هذه تعليقات خاطفة حول ما أثير ويثار تجاه الخطاب الديني في السلطنة ضمن ردود الفعل التي أثارتها محاضرة الدكتور عدنان إبراهيم والحضور الكبير لها في جامعة السلطان قابوس، وما وصفه البعض بفشل الخطاب الديني والمؤسسة الدينية في مخاطبة الشباب وإثارة اهتمامهم، ومع أن هذه التعليقات تناقش بعض ما نشر مؤخراً، إلا أنها تناقش كذلك جملة من الآراء التي انطلقت وتنطلق بين حين وآخر ناقدة للخطاب الديني، وعديد منها في نظري مقولات تعميمية مأسورة لأحكام مسبقة جاهزة أنتجت آراء غير منصفة تجاه خطاب لم يعرف قط إغلاقاً لباب الاجتهاد على مدى تاريخه، ورسّخ التمييز بين مسائل الدين ومسائل الرأي وانفتح على كل مدارس الأمة وتقابس معها، وأثمر مجتمعاً متسامحاً متعايشاً يشع بتجريته ويلهمها لغيره.
والصفة التي أقدم بها هذه النقاط هي صفة شخصية فحسب أجدها مسوغة باتصالي بمؤسسات العلوم الشرعية طالباً ومتعلماً، أو من خلال متابعتي للندوات والمؤتمرات العلمية الدورية المتصلة بدوائر العلوم الشرعية، أو ممارساً للخطابة المنبرية خلال العشرين عاماً الماضية، والخطابة وشؤونها بعض ما أثارته تلك المقالات.
* ما مصطلح "الخطاب الديني" أو "المؤسسة الدينية" التى درج الكثيرون على استخدامها إلا مقاربات تحاول دراسة الواقع وتحليله، وهي مقاربات غير دقيقة في أصلها لأن مفهوم المؤسسة الدينية في صورتها الكنسية والخطاب الديني في صورته اللاهوتية غير موجود في الإسلام من حيث الأصل، وما يجري هنا هو استدعاء هذه المصطلحات مع ما تحمله من إيحاءات إضافية لا تتصل في الأصل بحالتنا الإسلامية، وإلا فإن كل خطاب ينشر الخير ويواجه الشر أو يعمر الأرض ولا يتعارض مع منهج الله هو خطاب ديني، ولكن استخدام هذا المصطلح جرى على الألسن مع ما يسببه من التباسات ومفارقات.
* المفارقة هنا أن حدثاً جماهيرياً نادراً مثلته محاضرة الدكتور عدنان إبراهيم ومثيلاتها من محاضرات الدعاة المشاهير قرئت في اتجاه عكسي يشنع على "الخطاب الديني" في عمان بأنه خارج العصر وغير قادر على إقناع الشباب أو اجتذابهم، وأقول إنها قراءة عكسية، لأن مجمل الفعاليات التي انتظمت وتفاعلاتها يقتصي الإنصاف أن تحسب للخطاب الديني في السلطنة لا عليه، لأن البيئة المنفتحة الحاضنة لها هي صنيعة هذا الخطاب الديني وتحت إشراف المؤسسة الدينية، ومن نظم هذه الفعالية ومن رتب لها هم بعض الفاعلين في "الخطاب الديني" و"المؤسسة الدينية"، ومن حضرها هم كذلك في غالبيتهم طلاب الخطاب الديني ومن يعتني بالفكر الديني، وكان ينبغي أن تقرأ باعتبارها دلالة على سعة أفق الخطاب الديني وترحيبه بالأصوات المؤثرة المجددة المستنيرة حتى وإن كان هناك اختلاف معها في بعض الآراء، وأذكر هنا أن أول نقاش جرى مع الدكتور عدنان إبراهيم في يوم وصوله ــ وكنت جزءاً منه ــ دار حول مجموعة من القضايا كان العديد منها خلافياً، ومع ذلك كان نموذجاً في الرقي والتفاهم والتوافق والاختلاف الحضاري، فكيف نجعل من ذروة النجاح ومنتهى تمثل وتطبيق مبادئ التفاهم والاختلاف الراقي عنواناً على فشل الخطاب الديني؟!! أقل الإنصاف أن نشيد بهذه الناحية وننوه بها!
* هناك أمران أصبحا محط إعجاب العالم بنا ويمثلان في نظري مصدر "القوة الناعمة" لعمان اليوم، وهما سياسة السلطنة الخارجية والاحترام الدولي الكبير لها، ووسطية خطابنا الديني واعتدال وتوازن أدائه، فمثلاً لا يكاد يوجد الآن تجمع لعلماء المسلمين من كل مدارسهم إلا ندوة الدراسات الفقهية بمسقط التي تنظمها "المؤسسة الدينية"، ولذا أتساءل صادقاً: كيف نتهم خطابنا الديني بالتخلف وهو مثار إعجاب العالم؟! ولا أعرف كيف نهاجم المؤسسة الدينية وهي ركنٌ ركينٌ في سلامة رؤيتنا للعالم ونقاء رؤية العالم لنا!! وركنٌ أساس في حفظ استقرارنا ووسطيتنا، وهي التي رسخت رفضنا لنزعات التكفير والغلو والطائفية والإقصاء التي غرق فيها العالم الإسلامي، ألا نذهب بذلك إلى إضعاف عوامل قوتنا وتميزنا؟!
* كثيراً ما نسمع عن مصطلح "التابو" و"كسر التابو" الذي لا يخلو منه مقال أدبي أو نقدي، وجرى في الخطاب الأدبي كما تجري كلمة "الاستراتيجية" في أدبيات الإعلام حتى أصبحت تطلق على كل خطة، ولربما ستطلق قريبا حتى على قائمة التسوق من بقالة الحيّ!!.. فماذا نقصد بــ"التابو" وهي كلمة بالمناسبة تسربت للغة الإنجليزية من لغات بعض القبائل البدائية "البولونيزية" في إستراليا، ثم أصبحت تطلق على المحرم، وفي الخطاب الأدبي كثيراً ما تتجه إلى: المقدس، المحرم، التقليد الاجتماعي، الممنوع الاجتماعي، وفي كل الأحوال هل نطلب من خطبائنا "كسر التابو" بأي معنى من المعاني السابقة؟؟!! هل مهمة الخطيب الديني هي إضعاف "الخطاب الديني" القائم على المقدس؟! أو تجاوز المحرم الذي هو حدود الله "ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه"، أم هدم التقاليد الاجتماعية أو الممنوعات الاجتماعية والإيجابي الغالب فيها قائم على أساس أخلاقي أو ديني؟!! الذي أعلمه من مهمة الخطيب هو تمكين الإيمان بالمقدس، وإنعاش الوعي الأخلاقي، وتعزيز القيم، وحتى في نموذج عدنان إبراهيم وجدنا ذلك بجلاء، عدنان إبراهيم ــ مع حجاجه وجدله العقلي والنقلي ــ في خطابه مسحة إيمانية عالية ورفض عارم للإباحية وتشديد على إعادة الاعتبار للقيم، إنه عملياً يرسخ ما يسمونه بــ "التابو" ولا يكسره، ولا يشغب على ذلك بعض الآراء التي لم يكن بدعاً فيها بل سبق إلى كثير منها.
* في قناعتي أن تميز واحترام خطابنا الديني ليس في انفتاحه واعتداله فحسب، بل في انضباطه كذلك ونظامه، ومن هنا لا بد أن نعلم أن "الخطاب الديني" هو أمر بالغ الأثر لأنه حديث عن مراد الله من نصوصه حسب اجتهاد عالم أو فقيه، ولأن له سلطة على الأرواح والعقول لا تكاد توازيها سلطة، وهو كذلك علم له قواعده وأصوله، إنه ليس تعبيراً جزافياً ولا نصاً إبداعياً أدبياً متفلتاً من رقابة النقد وقواعده، ولأنه يوجه للإنسان المكلف بترسمه ولأنه يراعي حقوقه، إنه علم له نظامه وتقاليده وأصوله، ومن هذين المنطلقين وبقدر رسوخهما يكون الخطاب الديني منضبطاً وسليم الأداء، ومن هنا نتسائل: أليس تنظيم إقامة الجمع أمراً سليماً؟ وما الذي سيؤدي إليه فتح الباب على مصراعيه لكل من يرغب في إقامة جمعة مثلاً دون ضابط أو نظام، ونتسائل كذلك: هل إطلاق الأمر لاعتلاء المنابر لكل راغب يحقق المصلحة!؟ وماذا ستكون النتيجة؟ أليس فتح هذه الأبواب بلا نظام أو ضابط هو الذي دمر المجتمعات وضلل العقول ونشر التكفير باسم الله ودينه؟!! قد نتصور واهمين أن المصلحة اليوم في أمر ما وقد نكسب خطيبين أو ثلاثة ولكن فوضى الخطابة العارمة أمر جد خطير.
*من ناحية أخرى لو ناقشنا الدعوة إلى ارتقاء المهندسين والأطباء والمتخصصين العلميين للمنابر وممارسة الخطابة، لتساءلنا وما المانع طالما امتلك أي منهم مؤهلات الخطابة والمعرفة الشرعية الكافية؟!، وهو الواقع المطبق حسب ما أشهد، فعلى سبيل المثال أجد في ولايتي بدية بجُمَعها السبع خطباء متنوعي التخصصات وهم في حدود 15 خطيباً: اثنان منهم من تخصص الهندسة (أحدهما له ثلاثة مؤلفات في دراسات العقائد والنصوص الشرعية) والآخر يدرس مع الهندسة العلوم الشرعية في آن واحد، وعدد كبير منهم من التخصصات التربوية، وبعضهم من تخصص اللغة والآداب، وبعضهم من تخصص الإدارة، وأحدهم من التخصصات الطبية، وبعضهم متخصص في العلوم الشرعية، وعدد منهم يحمل شهادتي الماجستير والدكتوراه، وكل هؤلاء باستثناء ثلاثة أو أربعة ليسوا من الكوادر الدينية الرسمية!! إذن أليس هذا متاحاً وحاصلاً؟! أما القدرات الخطابية وأساليب العرض فكلٌ وملكاته وتطوير قدراته؛ وكل راصد لمحتوى الخطب المنبرية في الجمعات سيلاحظ أن المحتوى الأخلاقي هو الذي يحتل الصدارة أكثر من أي محتوى آخر، وهو تأكيد على أن البناء الأخلاقي هو الأساس في هذه المرحلة، لكن المساجد جزء من هذه المنظومة وليست كلها.
* من المفارقة أن ينظر البعض للمؤسسة الدينية على أنها عنوان على التراجع متجاهلين إنجازاتٍ كان لافتاً أن تتقدم "المؤسسة الدينية" بها، خاصة ما يتصل بالتقنية والتطبيقات الذكية على الهواتف المحمولة وهي أدوات الشباب ووسائل تواصلهم والتي حاز بعضها على جوائز دولية، أو برنامج التعليم عن بُعد الذي يضم آلاف الطلاب العمانيين وغير العمانيين، أو برنامج المكتبة العمانية مثلاً، أو معرض رسالة الاسلام في عمان الذي طاف أكثر من 160 مدينة حول العالم، أو تجربة مجلة التسامح - التفاهم بكل ما مثلته من تنوير واستيعاب للأفكار ولصيغها الحديثة، لا أعرف كيف نتجاهل قراءة ذلك؟! هل هذه علامات تقدم وانفتاح أم تراجع وانغلاق؟! وفي كل الأحوال ومهما وجه من نقد فإن الإنصاف يقتضي أن نشهد بالحق، فليس ثمة شيء كالتعميمات الجزافية يضر بالحقائق.
* أمام كل ما يثار من ضجيج تجاه "المؤسسة الدينية" شهدنا مثله في بعض الندوات المتصلة بالمرأة والتي نظمها بعض "الحقوقيين" مثلاً حيث نجد إشارات مترادفة للبحث عن كبش فداء في أي تأخر، فيحمل البعض الخطاب الديني المسؤولية أو يندد البعض بهيمنة "المؤسسة الدينية"، وطالما قلنا وسنظل نقول: أين وقفت المؤسسة الدينية ضد حركة المجتمع أو تقدمه!؟ هل عارضت تعلم المرأة؟ هل عارضت عمل المرأة؟ هل وقفت ضد قيادة المرأة للسيارة مثلاً؟ هل عارضت دخول المرأة لمجلس الشورى أو الدولة مثلاً؟ في الحقيقة لم ينشئ الخطاب الديني ولا المؤسسسة الدينية كوابح تعرقل حركة المجتمع؟ ومضى المجتمع متقدماً في مسارات ترددت أمامها مجتمعات أخرى، لقد كان لافتاً للنظر مثلاً أن قانون الأحوال الشخصية وهو القانون الأهم المنظم للشأن الأسري لم يتبن بعض آراء "المؤسسة الدينية" وتبنى آراء فقهية أخرى في عدد من الحالات المتعلقة بالطلاق، ومع ذلك لم تعترض ولم تصر على الأخذ برأيها، وفضلت أن تترك في القانون سعة للآراء الأخرى مراعاة لمصلحة المجتمع، وكفى بذلك انفتاحاً؛ أما أن تدافع المؤسسة الدينية والخطاب الديني عن المقدسات أو تذكر بقدسيتها أو تبشر بها فذلك واجبها وتلك مسؤوليتها، وسنلومها جميعاً لو قصرت في ذلك، لأن هذا الأمر متصل بهوية المجتمع وقيمه الكبرى.
* أود أن أختصر المقال هنا: من يرى أن مشكلتنا في خطابنا الديني في نسقه العام وممارساته المستقرة المنتظمة فهو مخطئ، ومن يرى أن مؤسستنا الدينية سبب لتأخرنا فهو واهم، في الحقيقة أرانا متقدمين ومثار احترام العالم في هذا المسار، وليبحث من يريد عن المشكلة في مكان آخر؛ أما أننا نقول بأنه ليس بالإمكان أفضل مما كان، وأن هذا نهاية المطلوب فلا نقول بذلك، ولا حتى من يديرون المؤسسة الدينية يقولون ذلك وفق ما أعرف، هناك دائماً مساحة واسعة لما هو أفضل، وطموح لما هو أحسن وأكمل، ويبقى الكمال غاية لا تنال، والنقد أي نقد يقتضي الإنصاف، وما كان العدل في أمر إلا جعله أجدر بالقبول والتسليم، والله لا يرضى الظلم لنفسه ولا لعباده.
والله الموفق لكل خير
محمد بن سعيد الحجري