الجمعة، 9 ديسمبر 2011

رأي نشر في جريدة الرؤية ضمن تحقيق حول موضوع مكافحة الفساد.. جريدة الرؤية 3/12/ 2011م

حول مكافحة الفساد

واحدة من أهم فقرات خطاب صاحب الجلالة في مجلس عمان تلك التي تطرق فيها إلى مكافحة الفساد ، و هي قضية يتفق الجميع على أنها محط اهتمام و متابعة ، فالفساد الذي يطال العمل الوظيفي هو أمر وارد و يمكن أن يرافق أي عمل وظيفي يتعلق بالأموال العامة أو الوظائف العامة و دعونا هنا نتذكر تحذير القرآن الكريم منه و من بعض صوره حين يقول " ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون " و الحديث الشريف نص على ذلك أيضاً حين شدد على تحريم الغلول " الاختلاس" و تحريم الرشوة في أكثر من نص ، و من أشهرها ما أنكره رسول الله صلى الله عليه و سلم على موظف هو "جابي الزكاة"حين قبل هدية من قوم بعث إليهم ليجبي زكاتهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم على رؤس الأشهاد " ما بال عامل أبعثه فيقول هذا لكم ، وهذا أهدي لي ، أفلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمه حتى ينظر أيهدى إليه أم لا! ، والذي نفس محمد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه... "  ثم يعلن كما في كلا أمر مهم عام "اللهم هل بلغت"
و من الملاحظ أن الخطاب السامي لم يحمل الأجهزة الرقابية بمختلف أصنافها و أولها مجلس الشورى و جهاز الرقابة المالية و الإدارية للدولة و الأجهزة الأمنية مسؤلية ملاحقة الفساد فحسب ، بل كلفها أن تسد كل الثغرات التي يمكن أن توصل إليه قبل أن يحدث "بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون" كما نص الخطاب في حسم و تشديد ، و هذا يعني أن المعالجة الاستباقية و وضع الأطر الوقائية هو المقدم ، ذلك لأن الفساد حين يقع فإنه لا يضر بالمال العام فحسب ، بل هو يضرب القيم أي قيم العمل الوطني ، قيم النزاهة و العدالة و المساواة و تكافؤ الفرص، إضافة إلى أنه يهدر المقدرات و يمهد لاستئثار القلة بها ، و إذا كانت المعالجات العقابية تصنع الردع و تميز الخبيث من الطيب ، فإنها إنها قد لا تتمكن دائما من استرداد الموارد التي طالها الفساد ، حيث إن الفساد لم يعد عملاً قطريا كما هو معلوم ، بل هو أمر عابر للأقطار و الحدود ، و ترعى شبكاته لوبيات و كورتيلات عالمية ، و ترحب بمنجاته أقطار يقوم اقتصادها على تبييض أمواله.
و التأكيد على سد المنافذ ينبه إلى قدرة الفساد و أربابه على ابتكار طرق و ابتداع أساليب الفساد و السعي الدائم للتسرب عبر شقوق القوانين ، وهذا يستلزم دائماً يقظة عالية و حساً وطنياً منتبهاً .
 و حتى لو قدر أن يُسترد جزء من الموارد العامة المختلسة أو المنهوبة ، فإن الضرر يبقى فادحاً بقيم النزاهة و العدالة و المساواة التي تقوض و تتضرر ، هذا إضافة إلى "متوالية الفساد" أو حلقة الفساد التي يصنعها أي فساد خاصة حين يكون في المستويات العليا من الوظائف العامة ، حيث يبرر الفسادُ فيها الفسادَ في المستويات السفلى ، و أخطر ما تتعرض له الأوطان و مواردها و أنظمتها الإدارية هو تحول الفساد إلى قاعدة للعمل حين يتجاوز الفساد حدود الشذوذ و المخالفة و التجاوزات على الأنظمة إلى أن يكون هو نظام العمل و قاعدته ، و الأمثلة وافرة على بلدان اختطفتها "كورتيلات" الفساد و لوبياته التي ارتدت أثواباً كثيرة بعضها يتدثر بالنبل ، لكنها في النهاية لم تستول على الموارد المالية فحسب بل دمرت الأنظمة الإدارية و أوصلت بلدانها إلى انسدادات تجعل المال و الثروة و النفوذ حكراً على قلة تستأثر بكل شيء.

إذن الخطاب في لغة صارمة جازمة يحذر من ترك أي ثغرة ينفذ منها الفساد ، و يضع الأجهزة الرقابية أمام مسؤوليتها الوطنية في ملاحقته بأي شكل من أشكاله و صوره ، و يأمرها أن يقوم بواجبها "بعزيمة لا تلين تحت مظلة القانون" و الخطاب أيضاً ينص في ذات السياق و في ذات الفقرة على مبدأ العدالة و دعم الأجهزة القضائية و توطيد استقلاليتها و النص على أن "الكل سواسية أمام القانون"  بلا محاباة أو مجاملة ، و إذا نظرنا إلى مستهل هذا السياق نجده يشدد على مبدأ أن العمل الحكومي "تكليف و مسؤولية" يؤدى بأمانة تامة بعيدا عن المصالح الشخصية ، و في هذا السياق دعونا نتذكر أن كل مسؤول سواء كان وزيراً أو عضواً في مجلس عمان أو من أعضاء السلك القضائي أو العسكري يؤدي قسماً يقسم فيه بالله العظيم ينص على مراعاة الوطن و المواطن و احترام قوانين الدولة و حماية مصالح المواطنين و الصالح العام ، و نحن اليوم إذ نستشرف أفقاً جديداً و مرحلة جديدة من العمل الوطني انضمت فيه إلى مصاف المسؤولية العليا كوكبة من الكفاءات الذين نتمنى لهم التوفيق و العون ، و جدد القسم آخرون ممن سبقوا إلى تحمل المسؤولية التي ينص الخطاب السامي على أنها "تكليف و مسؤولية" ، نؤمن جميعاً أن القسم ليس إجراءاً شكلياً إجرائيا بل هو لحظة الصدق مع الله و الوطن و القائد ، و الوفاء بما جاء في ثنايا هذا القسم هو أمر يرقبه الله و الوطن و القائد و التاريخ و الناس شهود الله في أرضه ، و الوفاء بهذه المسؤولية التي تمنع الفساد و تسد منافذه لا تقتضي صيانة المال العام من الاختلاس و الرشوة و غيرهما فحسب ، بل أيضا حفظها من سوء الإنفاق و هدر المال العام حتى و لو كان مغطى قانونياً ، لكن خطأ القرار و الاستخفاف بالموارد العامة الذي يؤدي إلى الهدر هو شكل من أشكال الفساد ، و بعض أشكال الفساد أخذت طابعاً تأقلم عليه البعض ، حيث استمرأ البعض محاباة الأصدقاء في المواقع الوظيفية على حساب الكفاءة ، و في مهام العمل المدفوعة الكلفة داخلياً و خارجياً ، و أنشأ البعض مجموعات خاصة بهم أضرت ضرراً فادحاً بفلسفة العمل و تكافؤ الفرص ، و نشأت بسببها تبريرات التراخي و الإهمال في أداء المهام الوظيفية مستويات متعددة، و تسبب ذلك أحياناً في تغييب الرأي المختلف عن رأي رئيس المؤسسة أو الهيئة و إقصائه ، و اعتماد الولاء الوظيفي على أساس الولاء لرئيس المؤسسة أو الهيئة و ليس على أساس تشخيص المصلحة العامة ، و هي صور فاقعة من صور الفساد لا ترحب بها المرحلة القادمة من مراحل العمل الوطني ، و تتناقض تماماً مع روح خطاب صاحب الجلالة الذي يشدد على "التكليف و المسؤلية" ، و لابد لنا أن نشير في هذا السياق إلى صور من الفساد يدفع بها المواطن نفسه و يضغط بها على المسؤول الحكومي ليراعيه في تعيين أو تخصيص أو ترقية أو استثناء أو غير ذلك ، و إذا ما استجاب المسؤول و لو بتردد و تمنع و حرج كانت سابقة و حجة عليه ليسمح لسواه ، و مثل هذه الآفات لا يسلم منها أي مجتمع و الوقاية منها تتوزع مسؤليتها على الجميع ، و حينما يكون لدينا مسؤول نظيف و نزيه فعلينا أن نحافظ على نزاهته و أن لا نحاصره بالضغوط المحرجة التي توظف فيها كل الأعراف الاجتماعية و القبلية! لتكسر حاجز الاحترام للأنظمة و القوانين و تتسبب في تجاوز نراه استثناء و لا نرى ضرره الفادح بمستحق آخر ، و لا نرى ضرره بقيم المؤسسية و النظام و القانون و تكافؤ الفرص!
أتصور أيضاً أن مضامين الخطاب السامي و لغته و دفعة القيم التي تفيض منه لابد أن تعزز روح الشفافية و الوضوح في إدارة الشأن العام ، و روح المشاركة و تبادل الرأي داخل مؤسساتنا العامة ، و هو أمر يقتضي أن تقوم وسائل الإعلام ، و دوائر الإعلام و العلاقات العامة داخل المؤسسات بمهمتها "من أجل فهم الأمور على حقيقتها" كما نص خطاب صاحب الجلالة حفظه الله و رعاه ، و هذا يقتضي أن تشرح للناس كيف يتخذ القرار و ما ضرورات اتخاذه؟ و تكون أداة تفاعلية مع الجماهير تعزز الحقائق و تنفي التكهنات و تكون ، و أن تحد أيضاً من التغطيات الخبرية للقاءات المسؤولين و احتفالاتهم التي تضخم المسؤول على حساب المؤسسة و العمل العام.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق