نشر على حلقتين في جريدة الرؤية، ٧، ١٢ فبراير ٢٠١٩م.
د. مُحمَّد بن سعيد الحجري
د. مُحمَّد بن سعيد الحجري
كان المؤتمر الوطني حول الرؤية المستقبلية 2040 هو الحدث الأبرز خلال الأسبوع الماضي، وهو المؤتمر الذي خُصِّص لمُناقشة مسودة مشروع الرؤية، بعد أنْ بُذلت خلال الأعوام الثلاثة الماضية جهودٌ مضنية لإنجازها في محطات متعددة، توخَّت أكبر قدر من الشراكة لتحقيق توافقٍ مجتمعيٍّ يضمنُ تعاون الجميع في إنجازها، وتحقيق أهدافها عندما تدخلُ حيزَ التطبيق، إنَّ حُسن التنظيم رغم ضخامة المؤتمر الذي قارب حُضُوره 3000 مشارك، وجَوْدة اختيار أغلب المتحدثين الدوليين، وارتفاع سَقف النقاش أمرٌ لابد من تهنئة مكتب الرؤية عليه؛ فقد كانت وثيقة الرؤية في حاجة لوضعها تحت نقاش مُفصِّل، هيَّأ له المؤتمر مناخاً ملائماً، كما أنَّ القائمين على الرؤية فتحُوا الباب للنقاش وللإضافة ولإبداء الملاحظات على كل ما ورد في مسودة الرؤية خلال هذين الأسبوعين اللذين تليا المؤتمر.
* حديث المصداقية ونقاشات الخبراء:
على حين بذل كثير من الخبراء العُمانيين والدوليين جهدَهم لدراسة الرؤية وتحليلها، لاحظ الجميع أن أكثرهم إقناعاً ومصداقية وجدوى هم الأكثر واقعية ووضوحاً في مواقفهم ومقارناتهم، ومن يقدم لك الحقائق دون تغليف كما هي لا كما نتمناها نحن، وهذا هو الأصل في الخبراء الدوليين، فأنت لا تتعاقد مع خبير دولي ليقول لك كلاماً أملس يُفرِحك سماعه حتى ولو كان خلافَ الحقيقة، بل ليقدم لك خلاصة تجربته أو تجربة دولته، وليضعك في هذا السياق من تجارب الأمم حتى تعرف أين موقعك؟ وإلى أين يجب أن تتجه؟ وما الخيارات الأفضل للوصول إلى هدفك؟
ومع كون المؤتمر وطنيًّا في الأساس وبذل فيه كثير من الخبراء العمانيين جهداً راقياً هو محل الاحترام والتقدير بلا شك فـ"الرائد لا يكذِب أهلَه" كما يقول المثل المأثور، لكنَّنا وجدنا أن بعض المتحدثين العمانيين لم يُكلفوا أنفسهم الاطلاع على الوثيقة فيما يبدو، ولم يُقدموا قراءة مفصلة لمسودة الرؤية، وتحليلاً لعناصرها كما تقتضي مهمتهم، وذهبوا لتكرار ذات الطرح المألوف الذي قد لا يتصل بالرؤية.
إنَّه لأمر مهم لمشروع الرؤية أن يستمرَّ النقاش بين الخبراء حولها عبر وسائل الإعلام، وكم كُنَّا نأمل أن تلتقط وسائل الإعلام هذه الفرصة، وتُطلق البرامج المتخصصة والمفتوحة لمناقشة مشروع الرؤية من كلِّ زواياها :الاقتصادية، والاجتماعية، والقانونية، وفي كلِّ محاورها الرئيسة الثلاثة، لكنَّ هذا النقاش الإعلامي المفصَّل لم يحدُث بعد، ونأمل أن نجده خلال الأيام المتبقية قبل رفع مسودة مشروع الرؤية؛ فهو واجبٌ حتميٌّ على وسائل الإعلام وعلى الخبراء كلٍّ في مجاله، وفي تقديري أنَّ هناك الكثيرَ من الخبراء العُمانيين -خاصة في مجالات الاجتماع والبيئة والتشريع والسياسة والعلاقات الدولية- ممن لم يحضُروا المؤتمر، أو حَضُروه ولم يجدوا فرصةً لتقديم آرائهم، يُمكن أن يجدوا في هذه المساحات الإعلامية فسحةً لآرائهم، وهي مِساحات أرجو أن لا تتأخَّر في الاهتمام بمشروع الرؤية.
* الهُوية الوطنية ومشروع الرؤية:
حُضُور الهُوية الوطنية والاعتزاز بها في مشروع الرؤية في محور "الإنسان والمجتمع" أمرٌ مهمٌّ جدًّا، أصاب المشروع في التأكيد عليه؛ فالهوية تمثل ركيزة "القوة الناعمة" للمجتمع، والتشبُّث بها ضروري، خاصة في مراحل التغيير التي تتخوَّف منها المجتمعات عادة وقد تقاومها، وهو ما ترجمه هذا المحور بعبارة "مجتمع إنسانه مبدع، مُعتز بهويته، مُبتكر ومنافس عالميًّا، ينعم بحياة كريمة ورفاه مستدام"؛ فالاحتماء بالهوية هو الذي يضمن الانطلاق في تطوير المجتمع بطمأنينة وثبات وثقة، بل هو في تجربة النهضة العمانية الحديثة كان ضَمانة للانطلاق في بناء الدولة والمجتمع، وهو أحد أسرار وعوامل نجاح النهضة في مشروعها منذ 1970م، والتمسُّك به سيعطي للمجتمع حصانة واثقة لتجاوز ضرورات التغيير وتحدياته بوثوق وصلابة.
* لوازم الشراكة المجتمعية..ومن يَقُود مشروع الرؤية؟
الشراكة المجتمعية مبدأ مُهم نصَّت عليه الأوامر السامية مع انطلاق صياغة مشروع الرؤية، وهو ما يقضِي بتوسيع دائرة الرأي من الجميع ليكونوا شركاء في وضع الرؤية، وليكونوا أكثر التزاماً وحرصاً على تطبيقها في المستقبل، لكن بعض الخبراء العُمانيين والدوليين نبَّهوا إلى عدة نقاط مهمة متصلة بهذا الجانب:
- أنَّ الشراكة في وضع الرؤية نعم تُحمِّل الجميع مسؤولية التطبيق في الحكومة وفي أجهزة الدولة وفي القطاع الخاص، وفي المجتمع ومؤسساته الأهلية وأفراده، لكنَّ ذلك يعني بداهة وبالضرورة أن الدولة هي المسؤولة الأولى عن تطبيق الرؤية؛ فالدولة بكل أجهزتها هي قائدة المجتمع، وهي صانعة التغيير، وهي التي تُدير سلسلة الأولويات الوطنية الثلاثة عشر التي حدَّدها مشروع الرؤية، ومن المهم أن ينص مشروع الرؤية على ذلك؛ فمسؤولية الدولة قائدة، ومسؤولية القطاعات الأخرى تابعة لمسؤولية الدولة الأولى.
- أنَّ الشراكة تفرضُ مزيداً من الإلزام بنقل الرؤية إلى حيز التطبيق، والمضي إلى ذلك قُدماً دون تردد أو تراجع، ويمكننا تصور أن هذا ما توخَّته الأوامر السامية التي ألزمت بهذه الشراكة.
- أنَّ ذلك سيتطلب مع تطبيق الرؤية إدارةً للتغيير وإدارة للتوقعات التي ينتظرها المجتمع كذلك، وهما أمران يُمثلان تحدياً هائلاً لأي مجتمع ودولة تقف أمام استحقاقات مفصلية، وأمامها سلسلة من التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وهي في مناخ منافسة عالمي وإقليمي لا يتوقف، وهذا يقتضي قدراً عالياً من الحكمة والقرب من المجتمع والانفتاح عليه وإشراكه في السياسات، وإقناع المجتمع وكسب ثقته بجدوى السياسات في المستقبل المنظور والبعيد، حتى وإن اقتضت تغييراً أو انتقالاً من مسار معهود إلى مسار آخر.
* جدل المؤشرات الطموحة وحرق المراحل:
كان هناك جدلٌ كبيرٌ حول المؤشرات الاقتصادية والاجتماعية الطموحة التي وضعها مشروع الرؤية أمام الأولويات الوطنية الثلاثة عشر، والتي أرادتْ لعُمان أن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة على مستوى العالم في بعض المؤشرات؛ فهناك من يراها مُغالية في طموحها أو غير واقعية، وهناك من يراها ممكنة التحقق بسبب عوامل الثقة التي تتمتع بها السلطنة وتعطيها ميزة تنافسية عن غيرها.
ومهما يكن الجدل في ذلك فإنَّ وضع هذه المؤشرات العالية، وهذه الجسارة على الطموح أمر متوقع فـ"من يتجرأ ينتصر"، فلنا أن نجسُر على الحلم، شريطة أن تكون الاستعدادات مكافئة للحلم، فهو أمر جيد لعدة أسباب لعل أقربها أنه من طبيعة الاجتماع البشري أن ما يتحقق وما يبقى من أي خطة هو عادة أقل من المخطط له؛ فإذا كان المخطَّط له منخفض الطموح أصلاً، فإن ما سيتحقق منه سيكون أقل بطبيعة الحال، ومع ذلك فإنَّ الحقائق الواقعية تُبرز نفسها، وتواجهك بقوة، وليس أمامنا إلا أن نتحلى إزاءها بـ"تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة"، فأنت لست وحدك في هذا العالم، وأن تكون ضمن أعلى 10 أو 20 دولة في عالم متحرك متغير ومنافس ليس أمراً سهلاً، فالآخرون يتحركون أيضاً وليسوا ثابتين، ولن ينتظرك أحد بينما أنت تتهيأ للانطلاق، وحين تنطلق أنت بسرعة 30 كم في الساعة، وغيرك ينطلق بسرعة 100 كم في الساعة، فذلك يعني تلقائيًّا أنك ثابت في مكانك، وغيرك يتحرك بسرعة 70 كم في الساعة.
ويُمكن القول هنا إنَّ تحقيق بعض هذه المؤشرات يتطلب وثباتٍ متلاحقة وحرقاً لكثير من المراحل، وحرق المراحل أصبح أمراً وارداً وممكناً في ظل الثورات التقنية المتسارعة التي غيرت العالم، والنقلة التحديثية الضخمة التي عرفتها عُمان منذ العام 1970م تؤكد قدرة عُمان على إحداث الفارق في مدد وجيزة ومفاجئة عندما يكون وراء التغيير إرادة حديدية مصممة ومثابرة. ومن هنا، فإنَّ تحقق هذه المؤشرات أو قريب منها مُمكن، لكنه مشروطٌ بشحن جميع المؤسسات بهذه الإرادة الحديدية، ومشروط بقيادات مؤسسية جسورة وحكيمة قادرة على صناعة التغيير ورفع أداء المؤسسات إلى أعلى معدلاته، وقادرة على فهم طبيعة المرحلة وما يرافقها من تحديات سياسية واقتصادية واجتماعية، وتملك ذلك الحس السياسي الذي يدرك مستلزمات كل موقف وكل مرحلة من سياسيات وخطاب، ومن وراء ذلك والأهم منه المحاسبة المرتبطة بتحقيق المؤشرات أو الإخفاق في تحقيقها أو الاقتراب منها.
* الثابت الوحيد هو عدم الثبات:
لا بديل عن التفكير في المستقبل والتخطيط له، لكن وضع الرؤى المستقبلية البعيدة المدى هو أمر محفوف بالمخاطر في عصر اللايقين الذي تعيشه الإنسانية الآن؛ فحجم التغييرات التي تطال كل شيء وفي سنوات وجيزة يجعل التنبؤ بالمستقبل ووضع الحسابات تجاهه على أساس ما لديك من موارد بشرية واقتصادية أمراً عسيراً، وغير مضمون العواقب؛ فالثابت الوحيد الآن هو عدم الثبات، والمستقر الآن هو عدم الاستقرار، ولعلَّ أكثر هواجس المستقبل غير الواضحة هو مستقبل الطاقة وبدائلها، وهو أمر مصيري لكل اقتصادات الإقليم الذي نحن فيه، ويقترح بعض الخبراء تجاه موجات التغييرات المتلاحقة وعدم الثبات وانكسار اليقينيات أن تكون الرؤى المستقبلية مرنة للغاية ومحتملة بسهولة لخيارات التغيير، مع ثبات أهدافها العامة، وأن تبنى على أساس التخطيط لسيناريوهات متعددة متوقعة، وليس مساراً واحداً قد يفاجئنا بأنه في اتجاه مختلف تماماً، ومن الواجب علينا أن نسأن أنفسنا اليوم ما هي السيناريوهات الواردة التي سنواجهها وليس المتوقعة فحسب؟ وأن نفكر على هذا الأساس المتعدد التوقعات والحسابات سياسية كانت أو اقتصادية أو اجتماعية، مصحوبة باستشعارنا حالة التنافس والتزاحم المتزايدة التي تملأ ساحات الاقتصاد والسياسة في الإقليم والعالم؛ ففي أجواء التنافس تحشد الأمم كل طاقاتها البشرية والمادية وتعبئ كل قواها الناعمة والصلبة، ولذلك فإن الشعوب الحية تكون في أقصى طاقاتها عندما تواجه التحديات وليس في أوقات الاسترخاء والدعة، ونحن لدينا من الطاقات والإمكانات ما لو عبَّأناها كما ينبغي لأمسكنا بكل فرصنا ووصلنا إلى أغلب أهدافنا، والتعليم ثم التعليم ثم التعليم هو أداة التعبئة والاستعداد الأولى، وهو الذي يجعلنا في مستوى الجاهزية الضروري لكل التحديات القادمة؛ إذ "إنَّ التعليم هو جواز سفرنا للمستقبل؛ لأن الغد ملك لأولئك الذين يعدون له اليوم".
رابط الجزء الأول من المقال في جريدة الرؤية:
رابط الجزء الثاني من المقال في جريدة الرؤية: