الجمعة، 21 يناير 2011

ندوة الشعر الشعبي ، مابعد حضور الهوية و استشراف التطلعات .. نشرته جريدة عمان الأربعاء 19/1/2011

ندوة الشعر الشعبي العماني
ما بعد حضور الهوية و استشراف التطلعات

محمد بن سعيد الحجري

انعقدت ندوة الشعر الشعبي العماني ( الهوية و التطلعات) ، و معها التأم شمل المعنيين بهذا الشأن وما اقترب منه ، و خلصت الندوة إلى نتائج مهمة تسعى لتأسيس واقع مختلف للشعر الشعبي العماني يكون فيه أكثر اتصالاً بمعالم الهوية العمانية ، و أكثر تطوراً في خطابه الشعري  بكل مقومات ذلك الخطاب ، في اللغة ، و في الصور الشعرية ، و في الرمز و في الإيقاعات و الموسيقى الشعرية . و هي قاعدة تتأسس على منطلقي الندوة و محوريها الأساسيين في التجذير و التطوير ، اللذين يوحي بهما عنوان الندوة المرتكز على الهوية و التطلعات .
ومن أجل ذلك كله ، جاءت توصيات الندوة التي تبني رؤيتها المستقبلية على مسارات عمل تعنى بجانب العمل المؤسسي ، و النواحي الإعلامية ، و المهرجانات و الجوائز و المسابقات ، و جانب الدراسات ، سواء منها ما تعلق بالتوثيق و التحقيق ، أو ما تعلق منها بالنقد و التحليل ، و إعادة توظيف النتائج و الخلاصات ، إضافة إلى توصيات أخرى مهمة تتعلق بحفظ الحقوق الفكرية لتراث الوطن ، و دعم كل جهد يخدم هذا الموروث أو يضيف إلى عطائه جديداً أصيلاً و مقنعاً .
ومع تكاثر التعليقات الإعلامية التي رافقت الندوة أو تلتها ، و التي تناولت جوانبها التنظيمية أو نتائجها و توصياتها ، يجد المرء أن الدلالات تتعاظم و تتعمق ، و من المؤكد أن هذا الأمر هو نتيجة تلقائية للذي أراده صاحب الجلالة السلطان المعظم من أوامره السامية بتنظيم الندوة ، لكي تكون حدثاً فارقاً و مؤسساً ، لا أن تكون حدثاً عابراً أو مكرراً .
* نتائج تتحقق قبل التوصيات:
إن الذي يود المرء أن يقوله في مثل هذا الموقف المفعم بالدلالات هنا ، أن التوصيات هي الجزء الأساسي من النتائج ، و ليست كلها ، فقد بدأت الندوة في تحقيق نتائجها، منذ أن اجتمع ذلك اللفيف من الباحثين و الشعراء و المهتمين و الخبراء المعنيين بالشعر الشعبي العماني من داخل السلطنة و خارجها تحت مظلة الندوة ، و منذ أن انبثت تلك الروح العمانية في نسيج العمل و الحدث ، تلك الروح التي تحلت بالتوازن و الصراحة و الثقة بالذات ، و اعتمدت منهجية الدراسة و دقة العناية بالتفاصيل ، و تطلعت للاحتراف في معالجة واحدة من أكثر القضايا حساسية و إشكالية ، بين توجهات مختلفة ، و مدارس متباينة ، و مؤسسات متنوعة ، و على أكثر من مستوى للمعالجة .
* حتمية التطوير أم صيغة التطوير؟
لعل واحدة من النتائج المهمة التي تبلورت قبل و أثناء انعقاد الندوة تتجلى في حقيقة أن التعاطي مع العديد من مسائل ساحتنا الثقافية يجب أن يكون على هذا المستوى أو أفضل منه ، و أن الروح العمانية التي أشرت إليها و صاحبت أجواء الندوة هي التي يجب أن نعول عليها و نحن نقف أمام إشكاليات فرضتها حتميات التطوير ، و لكن صيغة التطوير فيها تبدو غائمة و ملتبسة ، و ينطبق ذلك إلى حد بعيد على حالات عديدة من واقعنا الثقافي بل والتنموي عامة ، و لقد كان الشعر الشعبي العماني هذه المرة نموذجاً لها .
إن منهجية التعاطي ــ التي أكدتها الندوة ــ في مثل هذه الجوانب يجب أن تستحضر فتح أبوب النقاش ، و توفير منابر تداول الرأي ، و تمثيل الآراء بمختلف أطيافها ، و اعتماد الخبرة العلمية ، و الدراسة و العمل البحثي منطلقاً للحوار ، على أن يكون حواراً مرتفع الأسقف ، مؤطراً و منظماً، ثم جعل النتائج في شكل صيغ قابلة للتطبيق و للتحويل إلى برامج عمل ممكنة التنفيذ و القياس ، كل تلك العناصر هي مقومات النجاح الضرورية لجعل مؤتمراتنا و ندواتنا و محافل الرأي لدينا منتجة و فاعلة ، و واقعية في مطالبها و رؤاها المستقبلية ، و صانعة للتغيير.
و إضافة إلى ذلك فإن بوسعنا القول إن صيغة التطوير التي تعني التقليد و الاجترار و استقبال المؤثرات و تمثلها ـ كما هو الحال عند البعض ــ قد بدأت في التزحزح ، و أضحت أكثر تهافتاً و ضعفاً ، فقد عرفنا إلى أين تصل الجذور ، و كيف يرتبط الشعر الشعبي بالمكون الاجتماعي فيغدوا مخزناً للذاكرة الجمعية ، للهجة و الأحداث و للذائقة الجمالية الجماعية ،  و كيف كان أداة لتكوين ثقافة وطنية جامعة قوامها منظومة قيمية تعارف عليها العمانيون بـ " معاني العرب " أو مذاهب العرب و معانيهم " ، و وقفنا جميعاً أمام بعض أعلام الشعر الشعبي في عمان ، و اكتشفنا معاً أسماء جديدة ، و تجارب ثرية ، مما يعني أن الطريق لابد أن يمهد لتواصل أجيال الشعر الشعبي العماني ، و ما قدموه من خيال و إبداع،و  توظيف لأنماط من الرمز ، بل و تقعيد له عبر أنماط شعرية تزاوج بين الحيل اللغوية و الكنايات و التوريات البلاغية ، و اتصال و حوار حتى مع موجودات الحياة كائناتها و جمادها ، و ترسخت أكثر حقيقة  أن الإضافة تأتي بقدر اتصالانا بمقومات الهوية العمانية ، لهجة و بيئة و إرثاً و هماً اجتماعيا، و مكوناً مجتمعياً ، و  ظهرت جلية حقيقة أن المحلية هي أولى خطوات العالمية و الانتشار الإقليمي .
و إذا ما أريد أن تتواصل تجارب الأجيال بعمق ، و تتفاعل تفاعلاً حياً و مؤثراً فلابد و أن تكون مدونة الشعر الشعبي العماني قد أنجزت ، و ذاكرته الشعرية قد وثقت ، و اشتغل عليها بطريقة منهجية علمية تتيح الوصول إلى مصادرها ، و ذلك ما أوصت به الندوة في أكثر من توصية و بأكثر من طريقة.
إن التطوير هو حتمية لازمة لا تكاد محتاجة إلى إقناع ، إذ تنتجها تفاعلات عالم مفتوح أصبحت فيه سيرورة الأفكار و النصوص عابرة للثقافات ، و لأفلاك المدارس و التيارات ، و حدود القطرية و  الإقليمية الشعرية ، و لكن صيغة التطوير هي التي تحتاج لاشتغال و جهد و وضوح الرؤية و بلورة و ثقافة حقيقية.
* شراكة في تكوين الرؤية و في تحقيقها :
و إذا كانت التوصيات و النتائج قد غدت ماثلة ، فإن إرادة تحققها ترافقها فهي أشبه ما تكون بخطة عمل قائمة على عناصر محددة و واضحة ، و لكن لنتوقف أمام مسؤولية كل منا تجاه هذا الحقل الذي خدمته هذه الندوة ، إذ أن روح الالتزام ، و بناء الشراكة ، هي أمور حاسمة في مرحلة التطبيق ، أكثر منها في مرحلة  وضع الرؤى و الأفكار ، فكما كانت الشراكة متحققة في إنجاز الرؤية ، فإنها واجبة في تحققها ، و لابد من القول هنا إن ساحة العمل واسعة للجميع ، بل و محتاجة للجميع ، فقد حان الوقت منذ أمد بعيد لتجاوز حساسيات التوجهات و المناهج ، بل و حساسيات الذوات و المجموعات ، فأمامنا إرث هائل من الموروث الذي يحتاج للعناية و الفحص و الدرس و "التسويق" ، و نصب أعيننا تحديات و منافسات و تزاحم على حضور الصوت الشعري ، و معه حضور الوطن بإرثه و ثقافته ، و في كل هذا الخضم مجال رحب لطاقات محترمة لا يجوز أن تشغلها حسابات أخرى أقل .                       
و في الأمس القريب برهنت الأحداث و المسابقات الشعرية التي تحتكم على معايير الفن الشعري ، و النقد الأدبي المجرد أن الصوت الشعري العماني هو مناط التميز و الأصالة ، و أنه يستحق التفوق و التكريم و الاحترام ، و أنه يلفت النظر حيثما حل و قدم ما لديه واثقاً من ذاته و هويته و خطابه الذي يلامس وجدان الإنسانية عامة ، و تنسكب فيه جداول الثقافة العربية .