نشر بجريدة عمان في 7 يناير 2012م .
اليوم بوسعنا أن نهنئ مجلس الشورى على شروعه في تفعيل صلاحياته التشريعية، مع بداية نقاشه لعدد من المواد القانونية، خاصة تلك القوانين التي تقادم العهد عليها، فقبل أكثر من أسبوعين بدأت اللجنة القانونية مداولاتها بخصوص قانون المطبوعات والنشر الذي صدر عام 1984 وعدل عامي 2004 و2011، وهو ما يبشر بمشروع تعديلات جذرية على هذا القانون الذي تقع تحت سلطته قطاعات حساسة من بينها الصحف والمجلات، وقطاع التأليف والطباعة والنشر، وكذا بعض أوجه الكتابة والنشر الإلكتروني، وهو ما يعني عمليا أنه ينظم تلك الأنشطة المتصلة بحرية التعبير بمختلف أشكالها. ومع أن النظام الأساسي للدولة يعلن في المادة (29) منه أن: «حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكـفولة في حدود القانون» إلا أن الكفالة التي تعني الضمانة والحماية، يخفت بريقها في قانون المطبوعات والنشر الحالي ليحل بدلا منها الردع والكبح، وتتقلص مضامين الدفع والحفز والحماية، ولذا فإن روحه لا تتناسب مع المناخ الوطني الجديد الذي أدت إليه الخطوات الكبيرة التي تمت خلال عام 2011م والتي توجت بالمرسوم السلطاني 99/2011م، وأطرها خطاب جلالة السلطان في مجلس عمان في31 أكتوبر2011م، وهو أيضا ما تبشر به كل هذه الحوارات والنقاشات المفتوحة في وسائل إعلامنا وصحفنا ومحافلنا الثقافية، والتي تؤكد انفتاح الوعي العماني وقدرته على تداول الرأي إذا ما نظمت وقننت أدوات ذلك تقنيناً يواكب روح العصر وتطور المجتمع الطبيعي، فعلى سبيل المثال نرى هذه الأيام في بعض وسائل إعلامنا نقاشا ــ تتعدد فيه وجهات النظر ــ حول قضايا من قبيل قرار هيئة حماية المستهلك بتثبيت أسعار بعض السلع ، أو حول قانون العمل الجديد ونتائجه فيما يتعلق بحقوق قوى العمل الوطنية ، أو آثاره على قدرة الشركات الوطنية على تحقيق الربح و النمو و التنافسية ، و قد تتعدد وجهات نظر مؤسسات الدولة نفسها في حيثيات ذلك، و مثل هذه الحوارات التي تدل على عافية المجتمع و وعيه تحتاج لما يرسخها و يجعلها قيمة ثابتة من قيم المجتمع العماني ، و يجعلها جزءاً من نسيج من ثقافتنا و ممارستنا اليومية لأنظمة العمل الوطني، وهنا نستحضر أن جلالته يؤكد في خطاب مجلس عمان أن تعدد الآراء و تنوعها تدل على قوة المجتمع و قدرته على الاستفادة من آراء أبنائه ، و على ذلك فإن روح القانون الجديد ينبغي أن تبنى على أساس إتاحة هذه المساحات من تنوع الآراء و تعددها ، لأننا في أمس الحاجة للوعي المتكامل الرشيد الذي يقلب وجوه الأمر كلها، و ينظر إليه من زواياه المختلفة ، و الذي لا يحتكر الرأي كما لا يستبد بالقرار، و يستفيد من كل الآراء و الأطروحات "بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل" كما ينص خطاب جلالته أيضاً.
هذا إضافة إلى أن دفع حرية التعبير قدماً هو ضمانة حقيقة لتطوير أداء المؤسسات و تحسين جودة خدمتها ، و ضمانة كبرى ضد تفشي أوبئة الفساد و سوء الأداء و سوء استغلال السلطة ، و إعلاء لقيمة المواطنة و تعزيز لإسهام المواطن و شراكته في الجهد الوطني ، كما أنها عامل حاسم لتحقق تفاعلية التوعية و تأثيرها في نفي التكهنات و توضيح الحقائق و كشف ملابسات اتخاذ القرار و ضرورات اتخاذه.
و الناظر للمشهد العماني في هذه قطاعات الصحافة و النشر و أوجه أدوات التعبير الأخرى ، يجد أنها بين أمرين ، إذ تجاوز المشهد في جانب من حراكه حرفية هذا الإطار القانوني و تأويلاته الصارمة ، ففي الصحافة نجد أن الكلمة المكتوبة(ورقية أو الكترونية) في الواقع العماني تجاوزت ذلك، فبعد أن كان الإعلام حكوميا و الصحف لا تتجاوز اثنتين ،أصبح معنا خمس صحف ناطقة بالعربية عدا عن الإنجليزية ، و المجلات الأسبوعية و الملاحق المتخصصة. هذا فضلا عن نشاط الكتابة الالكترونية الذي تلهث الأطر القانونية للحاق به! و المشهد يكتمل بعدد من البرامج الإذاعية و التلفزيونية الجماهيرية التي لم تعد مؤطرة بذات الطرح التقليدي الجامد ، و صوت المواطن أصبح مسموعاً و حاضراً. لكن النجاح النسبي هنا يعود للإفلات من تلك التأويلات الصارمة ، و من تعدد مسارات التعبير و تنافسها ، و السبب الأهم هو ثورة التقنية، و لذا فإن الأطر القانونية الملائمة هنا ضرورية لفتح و تعزيز و تنظيم قنوات التعبير الطبيعية.
هذا من ناحية ، لكن من ناحية أخرى نجد أن قطاعات أخرى (كقطاع الطباعة و النشر) ذبلت و أوشك بعضها على التوقف ، و من أهم أسباب ذلك قبضة هذا الإطار القانوني و لائحته التنفيذية ، و افتقاده لروح المبادرة و التشجيع و الحفز ، و وقوفه عند حد الحجب و المنع ، فقد تلاشت منذ سنين الآمال في صناعة نشر عمانية ، و ها هي دور الطباعة و النشر العمانية تخرج من السوق الواحدة بعد الأخرى بينما تتوسع دور النشر القادمة من الخارج حتى في معارض الكتاب العمانية! و فضلا عن المؤلفين و المؤسسات الخاصة نجد أنه حتى المؤسسات الحكومية و شبه الحكومية أصبحت تطبع إصداراتها خارج السلطنة تجنبا لتعقيدات الرقابة و تأخيرها من ناحية، وسعيا لخيارات أوسع في الأسعار و المواصفات الفنية بدلا من سوق النشر الضيقة التي فقدت القدرة على المنافسة بسبب ، وهو ما أدى إلى تراجع السلطنة في بعض تقارير التنمية الثقافية العربية إلى مرتبة متأخرة في أعداد الكتب المنشورة . و على سبيل المثال فإن عدداً من المؤلفات لكتاب عمانيين و غير عمانيين تناولت موضوعات تاريخية عمانية نظر إليها البعض باعتبارها مناطق شائكة و حساسة ، و يأس كتابها من السماح بطباعتها داخل السلطنة ، فطبعت و نشرت ــ كلها تقريبا ــ خارج السلطنة ، و سمح لبعضها بالدخول إلى السلطنة و لم يسمح لبعضها الآخر ، و هي في النهاية جزء من ذاكرتنا الوطنية و من دروس الأيام و عبر الدهر و لا يمكن غض النظر عنها لأي اعتبار من الاعتبارات ، و وضعها الأصيل أن تطبع و تنشر هنا في عمان قبل أي بلد آخر ، و مجمل الحديث هنا أن هذا المناخ قد ألقى بظلاله على التأليف و الكلمة المكتوبة حين نشأ ــ على تطاول الزمن ــ رقيب ذاتي أعتى من الرقيب البشري كرس ثقافة المنع و الحجب ، و هي ثقافة معزولة في زمن السماوات المفتوحة .
هذا إضافة إلى صعوبة الاشتراطات الإجرائية التي يضعها القانون الحالي للسماح بإنشاء صحيفة أو مطبعة أو دار نشر ، و كذلك توسع صلاحيات لجنة المطبوعات و النشر إلى صلاحيات قضائية أو شبه قضائية تتعلق بالعقوبات على المخالفات و انتهاك القانون، و من أن هذا الجانب ينصرف للجهات القضائية عملياً منذ سنوات ، إلا أنه بقي ضمن نص القانون من صلاحيات اللجنة كما تنص الفقرة (1) من المادة 66 من القانون ، ما يعني أن المراجعة الجذرية أصبحت أمراً حتمياً .
وإذا كان مجلس الشورى بصدد مراجعة هذا القانون، فإننا علينا جميعا في الوقت ذاته مراجعة ثقافة حرية التعبير التي هي في طور التبلور، ولنحدد ما نريده بالضبط، فما نحتاجه هو النقاش الحر الموضوعي لقضايانا بعيدا عن عقلية القطيع التي ينزع إليها البعض هنا أو هناك، نقاش حر ومنصف وصادق لا يقع في متناقضتي التطبيل والتزويق من ناحية، أو التهويل والتنكر والتذمر من ناحية أخرى، وهما أمران لا يحتاجهما وطننا خاصة في هذه المرحلة. فملفات كبيرة وقيم أساسية وضعها الخطاب السامي في مقدمة أولويات التفكير العماني اليوم، وهي تنتظر نقاشا موضوعيا معمقا لتترسخ تلك القيم في الأرض وتتحول لمنهج عمل يقيم به أداء المؤسسات والأفراد، خاصة وأن الخطاب وضع المهاد لحرية تعبير مسؤولة تحفظ للفكر وللرأي انطلاقته، وتحفظ في الوقت ذاته ثوابتنا المرجعية التي يقوم عليها أساس المجتمع، تلك المتمثلة في المقدسات الدينية والثوابت الوطنية وأمن المجتمع وسلامته ووحدته، وعلى ذلك فإن المعالجات دائماً ما يجب أن تكون متوازنة تضع الأمر في نصابه لتضمن حراك الفكر والرأي وتحميه، وتحفظ الثوابت الأساسية للمجتمع حتى لا تحيد بنا عنها نزغات وشطط بعض الأفكار التي ساوت بتعسف بين الثوابت والمتغيرات فعممت تلك على هذه أو هذه على تلك. وقد انعقد خلال السنوات الثلاث الماضية عدد من الندوات المتخصصة التي ناقشت حرية الكاتب من ناحية ومسؤوليته تجاه المجتمع من ناحية أخرى، ويمكن الإفادة من نتاج تلك المداولات والرؤى، هذا إضافة إلى أن المجلس يمكن أن يستفيد من تجربة ورؤية المتعاملين مع هذا القانون سواء من الكتّاب والصحفيين أو من المسؤولين المعنيين بتطبيق هذا القانون في وزارة الإعلام، أو في الإدعاء العام أو في القضاء الذي وصل عدد لا يستهان به من قضايا التعبير إلى ساحاته. أعتقد أن مضي مجلس الشورى في ممارسة صلاحياته التشريعية والرقابية ونجاحه في ذلك هو تأكيد بأن خطى الإصلاح العمانية ماضية بعون الله، وهي تهيب بنا جميعا ً بأن ندعم المسار، دون توهين أو تهوين أو حتى تضخيم وتزويق.
و إذا ما نجح مجلس الشورى في مسعاه لتعديل قانون المطبوعات و النشر ، وربما بعض المواد القانونية المتصلة به في القوانين الأخرى كقانون الجزاء العماني و قانون المصنفات الفنية و قانون جرائم تقنية المعلومات مثلا ً، فإن التفسير المناسب للمادة 29 من النظام الأساسي للدولة سيغدو حالة ماثلة و متحققة عندئذ ، و ستتجلى في صحافتنا و كتاباتنا ضمانات حرية التعبير و كفالتها ، و كذلك حمايتها المتوازنة و احتراساتها التي تحفظ ثوابت المجتمع أيضاً ، و سيكون ذلك برهاناً على نجاح مؤسستنا التشريعية في القيام بواجبها المناط بها.
اليوم بوسعنا أن نهنئ مجلس الشورى على شروعه في تفعيل صلاحياته التشريعية، مع بداية نقاشه لعدد من المواد القانونية، خاصة تلك القوانين التي تقادم العهد عليها، فقبل أكثر من أسبوعين بدأت اللجنة القانونية مداولاتها بخصوص قانون المطبوعات والنشر الذي صدر عام 1984 وعدل عامي 2004 و2011، وهو ما يبشر بمشروع تعديلات جذرية على هذا القانون الذي تقع تحت سلطته قطاعات حساسة من بينها الصحف والمجلات، وقطاع التأليف والطباعة والنشر، وكذا بعض أوجه الكتابة والنشر الإلكتروني، وهو ما يعني عمليا أنه ينظم تلك الأنشطة المتصلة بحرية التعبير بمختلف أشكالها. ومع أن النظام الأساسي للدولة يعلن في المادة (29) منه أن: «حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكـفولة في حدود القانون» إلا أن الكفالة التي تعني الضمانة والحماية، يخفت بريقها في قانون المطبوعات والنشر الحالي ليحل بدلا منها الردع والكبح، وتتقلص مضامين الدفع والحفز والحماية، ولذا فإن روحه لا تتناسب مع المناخ الوطني الجديد الذي أدت إليه الخطوات الكبيرة التي تمت خلال عام 2011م والتي توجت بالمرسوم السلطاني 99/2011م، وأطرها خطاب جلالة السلطان في مجلس عمان في31 أكتوبر2011م، وهو أيضا ما تبشر به كل هذه الحوارات والنقاشات المفتوحة في وسائل إعلامنا وصحفنا ومحافلنا الثقافية، والتي تؤكد انفتاح الوعي العماني وقدرته على تداول الرأي إذا ما نظمت وقننت أدوات ذلك تقنيناً يواكب روح العصر وتطور المجتمع الطبيعي، فعلى سبيل المثال نرى هذه الأيام في بعض وسائل إعلامنا نقاشا ــ تتعدد فيه وجهات النظر ــ حول قضايا من قبيل قرار هيئة حماية المستهلك بتثبيت أسعار بعض السلع ، أو حول قانون العمل الجديد ونتائجه فيما يتعلق بحقوق قوى العمل الوطنية ، أو آثاره على قدرة الشركات الوطنية على تحقيق الربح و النمو و التنافسية ، و قد تتعدد وجهات نظر مؤسسات الدولة نفسها في حيثيات ذلك، و مثل هذه الحوارات التي تدل على عافية المجتمع و وعيه تحتاج لما يرسخها و يجعلها قيمة ثابتة من قيم المجتمع العماني ، و يجعلها جزءاً من نسيج من ثقافتنا و ممارستنا اليومية لأنظمة العمل الوطني، وهنا نستحضر أن جلالته يؤكد في خطاب مجلس عمان أن تعدد الآراء و تنوعها تدل على قوة المجتمع و قدرته على الاستفادة من آراء أبنائه ، و على ذلك فإن روح القانون الجديد ينبغي أن تبنى على أساس إتاحة هذه المساحات من تنوع الآراء و تعددها ، لأننا في أمس الحاجة للوعي المتكامل الرشيد الذي يقلب وجوه الأمر كلها، و ينظر إليه من زواياه المختلفة ، و الذي لا يحتكر الرأي كما لا يستبد بالقرار، و يستفيد من كل الآراء و الأطروحات "بما يخدم تطلعاته إلى مستقبل أفضل وحياة أسعد وأجمل" كما ينص خطاب جلالته أيضاً.
هذا إضافة إلى أن دفع حرية التعبير قدماً هو ضمانة حقيقة لتطوير أداء المؤسسات و تحسين جودة خدمتها ، و ضمانة كبرى ضد تفشي أوبئة الفساد و سوء الأداء و سوء استغلال السلطة ، و إعلاء لقيمة المواطنة و تعزيز لإسهام المواطن و شراكته في الجهد الوطني ، كما أنها عامل حاسم لتحقق تفاعلية التوعية و تأثيرها في نفي التكهنات و توضيح الحقائق و كشف ملابسات اتخاذ القرار و ضرورات اتخاذه.
و الناظر للمشهد العماني في هذه قطاعات الصحافة و النشر و أوجه أدوات التعبير الأخرى ، يجد أنها بين أمرين ، إذ تجاوز المشهد في جانب من حراكه حرفية هذا الإطار القانوني و تأويلاته الصارمة ، ففي الصحافة نجد أن الكلمة المكتوبة(ورقية أو الكترونية) في الواقع العماني تجاوزت ذلك، فبعد أن كان الإعلام حكوميا و الصحف لا تتجاوز اثنتين ،أصبح معنا خمس صحف ناطقة بالعربية عدا عن الإنجليزية ، و المجلات الأسبوعية و الملاحق المتخصصة. هذا فضلا عن نشاط الكتابة الالكترونية الذي تلهث الأطر القانونية للحاق به! و المشهد يكتمل بعدد من البرامج الإذاعية و التلفزيونية الجماهيرية التي لم تعد مؤطرة بذات الطرح التقليدي الجامد ، و صوت المواطن أصبح مسموعاً و حاضراً. لكن النجاح النسبي هنا يعود للإفلات من تلك التأويلات الصارمة ، و من تعدد مسارات التعبير و تنافسها ، و السبب الأهم هو ثورة التقنية، و لذا فإن الأطر القانونية الملائمة هنا ضرورية لفتح و تعزيز و تنظيم قنوات التعبير الطبيعية.
هذا من ناحية ، لكن من ناحية أخرى نجد أن قطاعات أخرى (كقطاع الطباعة و النشر) ذبلت و أوشك بعضها على التوقف ، و من أهم أسباب ذلك قبضة هذا الإطار القانوني و لائحته التنفيذية ، و افتقاده لروح المبادرة و التشجيع و الحفز ، و وقوفه عند حد الحجب و المنع ، فقد تلاشت منذ سنين الآمال في صناعة نشر عمانية ، و ها هي دور الطباعة و النشر العمانية تخرج من السوق الواحدة بعد الأخرى بينما تتوسع دور النشر القادمة من الخارج حتى في معارض الكتاب العمانية! و فضلا عن المؤلفين و المؤسسات الخاصة نجد أنه حتى المؤسسات الحكومية و شبه الحكومية أصبحت تطبع إصداراتها خارج السلطنة تجنبا لتعقيدات الرقابة و تأخيرها من ناحية، وسعيا لخيارات أوسع في الأسعار و المواصفات الفنية بدلا من سوق النشر الضيقة التي فقدت القدرة على المنافسة بسبب ، وهو ما أدى إلى تراجع السلطنة في بعض تقارير التنمية الثقافية العربية إلى مرتبة متأخرة في أعداد الكتب المنشورة . و على سبيل المثال فإن عدداً من المؤلفات لكتاب عمانيين و غير عمانيين تناولت موضوعات تاريخية عمانية نظر إليها البعض باعتبارها مناطق شائكة و حساسة ، و يأس كتابها من السماح بطباعتها داخل السلطنة ، فطبعت و نشرت ــ كلها تقريبا ــ خارج السلطنة ، و سمح لبعضها بالدخول إلى السلطنة و لم يسمح لبعضها الآخر ، و هي في النهاية جزء من ذاكرتنا الوطنية و من دروس الأيام و عبر الدهر و لا يمكن غض النظر عنها لأي اعتبار من الاعتبارات ، و وضعها الأصيل أن تطبع و تنشر هنا في عمان قبل أي بلد آخر ، و مجمل الحديث هنا أن هذا المناخ قد ألقى بظلاله على التأليف و الكلمة المكتوبة حين نشأ ــ على تطاول الزمن ــ رقيب ذاتي أعتى من الرقيب البشري كرس ثقافة المنع و الحجب ، و هي ثقافة معزولة في زمن السماوات المفتوحة .
هذا إضافة إلى صعوبة الاشتراطات الإجرائية التي يضعها القانون الحالي للسماح بإنشاء صحيفة أو مطبعة أو دار نشر ، و كذلك توسع صلاحيات لجنة المطبوعات و النشر إلى صلاحيات قضائية أو شبه قضائية تتعلق بالعقوبات على المخالفات و انتهاك القانون، و من أن هذا الجانب ينصرف للجهات القضائية عملياً منذ سنوات ، إلا أنه بقي ضمن نص القانون من صلاحيات اللجنة كما تنص الفقرة (1) من المادة 66 من القانون ، ما يعني أن المراجعة الجذرية أصبحت أمراً حتمياً .
وإذا كان مجلس الشورى بصدد مراجعة هذا القانون، فإننا علينا جميعا في الوقت ذاته مراجعة ثقافة حرية التعبير التي هي في طور التبلور، ولنحدد ما نريده بالضبط، فما نحتاجه هو النقاش الحر الموضوعي لقضايانا بعيدا عن عقلية القطيع التي ينزع إليها البعض هنا أو هناك، نقاش حر ومنصف وصادق لا يقع في متناقضتي التطبيل والتزويق من ناحية، أو التهويل والتنكر والتذمر من ناحية أخرى، وهما أمران لا يحتاجهما وطننا خاصة في هذه المرحلة. فملفات كبيرة وقيم أساسية وضعها الخطاب السامي في مقدمة أولويات التفكير العماني اليوم، وهي تنتظر نقاشا موضوعيا معمقا لتترسخ تلك القيم في الأرض وتتحول لمنهج عمل يقيم به أداء المؤسسات والأفراد، خاصة وأن الخطاب وضع المهاد لحرية تعبير مسؤولة تحفظ للفكر وللرأي انطلاقته، وتحفظ في الوقت ذاته ثوابتنا المرجعية التي يقوم عليها أساس المجتمع، تلك المتمثلة في المقدسات الدينية والثوابت الوطنية وأمن المجتمع وسلامته ووحدته، وعلى ذلك فإن المعالجات دائماً ما يجب أن تكون متوازنة تضع الأمر في نصابه لتضمن حراك الفكر والرأي وتحميه، وتحفظ الثوابت الأساسية للمجتمع حتى لا تحيد بنا عنها نزغات وشطط بعض الأفكار التي ساوت بتعسف بين الثوابت والمتغيرات فعممت تلك على هذه أو هذه على تلك. وقد انعقد خلال السنوات الثلاث الماضية عدد من الندوات المتخصصة التي ناقشت حرية الكاتب من ناحية ومسؤوليته تجاه المجتمع من ناحية أخرى، ويمكن الإفادة من نتاج تلك المداولات والرؤى، هذا إضافة إلى أن المجلس يمكن أن يستفيد من تجربة ورؤية المتعاملين مع هذا القانون سواء من الكتّاب والصحفيين أو من المسؤولين المعنيين بتطبيق هذا القانون في وزارة الإعلام، أو في الإدعاء العام أو في القضاء الذي وصل عدد لا يستهان به من قضايا التعبير إلى ساحاته. أعتقد أن مضي مجلس الشورى في ممارسة صلاحياته التشريعية والرقابية ونجاحه في ذلك هو تأكيد بأن خطى الإصلاح العمانية ماضية بعون الله، وهي تهيب بنا جميعا ً بأن ندعم المسار، دون توهين أو تهوين أو حتى تضخيم وتزويق.
و إذا ما نجح مجلس الشورى في مسعاه لتعديل قانون المطبوعات و النشر ، وربما بعض المواد القانونية المتصلة به في القوانين الأخرى كقانون الجزاء العماني و قانون المصنفات الفنية و قانون جرائم تقنية المعلومات مثلا ً، فإن التفسير المناسب للمادة 29 من النظام الأساسي للدولة سيغدو حالة ماثلة و متحققة عندئذ ، و ستتجلى في صحافتنا و كتاباتنا ضمانات حرية التعبير و كفالتها ، و كذلك حمايتها المتوازنة و احتراساتها التي تحفظ ثوابت المجتمع أيضاً ، و سيكون ذلك برهاناً على نجاح مؤسستنا التشريعية في القيام بواجبها المناط بها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق