكثر من قدرته على الفرز والنقد والتمحيص، لتحيله فردا متلقيا للمعلومة ولأثرها بتسليم يزيد على تسليمه بالقدر! إن من اللافت مثلاً أن التقنية أكسبت البعض جرأة على معارضة مدلول مسلم به لآية قرآنية، لكنها لم تعزز أي حس نقدي أو حذراً في التعاطي مع إشاعة أو خبر غامض أو تهمة يتقاذفها الخصوم!
نقول هذا ونحن نتابع توظيف هذه التقنية منذ بدايتها الأولى قبل خمس عشرة سنة، حين التفتت الأذهان فورا إلى المذهبية الطائفية لتكون المحتوى الأكثر انتشاراً وتوسعاً وجاذبية، فانكشفت بذلك ــ أكثر مما هي منكشفة أصلاً ــ تلك القابلية في المجتمعات العربية والإسلامية لكل أنواع التشظي والتفتيت، وبان للكثيرين اللحام الفج بين المكونات، وبان معه كل فرص العبث بالتناقضات!
إن استخدامنا لمفردة الفوضى يعيد إلى الأذهان المفردة التي اقترنت بها في أدبيات الإعلام خلال الخمس سنوات الماضية وهي مفردة "الخلاقة" فكانت "الفوضى الخلاقة" مادة للجدل تطل حيناً وتختفي حيناً منذ ظهر هذا التعبير المليئ بالمفارقة! والكل كان يترقب متى يحين أوان إطلاقها وتحققها! وليس ثمة شك أننا الآن نعيش ذروتها المنظورة إن لم تكن بداياتها؛ والفوضى لا تَخلُق ولا تَصنع شيئا سوى العدم والفراغ والدمار، ولا تكون خلاقة إلا لمن يصنعها أو يترقب حدوثها في خصمه، حينها فقط يمكن أن تكون خلاقة!
لا نجد مفردة في المقابل تجدي في مواجهة جنون الفوضى إلا "الرشد" بكل ما تحمله هذه المفردة من مفاهيم الإيمان والتأمل ووضوح الغاية، والوعي والتوازن، وتقدير المصالح وتحري الأصلح بين البدائل والخيارات، والشراكة في الرأي، وتغليب الصالح العام، والانحياز إلى خير المجتمع؛ بكل هذه الحمولات الخيرة التي تمكث في الأرض وتنفع الناس.
حتما يدرك الجميع أنها ليست لعبة كلمات، أو صراع مفردات؛ ولكنه تنافس مسارات ومفاهيم تريد أن تستحوذ على القلوب والعقول، ومن ورائها صناعة حاضر ومستقبل أمم وشعوب.
وهذا العمود محاولة للانتصار لمسار الرشد، ومساحة للتبشير به والدعوة إليه في التعاطي مع قضايا شأننا الوطني، أو في فهمنا لقضايا أمتنا.
والقرآن الذي "يهدي إلى الرشد" وتقترب منه الأرواح في هذه الأيام، جوهر دعوته في أن نتبين "الرشد من الغي" عسانا نكون جميعا من الذين "تحروا رشداً" فنتبع "سبيل الرشد" لا "سبيل الغي"، ويهيﺀ لنا ربنا أفراداً ومجتمعات "من أمرنا رشداً".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق