الأربعاء، 25 يونيو 2014

أيها القطاع الخاص،، لا يزال الانطباع كما هو!!

أيها القطاع الخاص،، لا يزال الانطباع كما هو!!
نشر بمجلة أثير الإلكترونية

  كل قضية اليوم قابلة لأن تكون قضية رأي عام ومثار جدل ليس لأن وسائل التواصل الاجتماعي التقنية حولت المعلومة إلى حالة غازيّة فحسب، بل لأن كل هذه التغييرات أنتجت تحولات عميقة في الذهنية، تنعكس في نوعية ردود الأفعال والتعاطي مع القضايا العامة، وليس من سبيل إلى إعادة هذه التحولات إلى الوراء أو تغيير وجهتها، والتعاطي معها لابد أن يكون بمنطق التقبل والتوقع والتكيف؛ وكل قرار اليوم مهما كان يعتقد أنه تفصيلي اقتصادي قد يتحول فجأة إلى قرار سياسي له آثاره وتبعاته الاجتماعية، كل هذه الحقائق أكدتها حالة التلقي الجماهيري لعدد من قضايا الرأي العام وآخرها القرار الأخير لمجلس الوزراء حول قائمة السلع المشمولة بتثبيت الأسعار.

وبوسعنا هنا أن نرى أن أي حدث يبقى بلا تفسير أو شرح أو تمهيد سيكون عرضة لعشرات التفسيرات الجاهزة لتحليله وتوجيهه، وبوسعنا أن نقول أيضاً إن المواطنين الذين كانوا يرقبون توجس التجار وغرفتهم من أداء هيئة حماية المستهلك كانوا مستعدين للدفاع عن نفوذ هيئة حكومية انحازت لمصالحهم، ودافعت عن صحتهم وعن سلامة أقواتهم، وعن حقوقهم وأموالهم أمام تذمر التجار المعلن وغير المعلن من أداء هذه الهيئة الحكومية التي اعتبرت مثالاً عربياً على النجاح والاحترافية وارتفاع الأداء، وهذا الاستعداد لردة فعل كالتي رأينا ناتج فضلاً عن التوجه الطبيعي للحفاظ على نوعية المعيشة وتحسينها ناتج أيضاً عن أن المواطن لم يلمس من شريحة التجار وعموم القطاع الخاص ما يدفعه إلى تفهم مخاوفهم أو تعديل الانطباعات السلبية عنهم؛ وكلنا نذكر هنا خطاب جلالة السلطان المعظم في مجلس عمان عام 2012م حين توجه في فقرة مطولة منه إلى القطاع الخاص بشكل واضح بأن المسؤولية تقع عليه في إزالة ذلك الانطباع لدى المواطنين بأن القطاع الخاص "يعتمد على ما تقدمه الدولة، وأنه لا يسهم بدور فاعل في خدمة المجتمع ودعم مؤسساته وبرامجه الاجتماعية، وأنه لا يهدف إلا إلى الربح فقط، ولا يحاول أن يرقى إلى مستوى من العمل الجاد يخدم به مجتمعه وبيئته ووطنه" وهو شعور وانطباع نبه جلالة السلطان إلى خطورة آثاره على القطاع الخاص ذاته وعلى خطط التنمية؛ ومن الواضح تماماً أن القطاع الخاص قد فشل في إزالة ذلك الانطباع أو التخفيف منه، بدليل أن الرأي العام انحاز فوراً إلى تعزيز نفوذ الهيئة الحكومية التي أوكل إليها جانب مهم من تنظيم الأسواق وضبط العلاقة بين التاجر والمستهلك، ورأى في تقليص عدد السلع المشرفة على أسعارها خدمة لمصالح التجار وتعزيزاً لأرباحهم، ولم يأبه إلى ما قد يرتبط بذلك ــ على المدى البعيد ــ من قدرة القطاع الخاص على التنافسية، أو تعزيز قدرته على التوظيف، أو خدمة المجتمع، أو تحرير الأسواق، وضيق السوق المحلي أو غير ذلك من المفاهيم التي لم يفلح القطاع الخاص في إيصالها للمجتمع أو الإقناع بها، لأن إيصالها يقوم على فكرة الشراكة وتعميم الفائدة وتوزيع آثار الثروة، وليس على تكريس فكرة وانطباع قائم على تحقيق الربحية بأي ثمن، وباختصار لقد تكرس شعور متعاظم بانفصال القطاع الخاص عن المجتمع، ولم يبذل أي جهد ذي بال في تبديد هذا الشعور الذي في ظل وجوده لن يرى أحد أن الفائدة التي تصل إلى القطاع الخاص ستصل إليه، وهو شعور غير موهوم بل ينبني على حقيقة أن كبريات الشركات ليس لها برنامج اجتماعي واحد، ومن كانت لها برنامج كهذا فقد قلصته!، بينما استطاعت الهيئة أن تساعد على استقرار الأسعار خلال المرحلة الماضية، بدليل أنها في دراسة لها وجدت أنه من أصل 90 سلعة فإن 66 منها أرخص في السلطنة من أربع دول خليجية أخرى!

ويمكننا أيضاً أن نعرف في مساحة غير قليلة من المواطنين وعيهم بالخيارات الصعبة التي قد تجد الحكومة نفسها أمامها أحياناً خاصة مع ارتفاع وتيرة الانفاق والمضي في خطط التوظيف، والوصول إلى حد التشبع في بعض القطاعات ما يعني أن على الحكومة أن توجد حالة من التوازن مع المشغل المعول عليه للأيدي العاملة الوطنية خلال السنوات القادمة وهو القطاع الخاص، وتمكينه من القدرة على المنافسة المحلية والإقليمية وتحقيق الربحية لتبرير فرض برامج التوظيف الحكومية عليه، ودفعه إلى توسيع استثماراته واستبقاء رأس المال ــ الجبان بطبيعته ــ في أحضان الوطن، كل هذا نزعم أن المواطن المهتم بالأمر قادر على تفهمه، لكن ضمن أولويات وسياقات معينة تقوم على التوازن والشراكة؛ إن هذا لا يعني أن القرار غير عائد إلى الحكومة أو مجلس الوزراء، ولكنه يعني أن هناك جهات تجارية ضاغطة استمرت في الضغط طوال ثلاث سنوات، ولم تواجه الرأي العام أو تتحدث إلى ممثليه في مجلس الشورى، نعم إن القرار يعود للحكومة باعتبارها ملاذ الجميع وممسكة رمانة الميزان بين هذه الأطراف جميعها، ولذا فسر الجميع القرار ــ الذي لم يمهد له ــ على أنه تنازل أمام ضغوط التجار وحساباتهم، ولكن القطاع الخاص لم يبذل جهداً يذكر منذ خطاب مجلس عمان 2012 للتأكيد أنه من المجتمع وأن كل فائدة له ستعود على المجتمع بالنفع، مع استثناءات نحترمها ونقدرها لعدد من المؤسسات التي اعتنت بهذا الجانب واعتبرته جزءاً من مسؤوليتها الوطنية.

ولنشر هنا إلى نقاط مهمة للغاية خاصة فيما يتعلق بالشراكة، ذلك لأن القرار لو أنتج على هذا الأساس من الشراكة لما خرج على هذه الكيفية ولما كانت ردود الأفعال متأزمة بهذا القدر، فقد كان هناك توجه واضح منذ منتصف العام الماضي إلى بناء فلسفة "الشراكة الاجتماعية" في التخطيط الحكومي، وانعقدت وفق ذلك ندوة "الشراكة الاجتماعية" من قبل المجلس الأعلى للتخطيط لتمهد للشروع في بناء الرؤية المستقبلية القادمة 2040 بل ولتعتني بما تبقى من سنوات الرؤية 2020، وقد توج ذلك بتوجيهات جلالة السلطان عند الأمر بتكوين اللجنة الرئيسية لإعداد الرؤية 2040 في 29 ديسمبر2013، بأن تبنى هذه الرؤية "في ضوء توافق مجتمعي واسع، وبمشاركة فئات المجتمع المختلفة"، وفلسفة الشراكة الاجتماعية والتوافق المجتمعي هذه هي التي ستجنبنا أي هزات محتملة، أو ردود أفعال غير متوقعة، وعلى ذلك فماذا لو أن هذا القرار تم تدارسه ضمن هذا الإطار مع مجلسي الشورى والدولة مثلاً، واتجهت غرفة التجارة والصناعة إلى مجلس الشورى ليتم الاتفاق على صيغة تضمن سلامة حقوق المستهلكين واستقرار الأسواق واتزان العلاقة بين التاجر والمستهلك؟ ماذا لو دفعنا بآليات العمل الوطني لأن تنتج بنفسها هذه الصيغ، حتى لا يجد البعض في ذلك خدمة لطرف على صالح طرف آخر.

ثم إن المواطنين يتابعون بدقة كل ما يتعلق بمعايشهم خاصة وذلك أمر طبيعي، وأستطيع الجزم أن المسـألة الاقتصادية هي هاجس الجميع، وبقدر ما يستبشر المواطن اليوم بالمشاريع الكبرى التي هي عتبات الدخول إلى عصر التصنيع كمشروع مصنع الحافلات مثلاً، أومصنع الذخائر الخفيفة، أو خزانات رأس مركز، أوتزايد الاهتمام العالمي بمنطقة الدقم الاقتصادية وغيرها، سواء منها ما هو في طور التتحقق، أو ما كان في طور التخطيط كلها نقاط يستبشر بها المواطن ويدرك أنها تسعى لوضع السلطنة في مركز مرموق في الاقتصاد العالمي؛ لكن المواطن يرى في المقابل أيضاً أولويات تتراجع وتؤجل، وهي أولى بتركيز الجهد الوطني من قضايا كثيرة، ومن أهمها مثلاً إطلاق برنامج وطني لمكافحة التجارة المستترة، وتخفيف نزيف مليارات الريالات سنوياً إلى خارج السلطنة، ودفع القطاع الخاص لإظهار مزيد من التقدير للعقول الوطنية في مراتبه الإدارية العليا؛ إذ يلاحظون بامتعاض شديد تلكؤ كبريات الشركات في تعمين الوظائف العليا والوسطى، حيث لا تتجاوز نسبة مديري الإدارة العمانيين 41%، بينما يتم التركيز على الوظائف الدنيا والوسطى لإرضاء برامج التعمين، حسب ما نشره المركز الوطني للإحصاء؛ كما يلاحظون كذلك تلكؤ رأس المال الوطني في الدخول في شراكات استراتيجية مع الحكومة أو بدونها تتعلق بالتصنيع والاستثمارات ذات المخاطرة، ويرون حضور شركاء خليجيين أحياناً ودوليين مع غياب الشريك المحلي، ويلاحظون أيضاً كيف لا تزال كبريات المؤسسات الرأسمالية في السلطنة تتحرك في حيز التجارة والخدمات حيث العائد المريح، ويتساءلون تساؤلاً مشروعاً عن أسباب بقاء أسعار بعض السلع مرتفعة جداً وبلا مبرر، كالسيارات وقطع الغيار التي يتفق الجميع على أن أسعارها غير طبيعية!!، كل هذه الحيثيات الرئيسية منها والتفصيلية يجدها المواطن العادي أمامه اليوم ومعها توقعاته وهواجسه، وهي تشكل نظرته للأمور وتكوّن توجهاته وردات فعله تجاه الأحداث لأنه يتوقع من الحكومة سياسات بعينها تجاهها، ولا يخفى أن حالة الانكشاف هذه من ناحية وتداخل التأثيرات وصياغة المقارنات من ناحية أخرى تعيد توجيه ردات الفعل بمختلف صورها إلى حيث لا نتوقع أحياناً.

يوقن الكثيرون أن قصة نجاح جديدة لابد أن تنطلق مرة أخرى في عمان، وقصص النجاح الاقتصادي لا يمكن أن تحدث إلا بمشاركة قطاع خاص واع وبعيد النظرة، مؤمن بأن تأجيل الربح الضخم السريع لصالح إرساء نظام اقتصادي ومالي سليم هو الخيار الأجدى، وأنه هو الذي سيعود بالنفع مضاعفاً على الجميع، وأنه لا سبيل إلى قصة نجاح كبرى عبر نظام اقتصادي مشوه قائم على الجشع والاستغلال، وأن ردم الهوة وتعزيز الثقة بين أركان الاقتصاد الوطني أمر لا بديل عنه إذا أريد لقصة النجاح الكبرى أن تنطلق، خاصة وأن لدينا كل مقوماتها وعوامل تكونها، ولا بديل في ذلك إلا بتعزيز الثقة والشراكة الاجتماعية وبذل جهود حقيقية على الأرض لتبديد التصورات السلبية.

الثلاثاء، 3 يونيو 2014

عطب المنهج وانتهازية القراءة .. تعليق على مقال نش بمجلة أثير الإلكترونية

عطب المنهج وانتهازية القراءة
تعليق على مقال: "قراءة في دراسات استشراقية حول المذهب الإباضي"
محمد بن سعيد الحجري
كاتب وباحث

   نشرت مجلة أثير الإلكترونية قبل أيام مقالاً للكاتب سعود الزدجالي قدم فيه قراءة لبعض كتب السلسلة المعنونة بــ: "دراسات استشراقية حول المذهب الإباضي"، فكانت قراءته قراءةً انتقائية لآراء المستشرق البولندي "تاديوش ليفتسكي" حول الإباضية، مخصصاً فقرات المقال لقضاياً منها ما هو متصل بآراء ليفتسكي وغيره من المستشرقين، ومنها ما هو متصل بنشر هذه الآراء؛ ويمكننا مناقشة وتفنيد تلك المقولات التي أوردها مقاله ــ مضموناً ومنهجاً ــ بسهولة لو كان المقام يتسع للتفصيل، غير أننا سنتوقف أمام فقرة نرى أنها هي الأولى بالنظر والتعليق من غيرها، نظراً لأنها تحوي خلاصة لرأي سعود الزدجالي واستنتاجاته، ولأنها كذلك مشبعة بخلل المنهج، ولما احتوته من أحكام ومزاعم قُصد منها أن تنشئ معنىً وتصوراً محدداً يريد الكاتب تمريره وإيصاله، وفي هذه الفقرة ينص قائلاً:

"وقد لوحظ على المسلمين الإباضية الأمازيغ الإيمان بكثير من الوثنيات، والعرافة، والنبوة المزعومة، وعبادة الشمس والقمر، والأوثان كما لاحظ ابن خلدون؛ فالأمازيغي مهما كانت انتماءاته المذهبية؛ فإنه لا يمكنه التخلي أو التنكر للأعراف والمعتقدات الدينية؛ وإذا كان شيء من هذه المعتقدات يتناقض مع التوحيد؛ فإنه لا بأس من إخفائها؛ لذلك فلا يستبعد أن تكون بعض الأساطير والقصص، وحكايات من قبيل حديث أوثان مازن بن غضوبة، وكرامات الأولياء، والشخصيات التي تولت الإمامة في عمان قد حيكت في فترة لاحقة تأثرا بكتابات الشماخي وغيره من إباضية الأمازيغ؛ لذلك فإن هذه القضايا تعد مادة خصبة للدراسة والتمحيص"

وفحوى هذه العبارة واضح لا يحتاج لتأويل، خلاصته أن بعض الإباضية يؤمنون بعقائد وثنية رغم وجود عقيدة التوحيد، وأن من أشكال هذه الممارسات الوثنية: عبادة الأوثان، والشمس والقمر، والعرافة، وادعاء النبوة، وأن هذه العقائد والممارسات يتم إخفاؤها إذا لزمت الحاجة؛ ولتأكيد قناعة الكاتب بهذا الزعم فقد رأى عدم استبعاد انتقال تأثير هذه المعتقدات الوثنية من إباضية المغرب إلى إباضية المشرق في عمان فظهرت مظاهر أخرى منها: كرامات الأولياء والأئمة العمانيين، والقصص الأسطورية، وقصة أوثان مازن بن غضوبة! إذن فلكل من مشارقة الإباضية ومغاربتهم نصيبهم من هذه العقائد والممارسات!!

وهذا المقطع من المقال المذكور الذي أوردته كاملاً هو نقطة الارتكاز التي يريد الكاتب الوصول إليها، وهو خلاصة ما أراد أن يقرره حول هذه القضية؛ ولمن قد يناقشنا بأن إيراده هو اقتطاع من سياق أو انتقاء لعبارة، نقول: بأنه خلافاً لما صُدِّر به مقاله بأن ما يرد فيه هو نقل من آراء المستشرقين الواردة في السلسلة، فإن هذه الفقرة بالذات ليست اقتباساً نصياً من آراء المستشرقين، وليست نقلاً من كتبهم، وليست تحليلاً لمقولاتهم الواردة في ثنايا المقال، ولكن هذه العبارة تملك استقلالية خاصة بها وتنشئ معنى جديداً، وتعبر عن رأي قائلها وتصوره تجاه الإباضية، بغض النظر عن مستنده في هذا الرأي، فالتلقي غير النقدي لآراء المستشرقين وقبول مقولاتهم دونما تمحيص هو خطأً مضاعف وليس عذراً لقائله، بل إنه هنا توظيفٌ لتلك الآراء وليس تحليلاً لها، هذا مع تأكيدنا أن العبارة الواردة تنشيء معنى مستقلاً ولا يقتبسها عن غيره.

لا أجد كلمة واحدة تَجَنَّينا فيها على الكاتب مع إصراره على ما ورد في هذه العبارة، وعدم وضعه أي مسافة تفصل رأيه عن المعاني التي قررها فيها؛ ولست هنا في معرض الرد والنقاش لهذه الترّهات، لأنه لا قيمة لها أصلاً، ولا تستند لأي مستند علمي يُحَلل ويُنَاقش ويُفَند بأدوات التمحيص العلمي، فذاك مقام علمي لم تصل إليه ولم تقترب منه، ولكننا نعلق عليها من جهة ونشير إلى عُوارها المنهجي من جهة أخرى.

فنقول هنا: إن الصبح لا يحتاج إلى دليل والشمس لا تحجبها الأكف، فالإباضية مذهب من مذاهب الإسلام القائمة على التنزيه المطلق لله ورفض الأشباه والأنداد، ولهم في ذلك نصوصهم الرئيسية الشارحة لمعتقدهم، ويستوي في ذلك مغاربتهم ومشارقتهم، ومن أراد الحقائق عاد إلى الأصول لا إلى سواها، والواقع تاريخاً وحاضراً شاهد على التمسك بلوازم معتقد التنزيه في التصورات الإيمانية، وتاريخهم كان رحلة دائبة من السعي إلى الحق والعدل، ورفض تقديس الأشخاص أحياءً وأمواتاً؛ ويكفي مثلاً مشهوداً أن تجدهم في الواقع مطبِّقين صارمين لحديث الرسول صلى الله عليه وسلم في شأن القبور: "خير القبور ما درس"، وأجيالهم المتعاقبة لم تكن تعرف أين تقع قبور أئمتهم فضلاً عن تقديسها والتقرب إليها.

وإنه لمن العجب العجاب أن كاتب المقال حين طولِب عبر صفحته في "الفيس بوك" بأن يقيم الحجة على مزاعمه من كتب الإباضية أنفسهم، رفض ذلك قائلاً: إنه أمر لا يلزمه! بينما طالَب هو في المقابل من ينفون ذلك بإقامة الدليل على النفي! وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على تقصد وإصرار، لا على حرص على الحقيقة وبحث عنها وتحر لها، فكيف يطالب من ينفي بدليلٍ على نفيه والأصل أنّ البينة على من ادعى؟! كيف والأصل براءة الذمة من الدعوى إلا بإقامة الحجة كما هي الأصول!

ومن الأدلة على هذا التقصد والترصد خلطه الفادح بين العقائد والممارسات الوثنية التي حكى ممارسة بعض الإباضية لها حسب زعمه، وبين مسألة كرامات الأولياء التي رأى أن وجودها في التراث الإباضي المشرقي العماني دليل على تأثير تلك العقائد الوثنية القادمة من المغرب!! والسؤال هنا هل ثمة مذهب أو مدرسة أو شعب من المسلمين يخلو تراثه المعرفي والاجتماعي من فكرة الكرامات؟! إن كل مذاهب الأمة وشعوبها بلا استثناء لديها إيمان بكرامات الأولياء، وهو موجود لديها تنظيراً وواقعاً، حتى مع المدرسة الأثرية صاحبة التأويل الحرفي لنصوص القرآن والسنة سواءً الأقدمون منهم والمحدثون!! فهل هذا الحضور للكرامات ناتج عن تأثيرات وثنية قادمة من هنا أو هناك؟؟!! ثم ما الرابط الذي يربط بين كرامات الأولياء وبين الممارسات الوثنية؟ وعلامَ هذا التعمد للخلط بين ما يتفق المسلمون على رفضه وبين ما هو موجود واقعاً عند طوائف الأمة جميعاً؟ أم أن كرامات الأولياء أخذت بعداً وثنياً لمجرد أنها موجودة عند الإباضية؟!

ومن الأدلة على تعمد الخلط وتقصد التشويه جعله من قصة أوثان الصحابي مازن بن غضوبة دليلاً على أثر الوثنية في التراث الإباضي المشرقي!! بينما هي في الحقيقة تجسيد لرفض الوثنية ولسقوط عقائدها بمبعث النبي صلى الله عليه وسلم وإسلام أهل عمان الطوعي.

ومن الأدلة على حالة الترصد غير الموضوعي والانتهازية أن كاتب المقال احتفى بدراسة للمستشرق "موتيلينسكي" قائلاً: إنها أهم دراسة تبيح تتبع العادات الوثنية والخرافة، ومن ثم كانت مستنداً له في استنتاجه قبول الإباضية الأمازيغ بالعقائد والممارسات الوثنية؛ على حين أن "موتيلينسكي" لم يقتصر في حديثه على الأمازيغ الإباضية، بل تحدث ــ حسب رؤيته الأسطورية التي نرفضها ــ عن موقف الأمازيغ عموماً تجاه العقائد الوثنية سواء كانوا إباضية أم غير إباضية (تحدث عن الأمازيغ غير الإباضية في ذات الدراسة، انظر سلسلة دراسات استشراقية في المذهب الإباضي ج3، ص99، 108، 110، 111، 113، 115، 119، 120، 121، 123، 127، 128، 132) لكننا نجد الكاتب يركز حديثه على الإباضية دون سواهم ممن أوردهم "موتيلينسكي"!؛ ويواصل الكاتب حالة الترصد والخلط بزَجّه باسم "ابن خلدون" للرفع من قيمة العبارة التي أوردها، وللإيهام بأن "ابن خلدون" يؤيد هذا الاستنتاج الذي توصل هو إليه، بينما يجد المطلع على دراسة "موتيلينسكي" إلحاحه الشديد على معارضة آراء ابن خلدون وبعض المؤرخين المسلمين الذين أكدوا نهاية الوثنية عند الأمازيغ في مرحلة مبكرة عام 101هـ/719-720م، بل يكاد "موتيلنيسكي" يصرح بأن دراسته جاءت لإثبات خطأ ابن خلدون وغيره في نفيهم لوجود الوثنية (انظر دراسة موتيلينسكي في المرجع السابق، ص98، 99، 102، 106، 131) فعلام الزج باسم "ابن خلدون" وكلامه لا يدعم هذا الادعاء؟؟!!

إن قراءة الكاتب لهذه الدراسة بالذات تؤكد المشكلة المنهجية التي يعانيها في قراءته غير النقدية وشبه الاحتفائية؛ والمحصلة التي ننبه إليها هنا أن المشكلة لا تكمن في وجود أو معرفة الآراء الاستشراقية تجاه المسلمين، إذ علينا أن نعرف كيف يرانا الآخر وسنجد حتماً ما يوافق الحقيقة وما ينافيها، ولكن المشكلة تكمن في أدوات قراءتها وتحليلها والاستفادة منها من قِبَلنا دون عُقد الانحيازات المذهبية، وفي ضرورة فهم زاوية النظر والرؤية الاستشراقية المبنية على المنهج الأنثروبولوجي، والتي كثيراً ما تجنح إلى الغرائبية والتفسير الأسطوري للواقع (التفسير الميثلوجي) وهو ما كان حاضراً بقوة في دراسة "موتيلينسكي" التي احتفى بها كاتب المقال دون تبصّر وتمحيص؛ إن النظرة الاستشراقية توصلت حيناً إلى أن شعائر الحج هي بقايا من تأثيرات الوثنية! فهل سنسلم لهم بذلك أو نقبل منهم؟!

إن ذلك ينبهنا دائماً إلى ضرورة القراءة النقدية الحذرة التي تحكم على المدارس الإسلامية من خلال أصولها ونصوصها لا من خلال ما كتب عنها؛ وإذا كانت الأمة دفعت ثمناً باهضاً من وحدتها وتعايش أبنائها بسبب تسليمها لآراء كُتّاب الملل والنحل المسلمين طيلة قرون، فهل يعقل أن نسلّم اليوم لآراء المستشرقين دون حس نقدي وأدوات تحليل سليمة؟ّ!

وختاماً.. لا أجد ما أصف به تلك العبارة وما حوته مزاعمها وادعاءاتها وتلبيسها إلا أنها مجرد ترداد قديم لمقولات كُتّاب الملل والنحل الذين جنوا على الأمة المسلمة جناية خطيرة حين شوهوا صور كثير من فِرَقها ومذاهبها، دون أن يكلفوا أنفسهم البحث في أصول مخالفيهم ونصوصهم ليتثبتوا من مقولاتهم؛ فصرفت الأبصار عن مواطن الاتفاق المشتركة الواسعة إلى مواضع الخلاف، المصطنع منها والحقيقي! ولكن المدهش هنا أن يعاد تعبئة هذه المقولات المنتهية الصلاحية في عبوات جديدة تحاول أن تتزيّا بلغة البحث العلمي الحديثة؛ ما قد يؤدي إلى بعث موجة جديدة من تشويه تصورات المسلمين عن بعضهم؛ واللافت أيضاً أن علماء الأمة وأبناءها المخلصين من كل مذاهبها ومدارسها المحترمة قد بذلوا خلال العقود الماضية ويبذلون جهوداً جبارة لتجلية الصور المشوشة وكشف تزييف الحقائق وتصحيح التصورات المغلوطة، والبناء على المشترك بين أبناء الأمة الواحدة، لكن هذه الجهود المباركة تحرج البعض وتكشف مواقفه فلا يرتضيها ويشغب عليها، ويسعى من جديد لإعادة التاريخ إلى الوراء، وتكريس تلك الصور المنتحلة التي مزقت الأمة وصنعت بينها الشقاق والتصدعات.

والأمر الآخر الذي لابد من التوقف أمامه بكثير من التأمل والفحص هو أن نتساءل لمصلحة من يأتي ترداد هذه المزاعم بأن لدى الإباضية عقائد وممارسات وثنية بأشكال متعددة، وأنهم يخفونها أحياناً؟؟؟ لمصلحة من؟ 

ألا يصب هذا الزعم وهذا الإدعاء في صالح التكفيريين واللّافكر التكفيري الذي يجد رواجاً اليوم، وتنشط له جهات وتنظيمات؟؟ ألا يوزع التكفيريون اليوم أحكام الإخراج من الملة بالمجان على خصومهم تحت أوهى الذرائع وبأدنى الأسباب؟! فكيف نقدم لهم اليوم مادة لمزيد من التكفير والغلو، قادمة من ضلالات الأوهام والقراءة غير الواعية لآراء بعض المستشرقين؟

لمصلحة من يعاد رسم الصور المشوهة؟

لمصلحة من تُهْدم جهود التقارب والتعارف بين أبناء الأمة؟

لمصلحة من سيجد الخطاب التكفيري مدداً لذرائعه وأوهامه؟!