الأربعاء، 4 ديسمبر 2013

"عمان لغز" !!! .. لو غيرك قالها!!!

جريدة الرؤية، 2 صفر 1435هـ/5 ديسمبر 2-13م

يتداول العمانيون عبر وسائل التواصل الاجتماعي هذه الأيام مقطع فيديو للمحلل السياسي الدكتور عبدالله فهد النفيسي يتحدث فيه عن التطورات السياسية الراهنة، وما وصلت إليه الأمور من اتفاق تاريخي بين الولايات المتحدة وإيران، واصفاً خلالها عمان بأنها "لغز" وأنها كانت المطبخ الذي أعد فيه هذا الاتفاق، ومقدما في تحليله كتلة متناقضات لقراءة تاريخية للعلاقة بين عمان وإيران، ومسوغاً كل ما جرى بخلفية علاقة مذهبية ابتكرها ليجعلها ضمن طرحه الجديد الذي يلح عليه؛ وعلى كل حال فإن المشاهدة تغني عن الوصف فالمقطع متداول ومعه ترتسم علامات الاستفهام والدهشة بل والصدمة على الوجوه العمانية وهي ترى محللا ومفكراً عربياً خليجياً له مقامه يصنف عمان وفق منطق غريب بأنها "لغز" و"ثغرة" محتملة، ولسان حالهم يقول: لو غيرك قالها!!
إن ما قدمه الدكتور النفيسي هو صورة لخلل خطاب المثقفين العرب المأزوم، فالمثقف العربي الذي لم ينجح إلى الآن في قراءة وتحليل الواقع العربي وما أفضى إليه من "ربيع" أو "خريف"، ولا استطاع أن يتنبأ بمآلاته بعد أن فشل في توعية الجماهير كما يجب، صار حظه من رسالته أن يحرض الفرد العربي لكي لا يكون جزءاً من القطيع إلا قطيع الطائفية سياسية كانت أم مذهبية! ولكنه في ذات الوقت يطالب دولاً بأسرها أن تفكر بعقلية القطيع في سياستها الخارجية! إنها لمفارقة!
نعم لو أن متحدثاً من مرتادي مواقع التواصل الاجتماعي، أو أحد الأغرار المتقولين أطلق عبارات جزافية لا يدرك أبعادها لما تكلف أحد الرد عليه، ولكان مصيره التجاهل أمام الروح العمانية التي نريدها أن تربأ بنفسها عن القيل والقال، لكن أن يأتي أحد صناع الرأي الذين تثق جماهير من الناس في الخليج بمقولاته ليطلق حزمة تناقضات، لا يسائله عنها أحد ولا يفندها رأي، فإن الأمر لا يجوز أن يبقى بلا رد، لأن الحق لابد أن تذود عنه "يد فراسة وفم" كما يقول المتنبي! أما السياسة العمانية بأطرها الرسمية فقد اعتادت أن لا تولج نفسها في مواضع الجدل الكلامي الإعلامي، وهذا أمر يحترمه العمانيون ويدركون آثاره الخيرة في هذه البيئة العربية التي تستنزف طاقتها في الحروب الكلامية بين بنيها، لكن مسؤولية البيان تقع على  عاتق الكتاب العمانيين، فلا يسعهم الصمت أمام هجمة إعلامية بدأت بوادرها، ونرجو أن لا تستمر حلقاتها، فقد سئمنا عدم رغبة بعض إخواننا في الخليج في فهم منطلقات الخطاب العماني سواء الرسمي منه أو الشعبي، وتفسير عدم التفهم أو الفهم هذا بــ "العزلة" التي تأتي لتمزج الاستنكار بالإعجاب بالنموذج العماني في التعامل مع ضجيج وجعجعة ساحات الكلام العربية، ثم ها هو ينضاف إلى وصف "العزلة" وصف "اللغز" من قبل الدكتور النفيسي، والمدهش أكثر أن يأتي ذلك من محلل يفترض به القدرة على فك شفرات وألغاز السياسة العربية، لكن مثقفينا العرب فقدوا المفاتيح على ما يبدو، وهم يقفون حائرين حتى أمام الأبواب المفتوحةً أصلاً! أو لربما كانوا هم الأبواب الموصدة دون فهم الجماهير للحقائق!
نعم لو أن غير الدكتور النفيسي قالها لما تكلف أحد الرد عليه، ولقلنا إنه حديث من جاهل بالحقائق أو متجاهل لها، لكن الدكتور النفيسي مختص بالشأن السياسي الخليجي ويكاد أن يكون مختصاً بالشأن العماني، ورأى ــ في كتابه الأول ــ كيف بدأ العمانيون في وضع قواعد تنميتهم بموارد كانت "متواضعة" حينها لكنها كرست لخدمة الإنسان من ناحية، ولصد هجمة شيوعية شرسة كانت تستهدف الخليج بأسره كما عبرت عنه عناوينها المعلنة من ناحية أخرى.
إن مقولة الدكتور النفيسي كانت مغموسةً بلغة طائفية أصبحت عالية جداً في تحليلاته الأخيرة، وهي في تحليله للشأن العماني تريد أن تعبر من خلال تأصيل تاريخي مغلوط تماماً متجاهلة أبسط حقائق التاريخ وأسطع شواهد الواقع؛ لقد تجاهل الدكتور النفيسي في تحليله لتاريخ العلاقة مع إيران حقائق التاريخ منذ مالك بن فهم ومعركة سلوت وحتى أحمد بن سعيد ومعارك صحار! تجاهل كيف خاضت عمان حرب المقاومة ضد الغزو الفارسي حتى استشهاد الإمام سلطان بن مرشد اليعربي عام 1156هـ/1743م، وتجاهل كيف خاضت ضد الجيوش الفارسية ذاتها حرب التحرير الباسلة بقيادة الإمام أحمد بن سعيد البوسعيدي الذي صمد صموداً أسطوريا في حصار الأشهر التسعة في صحار، وذاد عن الوطن العماني حتى تمكن من المضي في مشروع التحرير وإنهاء الوجود الفارسي في عمان، بل ولاحق هذا الوجود الفارسي في الخليج ليتمكن من فك الحصار الفارسي عن البصرة في عام 1170هـ/1756م بأسطول من مائة سفينة وعشرة آلاف مقاتل؛ إن عمان وهي تتعامل مع الجوار تعي جيدا قدر الجغرافيا ودروس التاريخ، وتقدر لكل مرحلة ما يناسبها، وهذه الحالة من الثبات والاستقرار في السياسات ناتج عن وعي حصيف بتبعات الجغرافيا وبخلاصات التاريخ، فعلام المزايدات بالحرص على أمن الخليج؟!
ذلك حديث التاريخ البعيد فما حديث التاريخ القريب الذي هو أدنى للواقع، ولماذا يتجاهل الدكتور النفيسي وغيره أن عمان في حرب السنوات العشر(1965-1975م) كانت لا تدفع عن نفسها فحسب بل وتدافع عن الخليج بأسره حين كانت عمان ساحة المواجهة أمام المد الشيوعي إلى الخليج، فالشيوعية يومها مباشرة أو عبر وكلائها كانت تدير معركة شعارها "تحرير الخليج العربي المحتل"، ودفعت عمان من دمائها ومن جهودها ما لم يتحمله غيرها، ودفعت من تنميتها خمس سنوات كاملة بعد أن انطلقت نهضتها الحديثة عام 1970م، وحينها كان من دول الخليج من أعان، ومن وقف وقفة المتفرج؛ كيف يتجاهل الدكتور النفيسي ذلك وهو المختص في هذا الشأن والعالم بكل تفاصيله حين ألف أول كتبه "تثمين الصراع في ظفار" في هذه القضية بالذات؟!
هل نسي الدكتور النفيسي أم تناسى أن عمان هي التي تبنت وخططت لفكرة الجيش الخليجي الموحد في أعقاب حرب الخليج وتحرير الكويت 1991م، ليكون للخليج قوته العسكرية الضاربة الرادعة في وجه تهديدات الجوار الإقليمي، وليكون في مأمن من ضغوط قوى الحماية الدولية، أفلا يتذكر الدكتور النفيسي أن الذي أجهض المشروع وقلص الآمال به هو تردد الأشقاء الخليجيين وحساباتهم القطرية وتفضيلهم التحالفات الدولية على القوة المستقلة، أفلو بني هذا الجيش من يومها ألن يكون سياجاً يحمي الخليج بدلاً من تسييج الحدود بالخطاب الطائفي الذي يُحرق الداخل قبل أن يستهدف من الخارج!؟
كل المتابعين لتحليلات الدكتور النفيسي ممن كانوا يحترمون خطابه يهولهم المنزع الطائفي الذي أصبح يسيطر على رؤاه السياسية، لكن ما قاله في حديثه الأخير لم يكن طائفياً فحسب، بل كان مع ذلك إعادة إنتاج وتركيب لتاريخ المذاهب الإسلامية، وقلب لحقائق التاريخ لتمرير السيناريو الوهمي الذي بناه في أن عمان يمكن أن تكون "ثغرة" في الجدار الخليجي! وهو ما جعل مقدم البرنامج ذاته مرتبكا أمام مفاجأة الخلط هذه، ثم صمت كالمشدوه أمام إصرار الدكتور النفيسي على نسخته الخاصة من تاريخ المدارس الإسلامية، لا حاجة هنا للتذكير بالنسخة الأصل السليمة من هذا التاريخ غير المعطوبة بهوى الطائفية، لكن التناقض يوقف المرء على مفارقة مدهشة، فالهوى المذهبي صنف الإباضية ردحاً طويلاً من الزمن ضمن "الخوارج"، إلا أن تسامح هؤلاء الإباضية وعدالتهم وانفتاحهم على إخوانهم المسلمين لم يعد ينسجم مع زعم "الخارجية" هذا، إذن فليتحرك هذا الهوى 180 درجة ليضعهم الآن على النقيض ضمن مدارس "الشيعة"! إن الهوى الطائفي حاد التقلب جدا إلى حد التحول من النقيض إلى النقيض! مع تقديرنا لكل المدارس الإسلامية.
ومثل ذلك أيضا الزج بــ "خصب" لتكون الجسر الذي خرق الحصار على إيران، وسمح بمرور التموين والبضائع من دبي ورأس الخيمة لملايين الإيرانيين على ضفة الخليج الأخرى، فهذه الدعوى هي الأخرى من المدهشات التي تشي بأن الدكتور النفيسي وضع سيناريو خيالياً فنتازياً، وأنه لم يزر المنطقة منذ زمان طويل ليدرك من أين وإلى أين تتردد السفن الإيرانية، وهذا السيناريو الشاطح في خياليته الأجدر من الرد عليه أن يحال لبعض متخصصي السينما ليشرح لنا كيف أن شطحاته فوق احتمال الخيال السينمائي ذاته الذي ينبغي أن يتصل بالواقع ولو بخيوط واهية، لا أن يكون خياله فوق احتمال الوعي البشري.
الوعي الفكري المضروب في بلاد العرب أصبح لا يقبل إلا مسعري الحروب وموقدي الفتن ومحترفي فتاوى القتل الطائفي والذبح على الهوية، وهو لم يعد قادراً على فهم صناع السلام ودعاة التسامح ومحترفي التعايش ومطفئي الحرائق، ولذا فإنه لا يريد أن يفهم نماذج التسامح والتعايش كعمان، كما تنكب فهم نماذج العدالة في تاريخه منذ نهاية الخلافة الراشدة، ولعل عمان أصبحت "لغزا" بسبب ذلك، لأن المفاهيم انقلبت لتصبح نماذج التعايش لغزا تحتاج لـ "مجهر" الدكتور النفيسي، ولذلك أيضاً أصبح تسهيل السلام دوراً "خطيرا" في عرف الدكتور النفيسي، أما نحن فلعل "عزلتنا" المزعومة حصنت وعينا من أن تغتاله الكراهية، وفتحت عقولنا على أن هناك خيارات أخرى للبشرية أجدى وأنفع من معاناة حرب والاستعداد لأخرى، وأن الفضاء مفتوح انفتاح بحر العرب والمحيط من بعده لمد الجسور وصناعة التواصل الحضاري، ونشر رسالة الإسلام والسلام، ذلك الذي أتقنه العمانيون كما أتقنوا الذود عن حياض الخليج.
اللهم بارك لنا في "عزلتنا" المزعومة إن كانت ستجلب لنا ولإخواننا خيراً وستدفع عنهم ضراً، وأبق ألفتنا وتعايشنا الواضح "لغزاً" محصنا منيعا نعرف سر صناعته بتوفيقك، ونعلّم غيرنا لو أحب أن يصنع ألفة وتعايشاً مثله، واطمس "مجاهر" من أراد أن يفحص عماننا إلا ناظراً ينظر بخير.