الثلاثاء، 30 سبتمبر 2014

النفيسي مرة أخرى (عمى الطائفية وعقدة "الفالودة")

النفيسي مرة أخرى
عمى الطائفية وعقدة "الفالودة"

جريدة الرؤية - محمد بن سعيد الحجري

   قبل أكثر من أسبوعين عاد الدكتور عبدالله النفيسي في برنامج "ساعة حوار" في إحدى القنوات الخليجية للحديث عن عمان في حلقة عنوانها "الخليج ومناطق الصراع" وهي المرة الثالثة خلال أقل من سنة التي يركز فيها النفيسي حديثه على عمان مقدماً تأويلاته لما أسماه "الانفراد" العماني في العلاقة مع دول الخليج، والعلاقات العمانية الإيرانية والخليجية الإيرانية، ورغم أن بعض إشاراته تحدثت عن كون عمان كياناً تاريخياً كبيراً إلا أن هذه النقطة سرعان ما تلاشت أمام طوفان التأويلات الأخرى التي لا أبالغ في القول في أن بعضها طائفي وبعضها مسيء لا يمكن أن يتقبله أي عماني، وأعفي نفسي هنا من إيراده وبإمكان من يريد تفصيل ذلك أن يعود إلى الحلقة المذكورة فهي مسجلة ومرفوعة على اليوتيوب، وهي فضلاً عما فيها من مغالطات لا أساس لها تعيد إلى الأذهان ما قاله قبل أقل من سنة عندما تحدث عن عمان واصفاً إياها بأنها "اللغز" تارة و"الثغرة" تارة أخرى، ناهيك عن أن مثل هذه التأويلات لا تقدم شيئاً للراهن الخليجي الذي يواجه أزمات عاتية وتحديات خطيرة، بل تصنع الجفاء وتزرع التوجسات وتبني رؤاها على خليط من الأوهام وأنصاف الحقائق لتقدمها لأجيال خليجية لا تمتلك قدرة على النقد والفرز والتمحيص، تعطي ثقتها العمياء لأمثال الدكتور النفيسي الذين أجدهم يخذلون هذا الوعي ويعاظمون أزمته بتأويلاتهم التي لا تخفي طائفيتها ومذهبيتها، ولمن يظن أننا نبالغ في الأمر فليعد إلى هذه الروابط والحجم الهائل لإعادة تغريدها عبر تويتر.

في المرة الماضية حين أطلق الدكتور النفيسي تصريحاته السلبية عن السلطنة وموقفها من العلاقة مع إيران وقضية الاتحاد الخليجي وبعد أقل من شهر من ذلك انفجرت الحالة الخليجية ذاتها في أعتى أزمة منذ تأسيس مجلس التعاون، وثبت أن موقف السلطنة كان واقعياً إلى حد كبير وأن الظروف الموضوعية أبعد ما تكون عن الحلم البعيد، لكن الدكتور النفيسي لم يراجع خطابه تجاه السلطنة ولم يراجع كم المعلومات المغلوطة والمضللة التي بثها حينها، والتي ساهمت بشكل سلبي في تكون رأي خليجي عام شهدنا مفاعيله في وسائل التواصل الاجتماعي في أوساط الشباب.

ومن الطريف هنا أن مقدم الحلقة والدكتور النفيسي في سياق استعراض العلاقات الخليجية الايرانية اتفقا على أن العلاقة الوثيقة مع إيران لا تقتصر على عمان بل إن هناك دولتين خليجيتين لديهما علاقة وثيقة جداً مع إيران، ولكنهما قالاً بأنه لا داعي لذكر اسمي هاتين الدولتين! قاصراً الحديث فقط على العلاقة العمانية الإيرانية مردداً ذات المزاعم السابقة؛ والسؤال هنا: علام هذا الصمت المتعمد بشأن العلاقات الخليجية مع إيران والتصريح المفصل "المُؤَول" عندما يتعلق الأمر بعمان؟! في هذا السياق أليس في هذا الإصرار على الحديث عن عمان وحدها رغبة غير خفية لتشتيت الحقائق وتضليل المتابع؟! ثم إذا كان الدكتور النفيسي يتحدث دائماً عن هذا الفشل الذريع للسياسة الخليجية العامة تجاه قضايا المنطقة فعلام يلوم عمان على ما أسماه "الانفراد العماني"؟! إن المسكوت عنه هنا هو لب القضية، ولذا فإننا سنستمر في تساؤلاتنا: كيف يواصل الدكتور النفيسي تأويلاته التي امتهنت اللمز والنيل من عمان، بينما لم يذكر كلمة واحدة عن الجهود المضنية التي بذلتها عمان في رأب الصدع الخليجي بعد أزمة السفراء؟! كيف يتجاوز ــ هو ومقدم البرنامج ــ هذه الحقيقة الواقعية كما تجاوز الحقيقة التاريخية بشأن اقتراح السلطنة قيام الجيش الخليجي الموحد في التسعينيات؟! ذلك المشروع التاريخي الذي تم التنكر له والانصراف عنه، وواضح أن الذي يصرف عن هذه الحقائق هو التعصب الذي نراه في لحن القول وصريحه!! إن المدهش هنا هو هذه الرغبة المحمومة في تحميل مسؤولية الفشل في السياسات الخليجية الجماعية حتى لمن من قرأ الجغرافيا السياسية وفهم دروس التاريخ جيداً ونأى عن الانحيازات العمياء!

فكفوا عنا بربكم، كفوا عنا بربكم، واربطوا سوائم الأزمات الشاردة بعيداً عن جدران القلعة العمانية، فإن عمان لم تدق إسفيناً واحداً في الجسد الخليجي، بل صنعت الجسور وبنت التفاهمات وقاربت المواقف ولم تخذُل في الأزمات، وقدمت رؤية لسياسات واقعية لبناء التعاون الخليجي على أسس حقيقية لا على أوهام الحالمين ولا على فزع المذعورين الذين تفاجؤهم حقائق التاريخ ومسلمات الجغرافيا وكأنها بنت لحظتها!

إن مشكلة الدكتور النفيسي في فهمه للسياسة العمانية هي مشكلة خطابه كله الذي وضع الطائفية محدداً رئيسياً لتفسير الأحداث والمواقف، وبالتالي بناء تصورات وسيناريوهات يقوم جزء منها على الخيال السياسي والفوبيا السياسية مع بعض الحقائق وأنصافها لإكساب المصداقية، ومن هنا يأتي إصراره الدائم في كل مناسبة على ذكر قصة "الفالودة" الخليجية الطيبة الرائحة والسهلة الهضم التي يتربص بها الفم الإيراني الملتهِم، وهي قصة قديمة سمعها مرة من أحد السياسيين الإيرانيين، فالنفيسي يتحدث عنها باعتبارها لحظة الحقيقة في اكتشاف الأطماع الإيرانية حتى أصبحت عقدة حقيقية في خطابه، وهو يستخدم هذه القصة دائماً في إثارة الذعر والتحريض، وهذا شأنه وشأن متابعيه الذين يثقون في تحليلاته، لكنها لا تضيف لنا الكثير في اكتشاف أن العلاقات السياسية قائمة على حقائق الجغرافيا السياسية وعلى المصالح وعلى توازنات القوى وعلى تحصين الجبهات الداخلية، وكل هذه النقاط مختلة في السياسة الخليجية العامة، وتحليلاته القائمة على "قصة الفالودة" لا تضيف شيئاً لتدعيمها، لا بل وجدناه في نقطة ما من الحوار يشكك في ولاء الأقليات المذهبية في الدول الخليجية ويرى أنها متشوفة للخارج، وبدلاً من تقديم حلول لتدعيم الجبهات الداخلية بروح المواطنة والشراكة يترك الأمر هكذا فلا يعني عندئذ إلا طائفية محضة!! وهذا بالضبط ما يريده الوسط الطائفي الذي يتحدث فيه في قنوات لم تراجع خطابها بعد ولم تنظر إلى مآلاته الكارثية الذي سببته للمنطقة! فهذه الأوساط تستفزه لمزيد من تعبئة خطابها التحريضي وهو بوعي منه يمضي بعيداً في هذا الاتجاه، ولعل الدكتور النفيسي لا يلاحظ أن القنوات التي تستضيفه هي ذاتها التي ترحب بهذا النوع من الخطاب وهي ذاتها التي تبحث عمن يعبئه لها، فهي قنوات لا تبحث عن تحليل سياسي بقدر بحثها عن حشد طائفي وتبرير لمواقفها، بل إن بعضها معروف بمواقفه التحريضية التي دفعت داعميها ومموليها لإعلان تبرئهم منها.

والملاحظ هذه المرة أن القناة المشار إليها تعمدت استفزاز الدكتور النفيسي تجاه عمان ليعود مرة أخرى لشرح رؤيته الخاصة لأسباب "الانفراد العماني" في المواقف الخليجية وموقف السلطنة من العلاقات مع إيران ودورها في التفاهم الإيراني الأمريكي الأخير، ومشكلة أطروحات الدكتور النفيسي أنها نادراً ما تناقش وتفند (باستثناء لقاءه مع الأستاذ المديفر في روتانا الخليجية) بل تتلقى رؤاه بتسليم بارد ودون أي ظهور لوجهة نظر مقابلة، والسؤال هنا لماذا؟؟ والجواب لأن تحليلات من هذا النوع تربط بين السياسة والمذهبية وتصطنع الاصطفافات الطائفية مطلوبة من قبل بعض الجهات، بل إن هناك وسائل إعلامية كل خطابها يقوم على ذلك، وهي تبحث عن أسماء مؤثرة تمتلك قدراً من الاحترام والثقة بعد أن كسد سوق "الدعاة" الطائفيين وبانت كارثية خطابهم وما جر إليه من وبال؛ وخطاب الدكتور النفيسي اليوم مغموس في الطائفية إلى أبعد الحدود للأسف، وهذه الطائفية "المتأخرة" تشتد في تعصبها، والتعصب هو نوع من أنواع العمى عن الحقائق، إذ لا يمكن للتعصب أن يكون سبباً للكشف والرؤية! ويمكننا أن نجد برهان ذلك مثلاً في موقفه من القضية اليمنية وتفاعلاتها، حيث يمكن متابعة موقفه المليء بالتحريض من خلال تغريداته التي وصلت إلى حد الترحيب بالحوار مع تنظيم القاعدة في اليمن واعتبار ذلك شجاعة وبعد نظر! واعتبار سقوط صنعاء سقوطاً لمكة والمدينة!، هذا على حين أن تحليلات أكثر حصافة وعمقاً في فهم جذور الأزمة ذهبت إلى المراجعة والتأمل، ولعلي هنا أحيل إلى تغريدات الدكتور عبدالوهاب الطريري والتي كانت بعنوان "أحداث اليمن ومكاشفة الذات"، والتي أعاد نشرها الدكتور سلمان العودة، وكذلك إلى مقال الكاتب السعودي عبدالله حميد الدين "الحوثيون وأزمة الثقة في المنطقة" والمقالان نشرا بتاريخ 21 سبتمبر، ففي هذه التعليقات وأمثالها إعادة للوعي بجذور الأزمات وليس بنهاياتها، وأنه لابد من إدراك أن الأمور تسير ضمن استحقاقات لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وأن الخليج بحق هو جزء من أزمة اليمن، قبل الحديث عن تدخل إيراني أو تخادم أمريكي إيراني كما يصف الدكتور النفيسي.

مشكلة الدكتور النفيسي أيضاً هي في الوقوف عند التشخيص دون تقديم البدائل الممكنة باستثناء ترويجه لبديل "الوحدة الخليجية" الذي ثبت عدم واقعيته، وفي ظل واقع سياسي معقد جداً ومتداخل وخطر لا يقدم الدكتور النفيسي بديلاً سياسياً ممكناً، والسياسة فن الممكن كما نعلم، وقد تحدث النفيسي مثلاً بإسهاب عن الموقف من الحرب على التنظيمات المقاتلة في العراق وسوريا مقترحاً التخلي عن هذه الحرب وعدم المضي فيها، دون أن يقدم بديلاً ودون تحليل حقيقي دقيق لجذور مارد التكفير الذي تم صناعته طوال عقود والذي ينقلب على صانعيه اليوم، وهكذا فإن عدم الإحاطة بجذور المشكلات وتاريخها والنظر بعين طائفية يعطل أي جدوى لخطاب يقدم على أنه تحليل سياسي.

وهنا نقول أيضاً بأن مما لا يلاحظه الدكتور النفيسي أن عمان لم تساهم يوماً في صنع مارد التكفير الذي يهدد المنطقة اليوم ولذا فإنها في حل من كل تبعات ذلك، ولو شاهد الدكتور النفيسي خارطة القواعد التي تنطلق منها طائرات التحالف الدولي سيكتشف أن عمان عرفت قديماً عواقب الأمور وهي في حل من سياسات هذه نهايتها.

لأكثر من مرة وصف الدكتور النفيسي دول الخليج العربي وشعوبها بأنها "وادي النمل" في إشارة إلى أن هذه الشعوب كائنات ستضيع تحت الأرجل وستوطأ بالأقدام من قبل المارد الإيراني أو سواه من القوى، ولعله حينها لم ينتبه إلى أن الإشارة القرآنية لوادي النمل وردت في سياق إيجابي مداره على الحذر والانتباه وقراءة الملك النبي "سليمان" عليه السلام لحاجة رعاياه من الكائنات جميعاً للأمن والسلام والتحصن بالداخل قبل الخارج وسط ضجيج الجيوش وجلبة الصفوف.

حول اليمن .. خلاصات للقاﺀات جمعتني بإخوة أعزاﺀ من اليمن العزيز

خلال الأيام الماضية وأثناﺀ وجودي في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا شرفت بلقاﺀات رائعة مع أخوة كرام من اليمن العزيز على قلوبنا؛ هؤلاﺀ الشباب النابهين مثال لرقي الأخلاق وتوقد البصيرة وسمو الوعي واستقلال الرأي بعيداً عن التعبئة الأيدلوجية أو الانحيازات الحزبية، إنهم عينة من شباب اليمن الذين تتعلق بهم آمالنا ليكونوا رادة وطنهم في حفظ استقلاله ووحدته، وبناﺀ مستقبله، واستعادة حكمته اليمانية من أجل إخراج هذا البلد الحبيب والشعب الكريم من أوضاع الحيرة والاضطراب.
في لقاﺀاتنا كنت معهم أصغي لأتعلم وأفهم هذا المجتمع بطاقاته البشرية وتركيبه وتنوعه وتعقيده وثراﺀ مكوناته الاجتماعية، كما طوفنا معاً ببعض أنحاﺀ التاريخ العظيم المشترك بين اليمن وعمان.
حتماً كانت القضية اليمنية تفرض نفسها بما تضعه أمامنا جميعاً من ضغوط وتساؤلات أنتجتها سرعة تلاحق الأحداث ودراماتيكتها.
وفي كل الأحوال يمتلك اليمنيون اليوم رؤية واضحة لجذور هذه الأزمات، ولديهم صراحة وصدق مع الذات بشأنها، ويسلمون بأنها تفرض على الواقع اليمني تعقيدات يصعب أن يفهمها سواهم، ويصعب أن يتحدث بصراحة ومكاشفة بها غيرهم.
طلبوا مني التعليق على الأحداث، وكيف أرى الأزمة اليمنية، فاعتذرت بأني جدير بأن أصغي لأتعلم منهم، وأن كل من يتحدث عن اليمن من خارجه اليوم يجازف بالرأي، وحري به أن يقول كلمة الخير أو ليصمت! نعم ثمة قواعد عامة تشترك فيها مجتمعاتنا يمكن أن نجد انسجاماً أو عدمه بشأنها هنا أو هناك لكنها لا تؤهلنا لأكثر من التوقعات والتخمين.
ويبقى أهل اليمن وحدهم هم القادرون على فهم مجتمعهم وإدارة شؤونهم وتجاوز تحدياتهم وأزماتهم بعيداً عن أصوات التحريض الطائفي الخارجي الذي ما دخل بلداً إلا نكبها وأحالها بلاقع تصفر فيها الريح! فآخر ما يحتاجه اليمن اليوم هو أن ينحاز أحدٌ لطرف على حساب طرف، وما يحتاجه اليمن اليوم أن يترك لأبنائه فهم الأدرى به والأكثر إشفاقاً عليه، فإن كان من تدخل فلخير أو إصلاح.

قالوا لي: حدثنا عن الحكمة العمانية والهدوﺀ العماني والانسجام العماني.. قلت لهم: هو قبس أخذناه من اليمن، هو نصيبنا من الحكمة اليمانية التي أخذتها القبائل معها وهي ترحل من اليمن إلى أنحاﺀ الجزيرة.

لهؤلاﺀ الإخوة الأعزاﺀ:
د. صالح الهياشي
م.العلاﺀ باحميد
أ.محمد أبو طالب
لهم ولغيرهم من الأخوة التحية والتقدير على جميل لقائهم الذي طالما أنست به، ولوطنهم العزيز المحبة والوفاﺀ والأماني الطيبة والدعوات المتضرعة.

الاثنين، 1 سبتمبر 2014

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!

بصائر،، بين نضال غزة وعدمية التكفير!
محمد بن سعيد الحجري
جريدة الرؤية 7/ذو القعدة/1435هـ - 2/سبتمبر/2014م
"فتحت عيني فرأيت غافلاً
يحمله  السيل  وليته  درى
ونائماً   والنار  في  جثمانه
كأنه جزل الغضى وما وعى!!"
الشاعر العماني أبو مسلم الرواحي (ت1920)


خلال الشهرين الماضيين وصلت كثير من الاستحقاقات إلى غاياتها ونتائجها، وهي تعاظم من حقيقة أننا شهود على مرحلة فاصلة في تاريخ العرب والمسلمين، وإذا كان أبرز ما فيها ما وقع ويقع في فلسطين والعراق وما يثيره من تفاعلات سياسية وفكرية وثقافية، فإن هذه التفاعلات لا تتجلى حقائقها كلها في لحظة وقوعها حيث الغبار الإعلامي يتصاعد ليحجب الرؤية أكثر من أي مرحلة مضت في التاريخ، ولذا فإن قراءة المشهد وتحليله سيتطلب من مفكري هذه الأمة جهوداً مضنية لتفكيك كل هذا التعقد والتداخل الذي ألغى كل ما تبقى من "وهم البساطة" الذي يتلقفه الناس في الظاهر.
إن تحليل ما جرى خلال المائتي عام الماضية تطلب لفهمه الكثير من الوقت والجهد، وعشرات السنوات من البحث والتمحيص خاصة وأن الأحداث في حقيقتها لم تكن تصنع على مسارح وقوعها في الشرق بل في مواقع أخرى يُنتظر لتفصح عن محجوبها علّنا نفهم ما يجري بعد أن يفوت الأوان ويستقر الواقع على هيئته، والأمر لا يختلف كثيراً الآن، بل إن الحالة الفكرية والسياسية واختراق الوعي بالطائفية المذهبية والسياسية يعطي فرصة أوسع للتحكم والتوجيه واللعب بالتناقضات، ووسط كل هذا "الهرج والمرج" يفضل الكثيرون تفسيراً بسيطاً للرواية متناسين كل التراكمات التاريخية، الحقيقي منها والمشوه، ومحيدين حقيقة أن هناك أعداء لهذه الأمة يتربصون بها، أو مستسلمين لأحقادهم وأوهامهم الطائفية التي تقسم العالم بسذاجة إلى معسكري نحن والآخر.
الفوضى الإعلامية كما أنها تسبب حالة التعقيد هذه فإنها تعطي الفرصة للكشف كذلك، ولعل هذا ما يعزي كل مشفق على هذه الأمة مما تساق إليه، فالتعويل الآن على الوعي، وعي الأنظمة السياسية ووعي الشعوب ووعي المؤسسات ووعي القيادات أمام حالة الغيبوبة العاصفة التي يراد لهذه الأمة أن تدخلها، لتؤجل كل أسئلة النهوض التي حملتها طوال أكثر من 100 عام ماضية، ولتأتي بدلاً منها أسئلة الحد الأدنى في البقاء والحياة، وهو تراجع حضاري هائل على مستوى الأمة سيتجادل الكثيرون في تحميل المسؤولية فيه، لكن الأنظمة السياسية ستتحمل فيه مسؤولية أكبر ولاشك، وبرهان ذلك أن وعي بعضها جنب شعوبها هذه المزالق الخطيرة التي تمضي إليها الأمة.
أقول هذا بين يدي الحدثين الكبيرين وفاء للحقائق الكبرى التي تغيب الآن وسط كل هذه الحالة من الظلام والعتمة، لأن ما يتوفر لكل المحللين والدارسين لا يعطي بصيصاً للثقة بأنه وهم أم حقيقة ليُعتمد عليه في قراءة المشهد خاصة وأن مستقبل شعوب عربية شقيقة كانت علامة على التنوير يغدو اليوم ضبابياً وغامضاً أكثر من أي وقت مضى!
واستناداً إلى الوقائع والأحداث فإن الله لم يُرد لنا أن نكون خلال الشهرين الماضيين أمام نموذج الظلام والفتنة وحده، فنُفْتن ويُفْتن أجيال من شبابنا لا نعرف ما يعتمل في صدورهم اليوم وهم يرون تمزق واقع أمتهم وتشويه دينهم وتدمير إيمانهم بأمة واحدة، فقد شاء الله أن لا يترك مثال الشر يفرض نفسه دون أن يظهر بإزائه مثال الحق لنستبين نتائج الأمرين ولنعي جذور الظواهر التي نراها اليوم، فبإزاء نموذج العنف العبثي والثأر الطائفي والقتل المجاني وكل صور البربرية والإجرام وقف نموذج آخر في أبهى حالات شموخه ونصاعته ووضوح هدفه، فالجهاد في فلسطين ومقاومتها الشريفة أمام آلة البطش والعدوان هو النموذج الذي أقام الحجة على جميع المفتونين والحائرين والمضلَّلين والعابثين بالأحقاد، فكما أن هدفه واضح فإن عدوه واضح مجمع على عداوته، ولذا فإن هذا الكفاح سواء في أهدافه أو في تضحياته الكبرى أو في تكتيكاته المبدعة لم يُعد القضية الفلسطينية إلى صدارة الأحداث العالمية ومحور الاهتمام الدولي فحسب، بل وأعادها إلى عقول وقلوب العرب والمسلمين بعد أن غيبتها الحروب الطائفية والخصومات السياسية، وأكد حقيقة انتهاء عصر الانتصارات الإسرائيلية، وحافظ على وحدة الصف الفلسطيني مع كل تعقيدات الموقف السياسي، وأجبر إسرائيل على التفاوض وقاوم سياسياً كما قاوم عسكرياً عبر فريق تفاوضي واحد؛ وفوق ذلك كله أليس آية أن تجمع أحداثُ غزة كلَّ ذي فطرة سليمة في هذا العالم دفاعاً عن قضيتها وعن كفاحها الذي يستحق الدعم وتجب له المآزرة بما في ذلك حتى بعض المنظمات والشخصيات اليهودية، بينما يقف العالم بأسره وكل ذي عقل وإنسانية رافضاً ومنابذاً لجنون العنف التكفيري وعرّابيه الطائفيين؟!
إن من العجب أن تقدم أمتنا هذين النموذجين المتباينين في الوقت نفسه!، نموذج الإرادة والحياة والحق، ونموذج الظلام والكراهية والموت!!؛ وهذان النموذجان -وغيرهما في ميادين الحياة الأخرى - نتيجتان حتميتان طبيعيتان لخطابين متناقضين يقوم أحدهما على الإقصاء والتكفير والتربص والكراهية والغموض والاستتباع وادعاء الحق المطلق، ويقوم الآخر على البناء والفكر والمعرفة والحرية والتعايش واعتماد المشتركات الكبرى والدفاع عن الحق عندما يتطلب الأمر، وكلا الخطابين يتنازعان أمتنا منذ أكثر من مائة عام، ولكلٍّ صانعوه ومروجوه وداعموه.
إن إسرائيل ما كانت لتبلغ هذا المستوى من الإجرام، وما كان التمادي في القتل ليصل إلى هذا الحد لولا إدراكها أن العرب والمسلمين في أوهى حالاتهم بعد سنوات من استنزاف القوى في التطاحن الداخلي المذهبي والسياسي، وبعد أن بلغت الطائفية المذهبية والسياسية أوجها، ليس على مستوى تدميرها لبنى الدول ومقدراتها فحسب، بل لأنها كذلك بلغت ذروة تدميرها للوعي والفكر وللقدرة على التعايش والبناء المشترك، وليس أدل على ذلك من بروز أصوات ترى في مخالفيها في المذهب أو في التيار السياسي عدواً أولى من عداوة إسرائيل!!
ويرى الكثيرون اليوم أن هذه الأحداث فضحت كثيراً من آفات وأمراض أمتنا في أفقع وأبشع صورها عسى أن نَعِيها وأن نراجع، وكشفت الحقائق التي ضللت بها العقول ردحاً من الدهر، وكل مخلص لهذه الأمة ولحضارتها وثقافتها يعول على هذا الوعي وهذا الانكشاف في أن ننتبه للمصير الذي تذهب إليه الشعوب.
فأكبر هذه الأمراض التي تفتك بالأمة اليوم وتربك تمييزها بين الشقيق والصديق والعدو هو التكفير بمختلف أسمائه ودرجاته ونسخه، فلقد كابر التكفيريون كثيراً وإلى يوم قريب في أن منهجهم قائم على احتكار الإسلام، وعلى إقصاء الآخرين، وعلى أصل تكفيري، وكابروا في حقيقة أن نتائجه التاريخية كانت دائماً تدميراً وفساداً في الأرض، كابروا واستمرّوا في مكابرتهم لأن ثمار هذا المنهج كانت بعيدة عن التأثير عليهم، ومهما قيل فيها فإن من العبث أن تقنع من يرى أنه - بوكالة إلهية- وصي على الحق بخلاف رؤيته الأحادية تلك، حتى أتتهم التجربة العملية أمام أعينهم وطرقت أبوابهم فهالهم ما رأوا كما هال ضحايا هذا المسار على امتداد أكثر من مائتي عام، ورأوا كيف سيكون التطبيق العملي لمناهج التكفير العدمية، كيف ستظهر ثمارها المرة، وما الذي تصنع بالناس وكيف ستكون نتيجتها تدميراً للإنسانية وتشويها للدين وصداً عنه، لقد رأوا كل النتائج رأي العين بعد أن كانت قصة تاريخ أو تنظير فكرة أو حدث إعلامي قصي و"من استشرف الفتنة استشرفته"!
ذلك أن عشرات السنوات من تغذية ثقافة الكراهية والتكفير وتمويلها ورعايتها أنتج برمجة تشبه برمجة الآليين، تضع معايير ومواصفات تتربص بالعباد عسى أن يصلوا إليها، وهذا الذي نرى أثره اليوم عبر مقاطع الفيديو المتداولة هو أثر لهذا البرمجة التي صنعتها "كاتلوجات" التكفير وكتيباته، ولم ينتبه صانعو التكفير أن "الآليين" الذين بُرمجوا على التكفير سينقلبون على صانعيهم تماماً كما هو الحال في أفلام الخيال العلمي!
وهناك أصوات من المراجعات تنطلق اليوم بعضها ينتقد الظواهر أو يتبرأ منها، وبعضها يقرّ بها ويذهب إلى العمق، إلى جذور التكفير في المعتقدات والفقه والفكر والتاريخ والاجتماع، غير أن تفكيك بنية التكفير لن تتأتى إلا بالتوقف أولاً عن دعمه واستخدام خطابه أداة للنفوذ، ومواجهته تحتاج شجاعة فائقة ومعرفة عميقة وحوارات واسعة، والمسؤولية الأخلاقية تقع اليوم قبل أي أحد على عاتق من روجوه ونشروه وصدروه وبرروا له.
ومع حالة التلاحم والتعاطف الذي نالته قضية غزة وكفاحها عربياً وإسلامياً ودولياً، فإنها كشفت كذلك عن اختراق خطير وغير مسبوق للضمير العربي، فهي المرة الأولى تقريباً التي تجد فيها إسرائيل انقساماً ولو هامشياً في الرأي العام العربي تجاه عدوانها، ولأول مرة ربما يتحدث الإعلام عندهم عن مؤيدين لهم من العرب! ولأول مرة ربما نرى مشدوهين في بعض البرامج الحوارية مشهداً "سريالياً" ينحاز فيه متحدثون يهود لحسِّهم الإنساني تجاه قضية غزة، بينما يقف متحدث "عربي" على النقيض منهم شامتاً ومتردداً يبرر للعدوان جرائمه أو يقف أمامها محايداً، إن هذه لحظة فارقة بحق وليس من خصومة سياسية كيف ما كان شأنها يمكن أن تبرر حالة كهذه لم تكن مفردة أو شاردة، بل هي حالة واضحة حتى لو كانت هامشية وسط طوفان التأييد والتعاطف، لكنها برهان ليس على استهداف القيم العربية فحسب بل وعلى ثغرات المناعة في الوعي والضمير التي صنعتها الخصومات السياسية، ومهدت لها الحرب الإعلامية المتبادلة بين الخصوم الذين لم يوفر أي طرف منهم وسيلة مشروعة أو غير مشروعة للنيل من خصمه، ومن يفقد شرف الخصومة سيفقد حتماً شرف الانتماء.