الأربعاء، 7 أكتوبر 2020

"الموجّه" ابن "المعلّم" رجلٌ كبير من جيل مؤسس

"الموجّه" ابن "المعلّم"
رجلٌ كبير من جيل مؤسس
"كان فيض ضمير قبل أن يكون تدفق ذاكرة"
ودعت بدية قبل أيام أحد أعلامها الذين وضعوا أسس نظام التعليم الحديث مع إشراقة شمس النهضة العمانية مطلع السبعينيات الماضية، فكان أحد أفراد الجيل الذين صنعوا الأساس وتخلوا بإرادتهم عن كل فرصة متحققة أو منتظرة خارج عمان لأنهم استشرفوا لعمان مستقبلاً جديداً يبدأ للتو، واختاروا لهذه التضحية - بكل ما فيها من عبور إلى المجهول - أفضل ما يمكن أن يضحى لأجله، وأثمن ما يقبل الرهان بكل شيء لأجل تحقيقه، حين خط وزملائه القلة أول خطوط التعليم النظامي في ولايته بدية، فمثل وزملائه جيلاً متقارباً تكويناً وعطاء وزمالة في مسيرة التعليم منذ انطلاقتها الأولى. 
ذلكم هو الوالد الأستاذ محمد بن علي (المعلم) الحجري رحمة الله تعالى عليه الذي غادرنا بعد حياة مليئة بالعطاء والبذل لقطاع التعليم ولمجتمعه ووطنه.
الوالد الأستاذ الراحل مع ما احتوته شخصيته من لطف ودماثة وحيوية وروح أبوية كان من القلة الذين امتلكوا إحساساً تاريخيا بأهمية تدوين مذكراتهم والحديث عنها والإفضاء بها ونقلها، فكانت تجربة حياته المليئة بالتنوع  والثراء والعطاء مادة لمذكراته التي دونها قبل وفاته راصداً فيها محطات حياته مع إضاءات كاشفة للتاريخ المحلي لبدية ولأنساب أهلها. 
لقد كان من يمن الأقدار علي وفضلاً من أبنائه الكرام بعد إتمامها أن شرفت بالاطلاع عليها، وقراءتها بقلمه السيال وأسلوبه المشوق، مع وقفاته أمام الأبعاد إنسانية سارداً ومتأملاً لتفاصيل الحياة الاجتماعية في بدية بأفراحها وأتراحها وطرق معيشتها، متنقلاً في ذاكرة فتى في العقد الثاني من عمره يرتحل من وطنه الأم نحو شرقي إفريقيا بكل ما في تلك الرحلة بحرها وبرها من مغامرة وإثارة وثقة، وسعي في طلب الرزق كشأن أبناء وطنه وجيله حينها، ليعود بعدها إلى وطنه الذي لم يجد فيه حينها فرصة مما يتطلع إليه شابٌ مثله رأى الفرق الذي يمكن أن يصنعه التعليم في حياة المجتمعات، فارتحل مرة أخرى عبر بلدان الخليج ليلقي عصا التيار في سوريا ضمن أفواج الطلبة العمانيين الباحثين حينها عن فرصة دراسة أو عمل أينما كانت، فكان له حضوره وإسهامه مع زملائه في أنشطة اتحاد الطلبة العمانيين بين سوريا والعراق، وهو نشاط رصدته بعض الدراسات التي وثقت تلك المرحلة بهمومها وقضاياها التي شغلت الوجدان العربي، وقد سمعت طرفاً من حكاياتها المثيرة الطريفة منه شخصيا؛ً ثم يعود للعمل بعدها إلى أبوظبي، ومنها عائداً إلى بدية مع انطلاق النهضة ١٩٧٠، واضعاً مع رفاقه مؤسسي مدرسة الجلندى أول لبنات التعليم النظامي، ومنها متدرجاً في سلك العمل التربوي حين كانت زياراته لمدارس الولاية موجهاً تربوياً تضيف لنا نحن الطلاب في تلك المرحلة المبكرة من تجربته ومعرفته ما لم يكن مألوفاً أو متوقعاً. 
ولأنه كان وفياً لمنازل الخطوة لأولى فقد فاجأ ذات صباح قبل سنتين معلمي وطلاب مدرسة الجلندى وهم في طابورهم مستئذناً أن يتحدث إلى المدرسة عن ذكريات البدايات التعليمية وعن تاريخ بدية وآثار أهل الفضل والعلم فيها، مستشعراً مسؤوليته تجاه هذه الأجيال أن تعرف المنابع وأن تدرك تعرجات المسار ومنعطفاته الشاقة لتعي قيمة اللحظة، ولكي لا تستروح النتيجة التي تعيشها حين لم تعرف مقدماتها المضنية، فكان فيض ضمير قبل أن يكون تدفق ذاكرة، وكانت تربية على العرفان فوق كونها لحظة وفاء لزملاء البدايات وآثار الآباء. 
           

مسيرة حياة تدفقت عطاء ووفاء لمجتمعه وأهله ووطنه كشأن زملائه من ذلك الجيل الذي لم ندرك بعد حجم تضحياته وفضله علينا، جيل البدايات والخطوات الأولى الشاقة على الدرب، جيل أخذ القليل وأعطى الكثير الكثير.
لقد كان ممثلاً لسيرة جيل تعهدته بدية بمجالس علمائها وفضلائها وحلقات العلم فيها، مسيرة لجيل طالما ألِفَتهم جنباتُ مسجد سلطان بن عبيد التاريخي كما ألفت الأولياء الأخيار من الآباء الراحلين على امتداد تاريخهم الذي كان "الموجّه" أحد حلقاته.
رحمة الله عليه وعلى رفقاء دربه، وبارك في أعمار من بقي منهم.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق