حول الاعتصامات - ستجد عمان معادلتها الجديدة
خلال الأسبوعين الماضيين تحقق لعمان الكثير ، و ما تحقق هو نتيجة لهذا التناغم و التلاقي بين تطلعات الشعب و توجه القيادة ، و ما كان لهذا الإنجاز ليتم لولا هذا التكامل و التفهم و التفاهم ، و لذلك لابد أن نحرص على أن يدوم و يستمر هذا التكامل بمزيد من تشبثنا بثوابتنا الوطنية المتمثلة في وحدة الشعب و وحدة الأرض و وحدة القيادة و الهوية العربية الإسلامية لهذا الوطن ، و كذلك بمزيد من تعزيز الثقة و استحضار فكر البناء .
لقد تمحور هذا الإنجاز في ثلاثة عناوين رئيسية أولها : الدخول في مرحلة الإصلاح المعتمدة على مزيد من المشاركة في صناع القرار عبر صلاحيات رقابة و تشريعية لمجلس عمان ، بما يدعم محاربة الفساد بمزيد من الشفافية و النزاهة في إدارة المال العام ، و يتوجه بنا إلى مزيد من العدالة الاجتماعية ، و المبادرات التي تهدف إلى تحسين المستوى المعيشي للعمانيين ، و السعي للقضاء على العطالة ، و غير ذلك من العناوين الإصلاحية المهمة ، وكلها ينبغي أن تستمر و أن تتوالى. و ثاني هذه العناصر هو قدرة الإنسان العماني على التعبير عن مطالبه و حقوقه بالوسائل السلمية المشروعة و منها الاعتصامات و المسيرات السلمية ، و ثالثها هو روح الوطنية العمانية التي تنبث بين العمانيين اليوم ومعها روح المسؤولية الوطنية .
* حاجتنا للإصلاح الشامل:
يرى الكثيرون بأن هناك حالة عشوائية متفشية من الاعتصامات و الإضرابات في كثير من المؤسسات و الدوائر و الهيئات العامة و الخاصة ، و القراءة الفاحصة لهذه الحالة تؤكد ــ في كثير من الحالات ــ وجود أخطاء متراكمة و ظلامات و خلل ، و تشير إلى فشل كثير من المسؤولين ، و فشل طرقهم في إدارة الأمور ، و أتصور أن الجميع يوافق على هذه الحقيقة ، لكني أرى أن هذا الأمر يؤكد قطعاً حاجتنا إلى عملية مراجعة و إصلاح شامل واسعة ، تطال كل البنى و الهياكل ، و على رأسها : النظام التعليمي المسؤول عن تكوين المواطن العماني و تأهيله ، و تربيته ، و المنظومة الإعلامية و القوانين المتعلقة بحرية التعبير، و منظومة الخطاب الديني .
لكن الإصلاح كما يعلم الجميع هو مسيرة طويلة و عمل مستمر و مفتوح يحتاج إلى جهد كبير و ممتد "إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت" ، و هو في الكثير من مطالبه يحتاج أيضاً إلى عمل مخطط و مدروس و إلى حذر في اتخاذ القرار و أناة و صبر.
و مراحل التغيير في حياة الشعوب هي من أكثر المراحل حرجاً و خطراً ، و هي تتطلب منا جميعاً الأناة و اليقظة و الرفق و تقدير عواقب الأمور .
* الاعتصامات و الأسئلة المشروعة :
الاعتصامات السلمية و المسيرات كانت أداة المطالبة بالتغيير و بالحقوق ، وقد أدت دورها المشهود في ذلك في إيصال الرسالة و تبيان الحقائق ، و قد أقرتها القوانين و كافة أجهزة الدولة رحبت بها بهذا الاعتبار ، و الكثيرون منا كانوا جزءاً منها ، لأن الهم عماني و لأن المطالب عمانية ، و لأنها قضية وطن نبتنا من ترابه ، و خلايانا تنبض بحبه، و لأن ما ننشده جميعاً هو الخير لعمان .
و لئن كانت التحية و الاحترام اليوم واجب لكل قلب و عقل و لسان هتف لعمان و أراد لها الإصلاح ، و سعى من أجل ذلك بأي وسيلة و طريق ، فإن كل شيء يشير إلى أن حركة التغيير قد بدأت ، و عملية الإصلاح جارية و لن تتوقف إن شاء الله ، و أدواتها قد بدأت في العمل ، و فعاليتها و توجهها رهن بتحمل كل منا مسؤوليته في إبقائها على الطريق السليم حتى لا تتباطأ أو تتعطل بسوء الإدارة أو بانتهازية الفساد .
و في ذات الوقت ينفتح التساؤل حول الاعتصامات ، وهو سؤال مشروع ، إذ كلنا ينبغي أن يكون الآن جزءاً من عملية الإصلاح و حركة التغيير التي نريد لها جميعاً أن تكون منتظمة و منضبطة حتى لا نقع في الفوضى و التخبط ، و هناك أمران في غاية الأهمية يحيطان بهذا السياق ، أولها أن ننظر إليها باعتبارها وسيلة و قد آتت ثمارها بحمد الله، و أتصور أن لا أحد يوافق على تحويلها إلى غاية أو هدف في حد ذاتها . و الناحية الأخرى أن هناك كثيراً من الاختلاطات في الأهداف و المطالب و حدود تلك المطالب ، فمنها ما هو عام و منها ما هو خاص و تفصيلي ، و منها ما يتعلق بفئات أو بشرائح، و جميع هؤلاء لهم مطالب مشروعة ، لهم كل الحق بالمطالبة بها ، لكن الأمر يحتاج إلى شيء من الترشيد و التدريج .
* أسبوع الحصول على المطالب :
و على مستوى الواقع فإن الاعتصامات إحدى وسائل المطالبة و ليست كلها ، و من المؤكد أن بعض المطالب قد يبلى بسهولة ، لكن بعضها يرتبط بنواحي التخطيط و الموازنات ، و التوازنات الاقتصادية التي قد تتعلق بحياة كل واحد منا ،و هذه العملية تحتاج إلى أناة و صبر و تخطيط مدروس ، إذ أن الإصلاح لا يأتي دفعة واحدة فذلك ضد طبائع الأشياء.
نقول هذا مرة أخرى لأن بعض الاقتصاديين قد بدأوا في إنذارنا بأن هذه الحالة المتفشية من الاعتصامات و الإضرابات قد تحدث أضراراً بليغة في بنية الاقتصاد الوطني إن لم يتم احتواءها ، خاصة إذا ما طالت مصادر الدخل الرئيسية ، مما قد يعرض للتبخر مطالب تحسين الأوضاع المعيشية ، و رفع دخل الفرد ، و القضاء على العطالة ،و أحلام الرخاء ، هذا عدا عن اتخاذ القرارات في أجواء التوتر هذه هو أمر محفوف بمخاطر الخطأ .
فعلى سبيل المثال إن أي مؤسسة تجارية أو صناعية يعتصم موظفوها اليوم ليطالبوا مطالبة مشروعة بحقهم ، ثم تقوم بتلبية مطالبهم ، فإن الأمر لن يتوقف عند هذا الحد ، فنحن لا نملك ضمانات من أنها قد تلجأ إلى مخارج أخرى تعوض بها ما قدمته من تنازلات لموظفيها أو حقوق تأخر إعطاؤها لهم ، و قد يدفعها ذلك إلى رفع أسعار منتجاتها لأن أسعار التكلفة قد زادت ، و هو ما قد يؤدي إلى حالة من الغلاء المفاجئ الذي يضر بزيادة الدخل التي حدثت نتيجة للأوامر و القرارات الأخيرة ، المهم هنا أن نعلم بأن الأمور متشابكة إلى حد بعيد و تحتاج إلى توازنات دقيقة و حساسة.
و ما يزيد الأمر صعوبة أن مؤسسات المجتمع المدني و العمل النقابي و الروابط النقابية ما تزال هشة و في بدايتها ، مما يجعل الأمر عشوائيا و غير منتظم و عرضة للتوجهات و الاجتهادات الشخصية.
الملخص هنا أننا لا يجب أن نتصرف و كأنه أسبوع الحصول على الحقوق و تحصيل المطالب ، أو أنها فرصة ليس بعدها فرصة ، و كأن أيام عمان القادمة لن يكون فيها إحقاق للحقوق ، أو ترسيخ للعدالة ، أو تأكيد على العدالة الاجتماعية ، فالأيام القادمة تحمل الخير لعمان إن شاء الله ، و حركة الإصلاح أصبحت جزءاً من يومياتنا العمانية ، و هناك الكثير من النوايا الطيبة التي تريد للعمل الإصلاحي أن يتوسع و أن يمتد لكل شيء ، و هذا أمر طيب و لكن النوايا الطيبة وحدها لا تكفي ، إذ نحتاج للعمل المخطط المدروس ، و الجهد المركز و هو ما يحتاج إلى وقت و أناة، فأجواء التوتر و الانفعال ليست ميداناً للعمل الدقيق و الصائب و المتوازن ، إن البناء غير ممكن في ساحة الحريق .
* اختلاط النيات و المقاصد و الحاجة للترشيد :
و عدا عن ذلك فقد اختلطت الأمور كثيراً ، وأصبح التمييز بين الاعتصامات السلمية و أعمال التخريب و إعاقة المصالح العامة و قطع الطريق أصبح التمييز بينها أمراً يصعب على الكثيرين ، و يتمثل أحدهم بالقول القديم بأن :" الذي يفصل بين الجنون و العقل شعرة "!! و سمعنا عن ثقافة اعتصام مغلوطة تغزو مدارسنا التي خرب بعضها من قبل طلاب يحتجون على المقصف المدرسي ، و يستلزم ترميمها آلاف الريالات !! و عن أعمال قطع طريق بحجة الاعتصام و قد رأينا بعضها ، و بقدر ما أن الأمر يدعو للدهشة و الأسف فإنه ينبهنا إلى حاجتنا إلى إصلاح شامل ، بل و إلى تعليم ثقافة احتجاج سلمي صحيحة ضمن خطوات و درجات ، تجعل الأمر يحضى ببعض النظام و الجدوى .
و وسط كل هذا الاختلاط و تقاطع المصالح تتضرر القضية الأساسية التي نادت بها الاعتصامات السلمية و تشوه حقيقتها ، و تجعلها ورقة محروقة و مبتذلة الاستخدام حتى تفقد جدواها، هذا عدا عن نسبة الخطورة العالية التي تشكلها أجواء التوتر و الاحتقان .
* أي اعتصام نريد؟ و العيون على المستقبل .
أتصور اليوم أن غالبية العمانيين مقتنعون بأن الإصلاح هو واقع الحال في عمان ، و أن علينا جميعاً اليوم أن نتحمل المسؤولية كي تكون عملية الإصلاح شاملة و مستمرة و عميقة ، ومعها ستحل تلقائياً كل تلك القضايا الفرعية و التفصيلية التي تنادي بها بعض الاعتصامات هنا و هناك ، لأن عملية الإصلاح ستوجد آليات معالجة داخلية تتعامل معها.
أعتقد أن ما نحتاجه اليوم هو اعتصام من نوع آخر " و اعتصموا بحبل الله جميعاً و لا تفرقوا " ، حان الوقت لنعتصم جميعاً بحبل الله أيها العمانيون ، و لنكون معاً ــ كآبائنا ــ مع القائد الباني حفظه الله و رعاه يداً بيد ، عوناً و مدداً و مسؤولية ، لتجديد النهضة العمانية على أسس جديدة بدأت تتبلور ، و لدى عمان كل الفرصة و الإمكانات و الموارد و الثوابت الوطنية ، و روح التجديد التي يدفعها الشباب ، و الروح الوطنية العالية ، و القيادة التاريخية المجمع عليها و التي يأتلف معها شعبها ، و إن أجدنا جميعاً إدارة هذه الفرصة ، و اعتصمنا بحبل الله جميعاً ، فإن هذا هو ما سيجعل مستقبل عمان أجمل و أرحب و أكثر عدلاً و حرية و اطمئناناً و استقراراً ، و عمان من وسط هذا كله ستجد معادلتها الجديدة بعون الله و توفيقه و حفظه .
محمد بن سعيد الحجري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق