الثلاثاء، 14 مايو 2013

محمود الداود ،، رجل من جيل الشموخ العربي ،، نشر بجريدة عمان يوم الثلاثاء 14 مايو 2013م

   عرفت البروفسور محمود علي الداود قبل عدة سنوات  في عام 2010م يوم أن قدم إلى عمان التي يحبها ضيفاً على المركز ليلقي محاضرة حول "النفوذ البحري العماني في زمن السيد سعيد بن سلطان" وعرفنا يومها أننا أمام أكاديمي وسياسي ودبلوماسي عراقي مخضرم، يصل تاريخه الأكاديمي والسياسي بالدبلوماسية الثقافية التي يراها جسر التواصل الأهم في هذه المرحلة.
هذا الرجل الوقور القادم من الموصل، والثمانيني الذي ينوف عمره عن 86 عاماً، لا يزال في وفرة عطائه و روحه الدمثة وتواضعه الآسر ونشاطه الدؤوب يخجل من يزعمون أنهم في ميعة الصبا و زهو الشباب وربيع العطاء! حصل على شهادة الدكتوراه عام 1957م من جامعة لندن، وهو أيضاً خريج جامعتي هارفار وجون هوبكنز الأمريكيتين المرموقتين، كان ولا يزال متابعاً لتاريخ الخليج ومهتماً على وجه الخصوص بتاريخ عمان المليئ بقصص النهوض الحضاري والانتصارات والأحداث وبالأزمات والمفاجآت، وتابع شأن عمان منذ بزوغ نهضتها عام 1970م، وهو لا يفتأ يحدثك عن إعجابه ودهشته لما استطاعت تحقيقه من تغيير وجه البلاد ونقلها إلى بلد متحضر وحديث.
لقد عني الدكتور الداود بتاريخ عمان والخليج دارساً أحياناً ومتابعاً أحياناً وشاهداً عليه في أحيان أخرى، وفي بعض المراحل كان مساهماً في صياغة الأحداث والأفكار حين كان قريباً من مراكز صناعة القرار في العراق وفي الجامعة العربية وفي الأمم المتحدة خلال الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم يوم كان التجاذب على أشده بين العرب وبقايا السيطرة الاستعمارية، وحين كانت الجامعة العربية بأمينها العام "حسونة باشا" والدول المستقلة حديثاً فيها تصوغ أفكاراً لما يشبه "مشروع مارشال" عربي لتنمية منطقة الخليج كان الدكتور الداود هو أول من اقترحه وتبنى التفكير فيه، أيام كانت القومية العربية في أوج انتشائها وعنفوانها.
هذا الدبلوماسي المخضرم لا يزال كما كان سفيراً للعراق وثقافته وحضارته وآدابه وأعلامه، يواصل نشاطه ضمن مؤسسة "بيت الحكمة" التي يرأس قسم الدراسات السياسية فيها، يطوف العالم حاملاً معه ثقافة العراق وحضارته، متنقلاً بين قاراته ودوله وعواصمه عبر الأسابيع الثقافية والأيام العراقية وما تحتويه من مناشط وندوات ومعارض، وهو يرى أن الدبلوماسية الثقافية هي التي ستصل الجسور المقطوعة خاصة في منطقتنا هذه، مدللاً على هذه الأهمية بأن دولاً كبرى أصبحت تدرك ذلك كاليابان مثلاً حين اشترت جميع ما احتوته مكتبة شركة الهند الشرقية البريطانية التي أنشئت عام 1600م بكل ما فيها من كنوز وأسرار تاريخية تتصل بتاريخ دول المحيط الهندي والخليج.
قدم الدكتور الداود إلى السلطنة عام 2010م ونحن نعايش إعصار فيت، وقدم الأسبوع قبل الماضي ونحن نعايش أمطار الخير التي توالت على عمان، قلت له: ما أتيتنا زائراً إلا والمطر رفيقك يا دكتور! جاء الدكتور محمود الداود يحمل معه حبه الذي لا يخبو لعمان منذ خمسين عاماً، وبمعيته وفد من مؤسسة ثقافية عراقية كبرى تحمل في اسمها مجد التاريخ وعظمة المهمة "بيت الحكمة" ببغداد، ويحدثنا الدكتور الداود عن هذه المؤسسة الكبيرة أنها ورغم ظروف العراق القاسية أخرجت خلال العشر سنوات الماضية 400 كتاب، وتصدر 8 مجلات متخصصة محكمة، ومجلة ثقافية واحدة، وملحقاً صحفياً، ليؤكد العراق أنه ــ رغم كل شيء ــ لن يكف عن التنوير والتفكير!
ومن أجل المشاركة في "مؤتمر رأس المال الفكري العربي" الذي نظمته وزارة الخدمة المدنية جاء الدكتور الداود مترئساً وفداً من هذه المؤسسة العريقة من ثمانية من العلماء والخبراء والمسؤولين يمثلون أركان هذه المؤسسة بطيف جهدها وإنتاجها المتنوع بين الدراسات السياسية والتاريخية والترجمة والفلسفة والدراسات الاجتماعية، وإيماناً بأهمية الديبلوماسية الثقافية كان اهتمام الدكتور الداود ووفده كبيراً باللقاء مع قيادات المؤسسات الثقافية في السلطنة لبحث عقد الشراكات وصياغة المشاريع المشتركة ومد جسور التعاون مع عمان وثقافتها.
في لقاء رائع مع الدكتور الداود ــ وكل لقاءاته رائعة ــ وبصحبة الصديق الشاعر والإعلامي عبدالرزاق الربيعي تدفق محمود علي الداود بالذكريات عن أيام العمل العربي المشترك في ربيعها الزاهر في الخمسينات والستينات، حين كانت أقطار عربية قد تحررت وأقطار أخرى تحاول التحرر من الاستعمار، مستذكراً هنا كيف كان اهتمام العراق كبيراً بمصير الشعوب العربية وهي تواجه الاستعمار، وكيف أن العراق بميزانية بسيطة لا تزيد عن 60 مليون دينار يخصص منها نسبة غير قليلة للثورة الجزائرية، لكن الذي أدهشنا أيضاً في حديثه هو الراهن والمستقبل، وروح العزيمة والتفاؤل التي تدفق بها حول مستقبل العراق رغم كل ما يجري من تجاذبات، ورغم كل الحرائق التي تشتعل في الجوار.
إن حاجة أمتنا العربية الإسلامية في هذه المرحلة الحرجة كبيرة إلى أمثال الدكتور محمود الداود بكل ما لهم من رصيد التجربة الأكاديمية والدبلوماسية والسياسية، فهو وأمثاله من هذا الجيل حكماء عرب تحتاج أمتنا لرأيهم ورؤيتهم وخلاصة تجربتهم وتفاؤلهم وولائهم لقضايا أمتهم ... لو قدّر العرب حكماؤهم!!
لقد كتب الأخ الشاعر الأستاذ عبد الرزاق الربيعي في صفحته عن الدكتور الداود، وأجرى الصديق الصحفي الأستاذ عاصم الشيدي مقابلة مستفيضة معه، وهذا الذي أكتب بعض شكر نقدمه للأستاذ الكبير على نبيل مشاعره التي يحملها لعمان وثقافتها وتاريخها، وبعض شكر على ما أثرانا به من تاريخ ومعرفة وخلاصة تجربة وتفاؤل يوقد به الشموع حين يطفئها الكثيرون، ويمد به الجسور حين يقطعها العديدون.