محمد بن سعيد الحجري
جريدة عمان 28 رمضان/6 أغسطس.
يروى في قصة زرقاء اليمامة أن هذه المرأة العربية رأت الجيش القادم على مسيرة ثلاثة أيام فأنذرت قومها "جديس" الذين لم يكونوا يرون الخطر الذي تراه، فقد كانت ترى الجيش المموّه وراء الأشجار المتحركة، فسخر القوم منها وما صدقوها، ولا أخذوا بالحزم في أمرهم و"كان عاقبة أمرها خسرا".
إن لكل دهر زرقاءه وقبيلته وعدوه القادم الغامض! وما زال الناس يكرهون حديث زرقاء أزمانهم التي تستشرف الآفاق وترى الخطر المحدق، فالناس يحبون ما يوافق توقعاتهم عادة، ولا يحبون ما يقلق طمأنينتهم ولو كانت تلك الطمأنينة وهماً!
ومن يقرأ التاريخ جيداً يملك قدرة على الاستبصار كقدرة زرقاء اليمامة على الإبصار، لأن من يقرأه بعمق ويحلل الواقع بدقة يكون على مُرتَفع من الوعي يرى منه ما وراء اللحظة، فليس ثمة حدث يبدأ الآن فحسب، معزولاً عن سياقه التاريخي!
نقول هذا ونحن نرى كيف قلص توالي الكوارث التاريخية حدود الطموح العربي من الدولة القومية إلى الدولة القطرية، لتغدو الدولة القطرية ذاتها في عديد من الحالات أمام مصير غامض اليوم، فقد أصبح الإبقاء على وحدة بعض الأقطار العربية محل شك كبير، بعد أن أرهقتها الدكتاتوريات المتسلطة وفشلها في التنمية، وتعاظمت خيبات آمال الشعوب إزاءها، وبعد أن انتهكت ساحتها تدخلات الخارج التي وجدت مساحاتها الرحبة في هذه الفجوات الواسعة بين الأنظمة والشعوب، وبخلل المناعة السياسي والفكري الذي غير بالطائفية المذهبية والعرقية خارطة الأعداء والأصدقاء في ذهن الإنسان العربي المعاصر، وحطم إرادة الاستقلال لترحب بالتدخل الخارجي، حتى رأينا بعض الثوار العرب على أبواب الدول الكبرى يستجدون الدعم والتدخل الخارجي، في مشهد يعيد إلى الذاكرة العربية الواهنة أحداث بداية القرن العشرين، وكأنها تعد لتقبل "سايكس بيكو" جديد يعيد "تقسيم المقسم وتفتيت المفتت وتشتيت المشتت".
إن هناك استهدافا واضحا للدولة المركزية القطرية، التي يراد لها أن تتحول لدويلات أو لحالة الفراغ والدولة الفاشلة، وأي عين فاحصة لا يجوز لها أن تتخطى هذه الحقيقة، وسؤال: "من هو المسؤول؟" يغدو بلا جدوى في هذا الخضم الهادر، فلا أحد يتصور عمق الخنادق واتساع الصدوع عندما يتعلق الأمر بالشعوب والأمم التي تعبأ بالنعرات الطائفية والانحيازات الحزبية والأحقاد، ولا أحد يستطيع أن يدرك الجهد الهائل، ولا المدى الزمني الطويل الذي تتطلبه إعادة البناء والوحدة!
أمام هذا الوضع العربي العام الذي نشهد تداعياته، ونحن نتحدث عن القراءة العميقة للتاريخ، ربما يكون الأجدر بنا أن نمثل لحالة الوعي بالتاريخ التي نقصدها بتاريخنا العماني الذي قرأناه جيداً، وفهمنا خلاصاته ودروسه أكثر من غيره، خاصة وأن الكثيرين يرون في عمان استثناء من حالة التوتر، ومثالاً يشاد به ويشار إلى قيمه؛ وأتصور أن حالتنا العمانية الراهنة ناتجة عن وعي بهذا التاريخ في جزء كبير منها، أو هكذا ينبغي أن تكون، وحصانتنا العمانية تزداد متانة كلما ازداد وعينا بهذا التاريخ، ولا بد أن تستمر أجيالنا العمانية والعربية في التعلم منه، فعمان مدرسة للتاريخ في صعودها وحتى في تراجعها الحضاري.
ففي التاريخ العماني مثلا كانت لحظة من الخلاف السياسي في أواخر القرن الثالث الهجري (في نهاية عصر الإمام الصلت بن مالك) حدثاً فارقاً جر إلى تبعات هائلة، فالخلاف السياسي تطور لاحقاً إلى خلاف فكري عميق أنتج ما عرف بالمدرستين "النزوانية" و"الرستاقية"، ثم أدى إلى نشوء حزبية ضيقة أسلمت البلاد إلى شقاق وتشرذم، لتدخل بعدها طوراً طويلا من فشل للدولة ونشوء دويلات المدن استمر أكثر من خمسة قرون، ختمت بجثوم الاستعمار البرتغالي على مدن الساحل العماني طوال القرن العاشر الهجري(السادي عشر الميلادي)، لتبدأ بعدها مرحلة توحيد ونضال شاقة ومضنية في القرن الحادي عشر الهجري. كان ذلك درساً تاريخياً كبيراً ومريراً.
إن من شأن قراءة التاريخ بعمق أن يضاعف مناعة الشعوب، ويؤمّن وعيها في المنعطفات المصيرية الحاسمة من أخطار الانقسام والتشرذم والتسلط، وأن يمتّن إيمانها بالوحدة الوطنية، وأن يعطيها القدرة على إبصار الحد الفاصل بين الوطن الباقي والممارسات الطارئة، وأن يزودها بقدرة على قراءة خيارات المستقبل ودروبه، وهذه المعاني على اتساعها ومثاليتها، تجد عند الشعوب والأمم الحية آليات التحقق تلقائيا، عندما تتوفر لها قيادات سياسية مدركة لحركة التاريخ ورحلة تشكل المجتمع وضرورات اللحظة، وهذا هو دور القيادات التاريخية التي تستوعب روح أمتها وآمالها، لتصنع المسالك والدروب وتجترح آليات العمل، وإلا أين يكون المميز بين القيادات التي شكلت الفرق في التاريخ الإنساني فأنقذت شعوبها، وبين القيادات التي ورطت أممها ودفعتها من لحظة حرجة إلى ما هو أشد حرجاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق