الأربعاء، 2 نوفمبر 2011

تجديد النهضة و صناعة المسار و مسؤولية البناء .. قراءة في خطاب جلالة السلطان في افتتاح مجلس عمان

نشر بجريدة عمان . الأربعاء 2/ نوفمبر / 2011م

بسم الله الرحمن الرحيم

تجديد النهضة و صناعة التحول و مسؤولية البناء

   اللحظة التاريخية هي لحظة تتجاوز مألوفها ، و هي لحظة حاسمة ، و الكلمات التي ترسم المستقبل تقع في القلوب و العقول لأنها متعلقة بالمصائر، مصائر المجتمعات و الشعوب و الدول ، و القادة التاريخيون هم الذين يدركون الاستحقاقات متى بلغت نصابها ، و أوان صناعة التحول حين وجوبه ، و هم الذين يقودون شعوبهم إلى الرشد و إلى الازدهار و يضعون دولهم على دروب المستقبل.
لقد كان خطاب صاحب الجلالة السلطان المعظم حفظه الله خطاب القيم بامتياز ، و القيم هي أهم ما تتطلبه المرحلة ، حتى يكون بناء المستقبل على الأسس الصلبة و ليس على المتغيرات ، تلك القيم التي تتصل بمرجعية الدين و الهوية و التاريخ الحضاري الذي لا يراد له أن يقف عند حدود الذكريات الغابرة بل يراد له أن يكون خطاً ممتداً و تياراً يمضي في مساره ، و يراد له أن يكون شحنة طاقة للمستقبل و رشد الواقع ، و عمان المستندة دائما على شجرة التاريخ بأعلامها و قادتها التاريخيين و بإنجازاتها و نضالاتها و علمائها و إنتاجها العلمي و الأدبي و استقلالها و انفتاحها و تسامحها ، عمان تحملنا جميعاً اليوم أمانة تجاه وطننا أولاً و تجاه أمتنا و تجاه الإنسانية بأسرها أن يستمر الخط و أن نقدم النموذج .
كان خطاب جلالة السلطان المعظم بتشديده على القيم المتجاوزة لقوالب المكان و الزمان كأنما هو يقول و الدهر يكتب ، إذ تبقى القيم الكبرى هي المعالم الهادية في عالم مضطرب و متداخل ، و يبقى النص عليها و التأسيس لها و الدعوة إليها و توضيحها و التكليف بها و تحميل مسؤلية الدفاع عنها هو ما توخاه الخطاب التاريخي. فتلك القيم هي عتادتنا للمستقبل ولتحدياته التي وصفها الخطاب بــ "الكبيرة " ، و هي كذلك فرصتنا التاريخية التي يجب علينا أن نتشبث بها من أجل عمان و أجيالها و مستقبلها ، و وفاء لحق تاريخها العظيم . و مسؤوليتنا أمام الله و الوطن و القائد و التاريخ أن نستوعبها و نتمثلها ، وأن نكون جزءاً من مادة تحققها على الأرض ، و ترسيخها في التربة العمانية التي تألفها و طالما نبتت و ترعرعت فيها.
* القيم و أدوات التحقق :
هو إذن خطاب القيم بامتياز، و علينا أن نعي أنها ليست قيماً مرسلة تبحث عن أدوات تحققها ، فالأدوات قد سبقتها في الوجود ، و لكن العمانيين جميعاً ، بمؤسساتهم و أفرادهم كانوا يحتاجون إلى شحنة المسؤولية التي تربطهم بالقيم  و تطالبهم بالإمساك بأدواتها ، ذلك لأن الخطاب كان تتويجاً للخطوات التي أبانت عنها المراسيم التي صدرت خلال الشهر الماضي ، و كانت تمثل الخطوات الإجرائية لتحقق تلك القيم و ثباتها في الواقع ، أو وضع المسؤول و المواطن أم مسؤولية تحقيقها بإتاحة الأطر القانونية لهذا التحقق .
و كما هو معلوم فقد نص الخطاب على قيم أراها تتجلى في التالي : على التدرج و التطور الطبيعي في الشورى و ما يرتبط بها من بناء مؤسسي ، و على التوازن و البناء على الهوية الحضارية و الوعي بالمهمة التاريخية لعمان ، و على حرية الرأي و الفكر و الاجتهاد ، و رفض مصادرته واعتباره علامة عافية و قوة للمجتمع ، و رفض الغلو و التطرف ، و إشاعة التسامح و المحبة ، و على مواجهة الفساد و سد الثغرات الموصلة إليه ومحاصرته ، و على مرجعية القضاء و القانون و دعم استقلاليته و وقوف الجميع سواسية أمام العدالة، و على التقييم الشامل خاصة للتعليم الذي هو رهان المستقبل، وعلى المحافظة على المنجز التنموي و رفض الإفساد في الأرض ، و البناء على ما تحقق من بنى أساسية و حق الأجيال القادمة فيها ، و على الاستنهاض للبناء بعزيمة صادقة و جلد مثابر ، و على التمحور على الإنسان في التنمية ، و على إيلاء الاهتمام بالأجيال الشابة من أبناء عمان و بناتها تعليماً و تدريباً و توظيفاً ، و كذلك زيادة تمكينه من المشاركة في البناء الوطني ، و على شكر المخلصين العاملين من أجل عمان في كل مواقع المسؤولية ، و قبل كل شيء و بعده في مستهل الخطاب و في ختامه شكر الله و الاعتماد على توفيقه و هداياته ، فكل جهد إنساني مهما بلغ شأوه معوز إلى المدد الإلهي و التوفيق الرباني و إلى تسديد الله و لطفه .

* مآلات التحقق و لوازم المسؤلية :

ستكون كل هذه المضامين التي شملها الخطاب مادة للوعي و للتحليل التفصيلي لأن الواجب يحتم على الجميع ممن يمتلك الرأي و الرؤية أن يكون جزءاً من الوعي و التحقيق ، و بوسعنا بإطلالة سريعة على ما بثته مضامين الخطاب أن نتيقن بأن الشورى و نهج المشاركة هو مبدأ لا حيدة عنه و أنها جزء من "رؤية مستقبلية" و خطوات مدروسة ،و أنه يسير في تدرجه الطبيعي المساوق للتطور الاجتماعي ، كما أكد الخطاب السامي و كما نص المرسوم 99/2011م في ديباجته التي أكدت أن التعديلات على النظام الأساسي للدولة هي "إيمان بأهمية تطوير مسيرة الشورى في البلاد"، و جميعنا يعي أن المسيرة خطوات ، خطوة سابقة و راهنة و خطوة مستقبلية بعون الله. و إذا كان جلالته ــ حفظه الله ــ يتطلع إلى نقلة نوعية في العمل الوطني يدفع بها مجلس عمان بما أوتي من صلاحيات تشريعية و رقابية فإن المسؤولية الجسيمة ملقاة على عاتق أعضائه اليوم ، و الوطن يرقب و الناس شهود على من اختاروه ليقوم بالواجب و ليكون جزءاً من هذه النقلة النوعية .
نعم بوسعنا أن نرى كيف يمكن لهذا التدفق القيمي الذي فاض من الخطاب أن يمسح عن عمان كل ما قد يكون ران من غبش التصورات و الأوهام و التشبث الأعمى بالرأي من بعض الأطراف ، و أن يجلو عنها ضعف العزائم و أن يشحنها بطاقة البناء ، و كيف ستستلهم المؤسسات هذه المضامين الكبرى لا لتعلقها على جدران المؤسسات فحسب ،بل لتحولها إلى فلسفة عمل و إلى قيم حاكمة على أداء المسؤول و على وعيه بحقيقة المسؤولية ، وكيف أنه بوسعنا أن نرى المسؤول أيضا و قد نزل من برجه العاجي ومخصصاته و ألقابه ليكف عن تشبثه بالرأي الأوحد و لينفتح على الآراء جميعها ، و ليصغي للمتخصصين و ليصيخ لحركة المجتمع و لحاجاته ، و ليشجع باستنارة على تداول الرأي.
نعم بوسعنا أن نرى الأجهزة الرقابية و أولها مجلس الشورى و جهاز الرقابة المالية و الإدارية للدولة كيف ستتحرك "بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون" كما كان الخطاب حاسماً في توجيهه ، لتحاصر الفساد و لتسد عليه المنافذ حتى قبل أن يحدث ، بوضع الأطر الوقائية التي تمنع من ضربه لقيم النزاهة و العدالة و المساواة و تكافؤ الفرص،و إهداره للمقدرات و استئثار القلة بها ،و بإمكاننا أن نرى وسائل الإعلام ، و دوائر الإعلام و العلاقات العامة و قد حدت من التغطيات الخبرية للقاءات المسؤولين و للاحتفالات ، لتشرح للناس كيف يتخذ القرار و ما ضرورات اتخاذه؟  و تكون أداة تفاعلية مع الجماهير تعزز الحقائق و تنفي التكهنات و تكون كما وجه القائد "من أجل فهم الأمور على حقيقتها" .
و بوسعنا أن نرى الجهات المسؤولة عن التقنين و التشريع و على رأسها مجلس عمان بركنيه ، و قد تلقت هذه الدفعة الضخمة من التأصيل و التأكيد على حرية التعبير و تداول الرأي  ، و قد شرعت في مدارسة القوانين المنظمة لأدوات التعبير كقانون المطبوعات و النشر و غيره من القوانين المتصلة بهذا الشأن ، لفحص إن كانت ملائمة لعصر السماوات المفتوحة أم أنها تحمل قيوداً تجاوزها الزمن؟ و بوسعنا أن نرى كل الأجهزة و المؤسسات و قد استلهمت ذلك التوجيه الحاسم بالتأسيس للتقييم المنهجي في أكثر قطاعاتنا حيوية و خطورة و هو التعليم ، فينعقد ــ مثلاً ــ مؤتمر وطني يناقش قضايا التربية و التعليم في كل مستويات التعليم ، و ليكون برهاناً ساطعاً على حرية التعبير،و سقف الحوار المرتفع ، و على مبدأ المشاركة و قيم النقد الذاتي ، و تأكيداً على تداول الرأي بين الجميع خاصة في قضايا التعليم التي تتجاوز التخصصات التربوية و الأكاديمية ، فأمر التربية و التعليم أخطر وأشمل من أن يكون حكراً على تداول التربويين وحدهم في دوائرهم المتخصصة ، فهو هم المجتمع المؤرق و هاجسه الدائم و هو رهان المستقبل ، و هو بكل برامجه و مستوياته محور التنمية البشرية ، و هو خلاص الأجيال من حيرتها ، وممكنها من الإمساك بفرص العمل المنتج و استنارة الوعي ، و معه كذلك الخلاص من الفقر و الجهل ، بالإيمان بالله ، و بالوعي العميق بالوطن، و بالقدرة على الكسب و العمل ، وإننا نجد النص على هذا البعد التربوي متضافراً ليس في التوجيه بالتقييم الشامل فحسب ، بل و في ضرورة ترسيخ قيم السماحة و الأخلاق و الفضائل عبر مؤسسات المجتمع "في البيت و المدرسة و المسجد و النادي" ، و المنظومة التربوية التعليمية بأسرها تحتاج إلى التقييم الشامل كما قال جلالته و لا عذر من تحمل المسؤولية.

* عمان بين الشكر و الدعاء

تنبث كلمات الشكر لله في ثنايا الخطاب ، و معها كلمات الدعاء الخاشع الذي تؤمّن له قلوب العمانيين جميعاً ،  وكلنا يعلم أن المسؤولية التي تفضي إلى التطوير و التغيير لا إنابة فيها و لا تواكل ، فالكل مسؤول و لا عذر، الوزراء الذين أقسموا القسم بالله ، و أعضاء مجلس عمان الذين أقسموا القسم بالله ، أن يستهدف كل منهم مصلحة عمان و شعبها ، و كذلك كل فرد منا يتحمل مسؤوليته أمام الله و الوطن و القائد و التاريخ ، بأن تكون هذه القيم حقائق تمشي على الأرض، و أن نتمسك بما رسخ منها ، و نرسخ ما كان منها يحتاج إلى جهد لترسيخه بجعله منهجاً مؤسسيا ثابتاً كما أكد على ذلك الخطاب، و كلنا نعي أن هذا يستلزم الكثير من الجهد و التضحيات و تغيير التفكير و القناعات ، و الإيمان بإمكانية التغيير و التطوير .
و توفيق الله يحرس المسيرة ، و رعايته جل في علاه تمد بالعون و الهداية ، فالحمد لله الذي وهب عمان ما وهب ماضياً و حاضراً، و الله نسأل أن ينير مستقبلها ، و الحمد لله الذي هيأ لعمان على مدى تاريخها و حاضرها قادة أفذاذاً يحملون الأمانة و يعون رسالتها التاريخية ، و يحنون على الشعب و ينحازون إليه ، و يدفعون عنها الأخطار بالحكمة و الرشد و بالقرار الحاسم في ساعة الحسم . حفظ الله عمان و قائدها و شعبها.