أيها القطاع الخاص،، لا يزال الانطباع كما هو!!
نشر بمجلة أثير الإلكترونية
كل قضية اليوم قابلة لأن تكون قضية رأي عام ومثار جدل ليس لأن وسائل التواصل الاجتماعي التقنية حولت المعلومة إلى حالة غازيّة فحسب، بل لأن كل هذه التغييرات أنتجت تحولات عميقة في الذهنية، تنعكس في نوعية ردود الأفعال والتعاطي مع القضايا العامة، وليس من سبيل إلى إعادة هذه التحولات إلى الوراء أو تغيير وجهتها، والتعاطي معها لابد أن يكون بمنطق التقبل والتوقع والتكيف؛ وكل قرار اليوم مهما كان يعتقد أنه تفصيلي اقتصادي قد يتحول فجأة إلى قرار سياسي له آثاره وتبعاته الاجتماعية، كل هذه الحقائق أكدتها حالة التلقي الجماهيري لعدد من قضايا الرأي العام وآخرها القرار الأخير لمجلس الوزراء حول قائمة السلع المشمولة بتثبيت الأسعار.
وبوسعنا هنا أن نرى أن أي حدث يبقى بلا تفسير أو شرح أو تمهيد سيكون عرضة لعشرات التفسيرات الجاهزة لتحليله وتوجيهه، وبوسعنا أن نقول أيضاً إن المواطنين الذين كانوا يرقبون توجس التجار وغرفتهم من أداء هيئة حماية المستهلك كانوا مستعدين للدفاع عن نفوذ هيئة حكومية انحازت لمصالحهم، ودافعت عن صحتهم وعن سلامة أقواتهم، وعن حقوقهم وأموالهم أمام تذمر التجار المعلن وغير المعلن من أداء هذه الهيئة الحكومية التي اعتبرت مثالاً عربياً على النجاح والاحترافية وارتفاع الأداء، وهذا الاستعداد لردة فعل كالتي رأينا ناتج فضلاً عن التوجه الطبيعي للحفاظ على نوعية المعيشة وتحسينها ناتج أيضاً عن أن المواطن لم يلمس من شريحة التجار وعموم القطاع الخاص ما يدفعه إلى تفهم مخاوفهم أو تعديل الانطباعات السلبية عنهم؛ وكلنا نذكر هنا خطاب جلالة السلطان المعظم في مجلس عمان عام 2012م حين توجه في فقرة مطولة منه إلى القطاع الخاص بشكل واضح بأن المسؤولية تقع عليه في إزالة ذلك الانطباع لدى المواطنين بأن القطاع الخاص "يعتمد على ما تقدمه الدولة، وأنه لا يسهم بدور فاعل في خدمة المجتمع ودعم مؤسساته وبرامجه الاجتماعية، وأنه لا يهدف إلا إلى الربح فقط، ولا يحاول أن يرقى إلى مستوى من العمل الجاد يخدم به مجتمعه وبيئته ووطنه" وهو شعور وانطباع نبه جلالة السلطان إلى خطورة آثاره على القطاع الخاص ذاته وعلى خطط التنمية؛ ومن الواضح تماماً أن القطاع الخاص قد فشل في إزالة ذلك الانطباع أو التخفيف منه، بدليل أن الرأي العام انحاز فوراً إلى تعزيز نفوذ الهيئة الحكومية التي أوكل إليها جانب مهم من تنظيم الأسواق وضبط العلاقة بين التاجر والمستهلك، ورأى في تقليص عدد السلع المشرفة على أسعارها خدمة لمصالح التجار وتعزيزاً لأرباحهم، ولم يأبه إلى ما قد يرتبط بذلك ــ على المدى البعيد ــ من قدرة القطاع الخاص على التنافسية، أو تعزيز قدرته على التوظيف، أو خدمة المجتمع، أو تحرير الأسواق، وضيق السوق المحلي أو غير ذلك من المفاهيم التي لم يفلح القطاع الخاص في إيصالها للمجتمع أو الإقناع بها، لأن إيصالها يقوم على فكرة الشراكة وتعميم الفائدة وتوزيع آثار الثروة، وليس على تكريس فكرة وانطباع قائم على تحقيق الربحية بأي ثمن، وباختصار لقد تكرس شعور متعاظم بانفصال القطاع الخاص عن المجتمع، ولم يبذل أي جهد ذي بال في تبديد هذا الشعور الذي في ظل وجوده لن يرى أحد أن الفائدة التي تصل إلى القطاع الخاص ستصل إليه، وهو شعور غير موهوم بل ينبني على حقيقة أن كبريات الشركات ليس لها برنامج اجتماعي واحد، ومن كانت لها برنامج كهذا فقد قلصته!، بينما استطاعت الهيئة أن تساعد على استقرار الأسعار خلال المرحلة الماضية، بدليل أنها في دراسة لها وجدت أنه من أصل 90 سلعة فإن 66 منها أرخص في السلطنة من أربع دول خليجية أخرى!
ويمكننا أيضاً أن نعرف في مساحة غير قليلة من المواطنين وعيهم بالخيارات الصعبة التي قد تجد الحكومة نفسها أمامها أحياناً خاصة مع ارتفاع وتيرة الانفاق والمضي في خطط التوظيف، والوصول إلى حد التشبع في بعض القطاعات ما يعني أن على الحكومة أن توجد حالة من التوازن مع المشغل المعول عليه للأيدي العاملة الوطنية خلال السنوات القادمة وهو القطاع الخاص، وتمكينه من القدرة على المنافسة المحلية والإقليمية وتحقيق الربحية لتبرير فرض برامج التوظيف الحكومية عليه، ودفعه إلى توسيع استثماراته واستبقاء رأس المال ــ الجبان بطبيعته ــ في أحضان الوطن، كل هذا نزعم أن المواطن المهتم بالأمر قادر على تفهمه، لكن ضمن أولويات وسياقات معينة تقوم على التوازن والشراكة؛ إن هذا لا يعني أن القرار غير عائد إلى الحكومة أو مجلس الوزراء، ولكنه يعني أن هناك جهات تجارية ضاغطة استمرت في الضغط طوال ثلاث سنوات، ولم تواجه الرأي العام أو تتحدث إلى ممثليه في مجلس الشورى، نعم إن القرار يعود للحكومة باعتبارها ملاذ الجميع وممسكة رمانة الميزان بين هذه الأطراف جميعها، ولذا فسر الجميع القرار ــ الذي لم يمهد له ــ على أنه تنازل أمام ضغوط التجار وحساباتهم، ولكن القطاع الخاص لم يبذل جهداً يذكر منذ خطاب مجلس عمان 2012 للتأكيد أنه من المجتمع وأن كل فائدة له ستعود على المجتمع بالنفع، مع استثناءات نحترمها ونقدرها لعدد من المؤسسات التي اعتنت بهذا الجانب واعتبرته جزءاً من مسؤوليتها الوطنية.
ولنشر هنا إلى نقاط مهمة للغاية خاصة فيما يتعلق بالشراكة، ذلك لأن القرار لو أنتج على هذا الأساس من الشراكة لما خرج على هذه الكيفية ولما كانت ردود الأفعال متأزمة بهذا القدر، فقد كان هناك توجه واضح منذ منتصف العام الماضي إلى بناء فلسفة "الشراكة الاجتماعية" في التخطيط الحكومي، وانعقدت وفق ذلك ندوة "الشراكة الاجتماعية" من قبل المجلس الأعلى للتخطيط لتمهد للشروع في بناء الرؤية المستقبلية القادمة 2040 بل ولتعتني بما تبقى من سنوات الرؤية 2020، وقد توج ذلك بتوجيهات جلالة السلطان عند الأمر بتكوين اللجنة الرئيسية لإعداد الرؤية 2040 في 29 ديسمبر2013، بأن تبنى هذه الرؤية "في ضوء توافق مجتمعي واسع، وبمشاركة فئات المجتمع المختلفة"، وفلسفة الشراكة الاجتماعية والتوافق المجتمعي هذه هي التي ستجنبنا أي هزات محتملة، أو ردود أفعال غير متوقعة، وعلى ذلك فماذا لو أن هذا القرار تم تدارسه ضمن هذا الإطار مع مجلسي الشورى والدولة مثلاً، واتجهت غرفة التجارة والصناعة إلى مجلس الشورى ليتم الاتفاق على صيغة تضمن سلامة حقوق المستهلكين واستقرار الأسواق واتزان العلاقة بين التاجر والمستهلك؟ ماذا لو دفعنا بآليات العمل الوطني لأن تنتج بنفسها هذه الصيغ، حتى لا يجد البعض في ذلك خدمة لطرف على صالح طرف آخر.
ثم إن المواطنين يتابعون بدقة كل ما يتعلق بمعايشهم خاصة وذلك أمر طبيعي، وأستطيع الجزم أن المسـألة الاقتصادية هي هاجس الجميع، وبقدر ما يستبشر المواطن اليوم بالمشاريع الكبرى التي هي عتبات الدخول إلى عصر التصنيع كمشروع مصنع الحافلات مثلاً، أومصنع الذخائر الخفيفة، أو خزانات رأس مركز، أوتزايد الاهتمام العالمي بمنطقة الدقم الاقتصادية وغيرها، سواء منها ما هو في طور التتحقق، أو ما كان في طور التخطيط كلها نقاط يستبشر بها المواطن ويدرك أنها تسعى لوضع السلطنة في مركز مرموق في الاقتصاد العالمي؛ لكن المواطن يرى في المقابل أيضاً أولويات تتراجع وتؤجل، وهي أولى بتركيز الجهد الوطني من قضايا كثيرة، ومن أهمها مثلاً إطلاق برنامج وطني لمكافحة التجارة المستترة، وتخفيف نزيف مليارات الريالات سنوياً إلى خارج السلطنة، ودفع القطاع الخاص لإظهار مزيد من التقدير للعقول الوطنية في مراتبه الإدارية العليا؛ إذ يلاحظون بامتعاض شديد تلكؤ كبريات الشركات في تعمين الوظائف العليا والوسطى، حيث لا تتجاوز نسبة مديري الإدارة العمانيين 41%، بينما يتم التركيز على الوظائف الدنيا والوسطى لإرضاء برامج التعمين، حسب ما نشره المركز الوطني للإحصاء؛ كما يلاحظون كذلك تلكؤ رأس المال الوطني في الدخول في شراكات استراتيجية مع الحكومة أو بدونها تتعلق بالتصنيع والاستثمارات ذات المخاطرة، ويرون حضور شركاء خليجيين أحياناً ودوليين مع غياب الشريك المحلي، ويلاحظون أيضاً كيف لا تزال كبريات المؤسسات الرأسمالية في السلطنة تتحرك في حيز التجارة والخدمات حيث العائد المريح، ويتساءلون تساؤلاً مشروعاً عن أسباب بقاء أسعار بعض السلع مرتفعة جداً وبلا مبرر، كالسيارات وقطع الغيار التي يتفق الجميع على أن أسعارها غير طبيعية!!، كل هذه الحيثيات الرئيسية منها والتفصيلية يجدها المواطن العادي أمامه اليوم ومعها توقعاته وهواجسه، وهي تشكل نظرته للأمور وتكوّن توجهاته وردات فعله تجاه الأحداث لأنه يتوقع من الحكومة سياسات بعينها تجاهها، ولا يخفى أن حالة الانكشاف هذه من ناحية وتداخل التأثيرات وصياغة المقارنات من ناحية أخرى تعيد توجيه ردات الفعل بمختلف صورها إلى حيث لا نتوقع أحياناً.
يوقن الكثيرون أن قصة نجاح جديدة لابد أن تنطلق مرة أخرى في عمان، وقصص النجاح الاقتصادي لا يمكن أن تحدث إلا بمشاركة قطاع خاص واع وبعيد النظرة، مؤمن بأن تأجيل الربح الضخم السريع لصالح إرساء نظام اقتصادي ومالي سليم هو الخيار الأجدى، وأنه هو الذي سيعود بالنفع مضاعفاً على الجميع، وأنه لا سبيل إلى قصة نجاح كبرى عبر نظام اقتصادي مشوه قائم على الجشع والاستغلال، وأن ردم الهوة وتعزيز الثقة بين أركان الاقتصاد الوطني أمر لا بديل عنه إذا أريد لقصة النجاح الكبرى أن تنطلق، خاصة وأن لدينا كل مقوماتها وعوامل تكونها، ولا بديل في ذلك إلا بتعزيز الثقة والشراكة الاجتماعية وبذل جهود حقيقية على الأرض لتبديد التصورات السلبية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق