الإصلاح المستمر إيمان بعمان و ثقة بقيادتها
إن الأسف و الحزن و رفض إراقة الدماء و التعبير عنه جدير بنا هنا ، ذلك حق الدين و الوطن و حق الأخوة فيهما ، لكن ما هو الجدير بنا أيضاً هو الوثوق بالذات الوطنية و الإيمان بقدرتها على تجاوز أي محنة أو تحد ، و ذلك الوثوق هو بالنسبة لي مسلمة من مسلمات المعرفة بعمان و بأهلها و بسلطانها الذي يحكمها.
في عمان نوع من الوعي بعقد اجتماعي قوامه الرحمة و الاحترام و التعاطف و الانسجام ، و من لا يعيه و لا يستجيب له يكون استثناءاً يحيده المسار تلقائيا و هو في طريقه ليصنع التاريخ و يلبي استحقاقات المستقبل و ضرورات التطوير . وحدهم من لا يعون كيف تتبدل متغيرات المجتمعات و التاريخ لا يدركون ذلك ، و يظنون أن الفلج راكد بينما المياه التي لا تفتأ تجري تحت القنطرة .
و في عبارة تكاد تكون معترضة أقول: إن من المؤسف حقاً أن يكون أصحاب الرؤية الأمنية الضيقة ــ لعوامل شتى ــ هم آخر من يدرك ذلك و آخر من يستجيب لاستحقاقات حتمية لا مناص من دخولها .
و بعد ذلك ها قد حدث ما حدث ، فماذا بعد؟ فإذا كانت القلوب ــ لحب عمان و أهلها ــ تكاد تبلغ من البعض الحناجر، فإن العقول و الأحلام راسخة و ثابتة ثبات الجبل الأخضر و سمحان و قهوان ، و لكنه ثبات لا يمنع الغيم من المرور و لا المطر من النزول ، و في الحكمة العمانية ، و ما تراكم من تجربة التاريخ و صروف الدهر ما يغنينا عن اتباع سنن من قبلنا ، و إذا كانت استحقاقات التطوير و الإصلاح سنة طبيعية لا مناص منها فإن في رصيد الوحدة الوطنية ، و الائتلاف على القيادة و الوثوق بها ، و الإجماع على الثوابت الوطنية ، التي ترسخت خلال أربعين عاماً صمام أمان يحرس المسار و يعطينا الفرصة الحقيقية للمضي في طريق النهضة بأمان و ثبات ، بل و صناعة نهضة ثانية.
لسنا دولة حديثة النشأة ، و عمان ليست منتجاً صنعته خطوط في خرائط الاستعمار ، إنها عمان ــ أيها الناس ــ عمان الإنسان و الدين و التاريخ و الثقافة و الموقع و الطاقات و الإمكانات و المستقبل ، و في الحقيقة إن التحليق في سماء عمان لا يكفي ، كما لا يخلد الإنسان العماني إلى الأرض ، لكنه يمشي في مناكبها ــ بل و في مناكب غيرها ــ إعماراً وبناء ً و ثقافة إنتاجاً ، و ينظر في الواقع و يتأمله و يدرس متغيراته ليبني عليها رؤاه و تصوراته للمستقبل .
أقول و ماذا بعد ؟
ربما تحدثنا و تحدث الكثيرون ــ وكانوا على حق ــ في ساعة اليسرة ، بينما نجد أنفسنا اليوم متحدثين في ساعة العسرة و بعضنا يكاد يقول : " فلا تشمت بي الأعداء" . و في ساعة العسرة يمتاز "الخبيث من الطيب" و العدو من الصديق و "المفسد من المصلح" فبينما يبقى التعبير عن الرأي بأساليبه الحضارية أمراً لا جدال فيه ، سيحيل الوعي و الحكمة من يقوم بعمليات التخريب و الإضرار بالممتلكات العامة إلى مجموعة معزولة و منبوذة و متبرأ منها ، و نحن شعب كسائر الناس فينا من ألوان الأرض و طبائعها ، لكني أومن بروح عمانية تجمع هذا الشعب .
و لعلها لحظة الصدق مع هذه الروح و الذات الوطنية و مع القيادة التي بذلت حياتها و شبابها و جهدها لعمان و أهلها .
إن الإجراءات هي قرارات عاجلة و لكنها في أقصى درجات الأهمية خاصة في أوقات الأزمات فهي تبشر بالسياسات و هي سبيل إلى الحلول الجذرية و المآلات الطبيعية لسنن تطور الشعوب و الأمم ، و من أهم الإجراءات التي نجدها أمراً ضروريا ً يتجاوز بنا الموقف و يهدئ النفوس و يوطد الأمن هو المحاسبة القضائية التي هي أهم ضمانات دولة العدل و القانون ، و الذي ينتج عن تحقيق قضائي مستقل لكل من تسبب في استخدام العنف و إراقة الدماء ، أو أساء إدارة الموقف ، أو تعرض بالتخريب للمؤسسات و الأملاك العامة و الخاصة .
هذا مع سلسلة الإجراءات و الخطوات المهمة التي نهض بها صاحب الجلالة سلطان البلاد المعظم ، و كلها ضمانة و دليل على أن طريق الإصلاح هو طريق المستقبل لعمان ، و تثبيت لقيم التراحم التلاحم و التفاهم التي أسست للنهضة العمانية ، و حماية لها حتى تؤسس من جديد للمستقبل ، و حماية من قصور النظر و سوء تقدير الأمور ، و حراسة لها من ضعف الوعي بمستجدات الحياة و تطوراتها .
و حين تطمئن النفوس و يهدأ الوجدان العماني ، لا بد أن يأتي المضي في طريق الإصلاح وصولاً إلى ترسيخ دعائم دولة المؤسسات و القانون، و كم أثبت التاريخ مجد القادة الذين يقودون نهضات و حركات إصلاح أولى و ثانية ، و ما ذلك إلا إدراك لطبيعة التطور البشري و حتمياته اللازمة التي يأتي مجتمع المعرفة في عصرنا ليجعلها متقاربة لا يفصل بينها فاصل زمني كبير ، بل إن مفهوم الزمن بذاته تغير فلم يعد هو الذي يعرف من قبل ، و مجتمع المعرفة متغير مهم كثف الزمن و أدخل المجتمعات بسرعة في طور التعقيد .
و مطالب الإصلاح كثيرة حملتها العرائض و المنتديات الالكترونية و أفكار المشاريع التي قدمت ، و كلها رفعها المخلصون لعمان و لقائدها إيماناً بعمان و ثقة بقائدها ، بعضهم أوصلها إلى عشرات المطالب و بعضهم أوجزها دون ذلك في بنود مهمة تكون منطلقات لإصلاحات تفصيلة تأتي تباعاً ، و بعضها يمكن الشروع فيه ، و بعضها يحتاج للصياغات و المعالجات و الدراسة المتأنية التي لا بد من برمجتها ، مع الاحتياط لعامل الزمن الذي هو جزء من المعادلة .
لكن أهمها و أكثرها إلحاحاً و حساسية هو مطلب مكافحة الفساد ، بل إن هذا المطلب كثيراً ما يكون دافعاً لمطالب أخرى لاتصاله بمفهوم العدالة الاجتماعية و حماية المال العام ، و مبدأ توزيع الثروة ، و لكونه على المستويات الإدارية العليا مبرر لنزوله إلى المستويات الإدارية الدنيا فالفساد يبرر الفساد ، و لخوف من أن استمراره يؤدي إلى نشوء منظومات الفساد و "كورتيلاته" التي أثبتت تجارب شعوب أخرى أنها اختطفت الأوطان و الشعوب .
و أمام هذا المطلب دعونا نستذكر معاً الخطاب التاريخي لصاحب الجلالة السلطان المعظم في الخامس من نوفمبر 2008، الذي جاء ليحذر من الفساد و من قد يتورط فيه ، و ليضع الجميع أمام مسؤوليتهم في عبارات حاسمة و صارمة ، لقد كان ذلك الخطاب سياسياً مبدئيا من الدرجة الأولى ، جاء ليضع خطوط السياسة ، و السياسة لها أدواتها و مسؤوليتها و مسؤوليها التنفيذيين ، و هنا يأتي التساؤل هل نهضت الأدوات المؤسسية الإدارية و القضائية بواجبها في السير على خطوط الخطاب ؟ و هل طبقت مفاهيمه و مراميه بجدية و التزام؟ و لماذا لا تزال هذه المسألة مثار الجدل و الإحباط و الإزعاج لكل المخلصين لهذا الوطن؟
و مع الخطاب السامي في نوفمبر 2008 و قبله و بعده يأتي النظام الأساسي للدولة و ما تفرع عنه من قوانين و نظم و لوائح و كلها تدين الفساد و نصوصها تحاصر الفاسدين و المفسدين ، و ها نحن نمتلك منظومة قانونية تمثل المشروعية و الشرعية لمواجهة الفساد و محاصرته و إيقاف ضرره بالمال العام و ضرره بالروح العمانية ، فما أجدر أن نمضي في ذلك قدماً.
و اليوم لدينا كل الفرصة و كل العوامل و الإمكانات و أهمها الوحدة الوطنية التي هي في أقوى حالاتها ، و ينبغي أن تكون كذلك دائماً ، و أن نحميها بأغلى ما نملك ، و من أهمها الائتلاف على القيادة و الثقة بها و بقدرتها و بتفهمها و بعد نظرها ، و من أهمها أجيال متطلعة للعلم و للمعرفة و للعمل و الإنتاج ، و التي تريد منا نظاماً تعليمياً يكافئ استعداداتها و تطلعاتها ، و تحتاج لسوق عمل نشط و مستوعب يكون تابعاً لاحقاً للنظام التعليمي و ليس العكس. و بذلك كله سنتجاوز أي محنة ، و سنخرج من أي تحد و نحن أقوى و أكثر تشبثاً بعمانيتنا و أكثر إيماناً بها و ثقة بالمستقبل إن شاء الله .
" و الله يعلم المفسد من المصلح "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق