النفيسي مرة أخرى
عمى الطائفية وعقدة "الفالودة"
جريدة الرؤية - محمد بن سعيد الحجري
قبل أكثر من أسبوعين عاد الدكتور عبدالله النفيسي في برنامج "ساعة حوار" في إحدى القنوات الخليجية للحديث عن عمان في حلقة عنوانها "الخليج ومناطق الصراع" وهي المرة الثالثة خلال أقل من سنة التي يركز فيها النفيسي حديثه على عمان مقدماً تأويلاته لما أسماه "الانفراد" العماني في العلاقة مع دول الخليج، والعلاقات العمانية الإيرانية والخليجية الإيرانية، ورغم أن بعض إشاراته تحدثت عن كون عمان كياناً تاريخياً كبيراً إلا أن هذه النقطة سرعان ما تلاشت أمام طوفان التأويلات الأخرى التي لا أبالغ في القول في أن بعضها طائفي وبعضها مسيء لا يمكن أن يتقبله أي عماني، وأعفي نفسي هنا من إيراده وبإمكان من يريد تفصيل ذلك أن يعود إلى الحلقة المذكورة فهي مسجلة ومرفوعة على اليوتيوب، وهي فضلاً عما فيها من مغالطات لا أساس لها تعيد إلى الأذهان ما قاله قبل أقل من سنة عندما تحدث عن عمان واصفاً إياها بأنها "اللغز" تارة و"الثغرة" تارة أخرى، ناهيك عن أن مثل هذه التأويلات لا تقدم شيئاً للراهن الخليجي الذي يواجه أزمات عاتية وتحديات خطيرة، بل تصنع الجفاء وتزرع التوجسات وتبني رؤاها على خليط من الأوهام وأنصاف الحقائق لتقدمها لأجيال خليجية لا تمتلك قدرة على النقد والفرز والتمحيص، تعطي ثقتها العمياء لأمثال الدكتور النفيسي الذين أجدهم يخذلون هذا الوعي ويعاظمون أزمته بتأويلاتهم التي لا تخفي طائفيتها ومذهبيتها، ولمن يظن أننا نبالغ في الأمر فليعد إلى هذه الروابط والحجم الهائل لإعادة تغريدها عبر تويتر.
في المرة الماضية حين أطلق الدكتور النفيسي تصريحاته السلبية عن السلطنة وموقفها من العلاقة مع إيران وقضية الاتحاد الخليجي وبعد أقل من شهر من ذلك انفجرت الحالة الخليجية ذاتها في أعتى أزمة منذ تأسيس مجلس التعاون، وثبت أن موقف السلطنة كان واقعياً إلى حد كبير وأن الظروف الموضوعية أبعد ما تكون عن الحلم البعيد، لكن الدكتور النفيسي لم يراجع خطابه تجاه السلطنة ولم يراجع كم المعلومات المغلوطة والمضللة التي بثها حينها، والتي ساهمت بشكل سلبي في تكون رأي خليجي عام شهدنا مفاعيله في وسائل التواصل الاجتماعي في أوساط الشباب.
ومن الطريف هنا أن مقدم الحلقة والدكتور النفيسي في سياق استعراض العلاقات الخليجية الايرانية اتفقا على أن العلاقة الوثيقة مع إيران لا تقتصر على عمان بل إن هناك دولتين خليجيتين لديهما علاقة وثيقة جداً مع إيران، ولكنهما قالاً بأنه لا داعي لذكر اسمي هاتين الدولتين! قاصراً الحديث فقط على العلاقة العمانية الإيرانية مردداً ذات المزاعم السابقة؛ والسؤال هنا: علام هذا الصمت المتعمد بشأن العلاقات الخليجية مع إيران والتصريح المفصل "المُؤَول" عندما يتعلق الأمر بعمان؟! في هذا السياق أليس في هذا الإصرار على الحديث عن عمان وحدها رغبة غير خفية لتشتيت الحقائق وتضليل المتابع؟! ثم إذا كان الدكتور النفيسي يتحدث دائماً عن هذا الفشل الذريع للسياسة الخليجية العامة تجاه قضايا المنطقة فعلام يلوم عمان على ما أسماه "الانفراد العماني"؟! إن المسكوت عنه هنا هو لب القضية، ولذا فإننا سنستمر في تساؤلاتنا: كيف يواصل الدكتور النفيسي تأويلاته التي امتهنت اللمز والنيل من عمان، بينما لم يذكر كلمة واحدة عن الجهود المضنية التي بذلتها عمان في رأب الصدع الخليجي بعد أزمة السفراء؟! كيف يتجاوز ــ هو ومقدم البرنامج ــ هذه الحقيقة الواقعية كما تجاوز الحقيقة التاريخية بشأن اقتراح السلطنة قيام الجيش الخليجي الموحد في التسعينيات؟! ذلك المشروع التاريخي الذي تم التنكر له والانصراف عنه، وواضح أن الذي يصرف عن هذه الحقائق هو التعصب الذي نراه في لحن القول وصريحه!! إن المدهش هنا هو هذه الرغبة المحمومة في تحميل مسؤولية الفشل في السياسات الخليجية الجماعية حتى لمن من قرأ الجغرافيا السياسية وفهم دروس التاريخ جيداً ونأى عن الانحيازات العمياء!
فكفوا عنا بربكم، كفوا عنا بربكم، واربطوا سوائم الأزمات الشاردة بعيداً عن جدران القلعة العمانية، فإن عمان لم تدق إسفيناً واحداً في الجسد الخليجي، بل صنعت الجسور وبنت التفاهمات وقاربت المواقف ولم تخذُل في الأزمات، وقدمت رؤية لسياسات واقعية لبناء التعاون الخليجي على أسس حقيقية لا على أوهام الحالمين ولا على فزع المذعورين الذين تفاجؤهم حقائق التاريخ ومسلمات الجغرافيا وكأنها بنت لحظتها!
إن مشكلة الدكتور النفيسي في فهمه للسياسة العمانية هي مشكلة خطابه كله الذي وضع الطائفية محدداً رئيسياً لتفسير الأحداث والمواقف، وبالتالي بناء تصورات وسيناريوهات يقوم جزء منها على الخيال السياسي والفوبيا السياسية مع بعض الحقائق وأنصافها لإكساب المصداقية، ومن هنا يأتي إصراره الدائم في كل مناسبة على ذكر قصة "الفالودة" الخليجية الطيبة الرائحة والسهلة الهضم التي يتربص بها الفم الإيراني الملتهِم، وهي قصة قديمة سمعها مرة من أحد السياسيين الإيرانيين، فالنفيسي يتحدث عنها باعتبارها لحظة الحقيقة في اكتشاف الأطماع الإيرانية حتى أصبحت عقدة حقيقية في خطابه، وهو يستخدم هذه القصة دائماً في إثارة الذعر والتحريض، وهذا شأنه وشأن متابعيه الذين يثقون في تحليلاته، لكنها لا تضيف لنا الكثير في اكتشاف أن العلاقات السياسية قائمة على حقائق الجغرافيا السياسية وعلى المصالح وعلى توازنات القوى وعلى تحصين الجبهات الداخلية، وكل هذه النقاط مختلة في السياسة الخليجية العامة، وتحليلاته القائمة على "قصة الفالودة" لا تضيف شيئاً لتدعيمها، لا بل وجدناه في نقطة ما من الحوار يشكك في ولاء الأقليات المذهبية في الدول الخليجية ويرى أنها متشوفة للخارج، وبدلاً من تقديم حلول لتدعيم الجبهات الداخلية بروح المواطنة والشراكة يترك الأمر هكذا فلا يعني عندئذ إلا طائفية محضة!! وهذا بالضبط ما يريده الوسط الطائفي الذي يتحدث فيه في قنوات لم تراجع خطابها بعد ولم تنظر إلى مآلاته الكارثية الذي سببته للمنطقة! فهذه الأوساط تستفزه لمزيد من تعبئة خطابها التحريضي وهو بوعي منه يمضي بعيداً في هذا الاتجاه، ولعل الدكتور النفيسي لا يلاحظ أن القنوات التي تستضيفه هي ذاتها التي ترحب بهذا النوع من الخطاب وهي ذاتها التي تبحث عمن يعبئه لها، فهي قنوات لا تبحث عن تحليل سياسي بقدر بحثها عن حشد طائفي وتبرير لمواقفها، بل إن بعضها معروف بمواقفه التحريضية التي دفعت داعميها ومموليها لإعلان تبرئهم منها.
والملاحظ هذه المرة أن القناة المشار إليها تعمدت استفزاز الدكتور النفيسي تجاه عمان ليعود مرة أخرى لشرح رؤيته الخاصة لأسباب "الانفراد العماني" في المواقف الخليجية وموقف السلطنة من العلاقات مع إيران ودورها في التفاهم الإيراني الأمريكي الأخير، ومشكلة أطروحات الدكتور النفيسي أنها نادراً ما تناقش وتفند (باستثناء لقاءه مع الأستاذ المديفر في روتانا الخليجية) بل تتلقى رؤاه بتسليم بارد ودون أي ظهور لوجهة نظر مقابلة، والسؤال هنا لماذا؟؟ والجواب لأن تحليلات من هذا النوع تربط بين السياسة والمذهبية وتصطنع الاصطفافات الطائفية مطلوبة من قبل بعض الجهات، بل إن هناك وسائل إعلامية كل خطابها يقوم على ذلك، وهي تبحث عن أسماء مؤثرة تمتلك قدراً من الاحترام والثقة بعد أن كسد سوق "الدعاة" الطائفيين وبانت كارثية خطابهم وما جر إليه من وبال؛ وخطاب الدكتور النفيسي اليوم مغموس في الطائفية إلى أبعد الحدود للأسف، وهذه الطائفية "المتأخرة" تشتد في تعصبها، والتعصب هو نوع من أنواع العمى عن الحقائق، إذ لا يمكن للتعصب أن يكون سبباً للكشف والرؤية! ويمكننا أن نجد برهان ذلك مثلاً في موقفه من القضية اليمنية وتفاعلاتها، حيث يمكن متابعة موقفه المليء بالتحريض من خلال تغريداته التي وصلت إلى حد الترحيب بالحوار مع تنظيم القاعدة في اليمن واعتبار ذلك شجاعة وبعد نظر! واعتبار سقوط صنعاء سقوطاً لمكة والمدينة!، هذا على حين أن تحليلات أكثر حصافة وعمقاً في فهم جذور الأزمة ذهبت إلى المراجعة والتأمل، ولعلي هنا أحيل إلى تغريدات الدكتور عبدالوهاب الطريري والتي كانت بعنوان "أحداث اليمن ومكاشفة الذات"، والتي أعاد نشرها الدكتور سلمان العودة، وكذلك إلى مقال الكاتب السعودي عبدالله حميد الدين "الحوثيون وأزمة الثقة في المنطقة" والمقالان نشرا بتاريخ 21 سبتمبر، ففي هذه التعليقات وأمثالها إعادة للوعي بجذور الأزمات وليس بنهاياتها، وأنه لابد من إدراك أن الأمور تسير ضمن استحقاقات لها جذورها التاريخية والاجتماعية، وأن الخليج بحق هو جزء من أزمة اليمن، قبل الحديث عن تدخل إيراني أو تخادم أمريكي إيراني كما يصف الدكتور النفيسي.
مشكلة الدكتور النفيسي أيضاً هي في الوقوف عند التشخيص دون تقديم البدائل الممكنة باستثناء ترويجه لبديل "الوحدة الخليجية" الذي ثبت عدم واقعيته، وفي ظل واقع سياسي معقد جداً ومتداخل وخطر لا يقدم الدكتور النفيسي بديلاً سياسياً ممكناً، والسياسة فن الممكن كما نعلم، وقد تحدث النفيسي مثلاً بإسهاب عن الموقف من الحرب على التنظيمات المقاتلة في العراق وسوريا مقترحاً التخلي عن هذه الحرب وعدم المضي فيها، دون أن يقدم بديلاً ودون تحليل حقيقي دقيق لجذور مارد التكفير الذي تم صناعته طوال عقود والذي ينقلب على صانعيه اليوم، وهكذا فإن عدم الإحاطة بجذور المشكلات وتاريخها والنظر بعين طائفية يعطل أي جدوى لخطاب يقدم على أنه تحليل سياسي.
وهنا نقول أيضاً بأن مما لا يلاحظه الدكتور النفيسي أن عمان لم تساهم يوماً في صنع مارد التكفير الذي يهدد المنطقة اليوم ولذا فإنها في حل من كل تبعات ذلك، ولو شاهد الدكتور النفيسي خارطة القواعد التي تنطلق منها طائرات التحالف الدولي سيكتشف أن عمان عرفت قديماً عواقب الأمور وهي في حل من سياسات هذه نهايتها.
لأكثر من مرة وصف الدكتور النفيسي دول الخليج العربي وشعوبها بأنها "وادي النمل" في إشارة إلى أن هذه الشعوب كائنات ستضيع تحت الأرجل وستوطأ بالأقدام من قبل المارد الإيراني أو سواه من القوى، ولعله حينها لم ينتبه إلى أن الإشارة القرآنية لوادي النمل وردت في سياق إيجابي مداره على الحذر والانتباه وقراءة الملك النبي "سليمان" عليه السلام لحاجة رعاياه من الكائنات جميعاً للأمن والسلام والتحصن بالداخل قبل الخارج وسط ضجيج الجيوش وجلبة الصفوف.