التعليم،، حتمية التقييم والمراجعة الشاملة
في خطاب جلالة السلطان المعظم حفظه الله في مجلس عمان لعام 2011 نبه جلالته تنبيهاً واضحاً على ضرورة حدوث "تقييم شامل للمسيرة التعليمية" وفي خطاب جلالته في مجلس عمان لعام 2012 تحدث جلالته مؤكداً أن من أولويات المرحلة الحالية والمرحلة القادمة "مراجعة سياسات التعليم وخططه وبرامجه وتطويرها بما يواكب المتغيرات التي يشهدها الوطن والمتطلبات التي يفرضها التقدم العلمي".
محمد بن سعيد الحجري
مجلة أثير الالكترونية، 6/اكتوبر/2013م
ويدرك الجميع حتماً أننا اليوم أمام مرحلة فاصلة في المسيرة التعليمية تؤكد من جديد حاجتنا الماسة إلى التقييم العميق والمراجعة الشاملة للنظام التعليمي؛ مراجعة تفضي بوضوح إلى سياسات جديدة مناسبة لتحديات المرحلة، فالمراجعات لا تأتي إلا لحاجة ماسة إلى تعديل المسار وغربلة السياسات، لينفى منها ما لا يلائم المرحلة وتحدياتها، ويبقى ما يلائم المرحلة وتطلعاتها، مع استحضارنا أن سرعة المتغيرات الاجتماعية والثقافية داخلياً وخارجياً تملي علينا سرعة المراجعة وتصحيح المسارات وأن لا نهدر الفرص ونضيعها.
نذكّر بهذا ونحن نعايش معضلة تعليمية حقيقية لا مجال لاستخدام مصطلحات مخففة في وصفها فهي لا تغير من الواقع شيئاً، وخير لنا في باب التربية والتعليم بالذات أن نرى الحقائق كما هي ــ لا كما نأمل ــ حتى نستطيع معاً أن نبني فهماً مشتركاً لها، فلا يمكن بناء هذا الفهم المشترك على حين نختلف في توصيفها، وكما أن مجال التعليم لا يحتمل المجاملات والتسويف، فهو أيضاً لا يحتمل التجاذبات وتقاذف المسؤوليات، والأمم التي لا تفرط في أسباب النهوض تدرك تماماً أن لا مجال لصناعة قصة نجاح وطني إلا حين يكون نظام التعليم هو أول فصل من قصة النجاح وأول حجر في زاويتها، وكل من درس تجارب النهوض الآسيوي يدرك ذلك بوضوح لا لبس فيه، بل إن الأمم التي تقع في موقف الريادة والقيادة العلمية تدرك أن أي خلل في قدرتها على المنافسة هو نتيجة مباشرة لخلل التعليم، ففي ثماثنينيات القرن العشرين المنصرم عندما لمست الولايات المتحدة تراجعا في قدرتها على المنافسة في مجال الفضاء اتجهت تلقائياً لمراجعة قطاع التعليم، وأوكلت مهمة المراجعة إلى لجنة رفيعة المستوى من أعضاء الكونجرس لتخرج بتقرير شهير يدعو إلى إصلاح التعليم وكان عنوان ذلك التقرير مليئاً بالنذير وهو "أمة تحت الخطر"، ليعاد بناء النظام التعليمي على هذا القدر من الحذر والشعور بالخطر!
نعم إن قضية التربية والتعليم المثارة اليوم ليست قضية آنية لحظية، وهي لا ترتبط بحدث قد ينبهنا إلى أبعادها ومصيريتها، لكن هذا الحدث لا يؤسسها ابتداء، بل هي حاضرة في نفوس الجميع وهي حديث مجالس العمانيين، ولذا كان تنبيه جلالته إليها مرتين في خطابي مجلس عمان 2011 و2012 دليلاً على اعتبارها قضية وطنية محورية يمتلك الجميع شعوراً بإلحاحها وبضرورة بناء سياسات جديدة وقواعد مختلفة بشأنها، وأنه من غير الممكن إدارتها بنفس أساليب وسياسات مرحلة السنين العشر الماضية التي طبقت فيها نظم متعددة وبرامج متنوعة لم تفض إلى النتائج المرجوة.
ومن الإنصاف أن نقول أن جذور هذه المشكلة ليست وليدة عامين أو ثلاثة، بل تعود لأكثر من عشرة أعوام ماضية عندما بني القرار التربوي وفقاً لنزعة انفرادية وصلت إلى درجة احتكار هذا القرار، بينما الأصل في هذا القرار أن يبنى على صيغ معقولة من الشراكة مع الميدان التربوي ومع المجتمع، يومها كانت مؤسسات المجتمع تبلغ بالقرارات والسياسات فحسب لتستوعبها عن قناعة أو على مضض، فذلك لم يكن بالحسبان! بل إن الميدان التعليمي ذاته كان معزولاً عن بناء هذه السياسات والقرارات، لكن هذا الميدان كان يتحمل في آن واحد عبأين كبيرين: عبئ تفسيرها وتبريرها أمام المجتمع، ومشقة تنفيذها على أرض الواقع بكل ما فيها من تجريب وقفز على حقائق الواقع، ويومها للأسف لاذ كثير من التربويين بصمتهم ــ في أحيان كثيرة ــ واكتفوا بالتذمر الصامت، بينما علت أصوات كثيرة في المجتمع تنبه إلى أن المضي في سياسات التجريب، والتغيير الفجائي والانتقالات القافزة، واستيراد النظم، وضعف إشراك المجتمع سوف يؤدي إلى أزمة وشيكة سواء في التحصيل الدراسي أو في البناء القيمي الأخلاقي، أو على مستوى المناخ التعليمي بأسره والعلاقات بين أطرافه، وقد كان كل ذلك للأسف!، وبرهنت عليه مناسبات عديدة من بينها الاختبارات الدولية في مادتي العلوم والرياضيات لعام 2007 والتي كانت صدمة كبيرة للوسط التربوي بأسره، والتي أكدتها أيضاً نتيجة الاختبارات الدولية في عام 2011/2012م؛ ولعل من الإنصاف هنا أن نقول ما قلناه منذ عامين، وهو أن طبائع الأمور تقتضي أننا سنحتاج للسنوات الخمس القادمة وربما العشر في معالجة عثرات المرحلة الماضية وتقويم السياسات وردم الفجوة بين أطراف العملية التعليمية، وهو ما يعني أن هذه الساحة التي تبنى فيها الثقة على مهل بين هذه الأطراف لا تحتمل أي قدر من الهزات والاضطراب أو التراخي في التواصل بين أطرافها، وأن مسارين لابد أن يمضيا على تواز: تصحيح الأخطاء وبناء الثقة ومعالجة الجسد التربوي في مسار، والتقييم والمراجعة الشاملة في مسار مواز؛ والعناية بالمعلم في المسارين هي أول الواجبات سواء لجهة تأهيله وتدريبه، أو لناحية حقوقه، فهو شريك أساسي فيهما وبدون حماسه وإيمانه سيتعطل المساران.
من الواجب أن نقول أيضاً أن هناك مكاسب تحققت خلال العامين الماضيين، فقد أنشئ مجلس التعليم كهيئة مرجعية عليا على هذا القطاع الكبير، وعين الآلاف من المعلمين ليتراجع العبئ نسبياً عن كاهل المدرس المثقل بالأعباء، ووضعت لائحة نظام سلوكي للطلاب تعيد للمدرسة هيبتها المهدرة وتضع سلطات في أيدي إدارات المدارس بعد أن كانت شبه مجردة منها، وهناك حركة تغيير في بعض المناهج فأصبحنا نصغي لنقاش حول تفاصيها من قبل إخواننا التربويين، وهناك تعزيز لموازنة التدريب سمحت بإطلاق برامج تدريبية كانت مفتقدة، وهناك بعض المعالجات التي أُقرت لمشكلة المدرسين العاملين في المناطق البعيدة عن الحواضر والذين يتحملون عبئاً قد لا يتصوره المستريحون في ولاياتهم، وهناك بداية معالجة لمشكلة النقل المدرسي المزمنة والمعقدة، وهذا كله عمل جيد وجهد كبير له احترامه وتقديره، ولا نتصور أن إخواننا المعلمين يتنكرون له؛ لكنه يثير في المقابل سؤالاً كبيراً يطرح ونحن في غمرة الأزمة، لماذا لم تنجح الوزارة في إقناع الميدان التعليمي بأن حركة التطوير بدأت؟ ولماذا لم تنجح في صنع الشراكات معهم للتعاون في هذا الاتجاه؟ ولماذا تركت الفجوة بين الوزارة والميدان لتتعاظم؟ ولماذا امتلأ المناخ التعليمي بالاحتقان لنصل إلى هذه الحالة التي يعاني منها اليوم كل بيت عماني دون استثناء؟! ولماذا لم تعزز مبادرات التكريم ليصل أثرها بشكل جدي ومؤثر إلى الساحة التعليمية ليتلاشى الاحتقان وتعود الثقة؟ ولماذا لم نتدارك الأمر حتى لا نصل إلى ذروة المشكلة التي يتشبث فيها الأطراف بمواقفهم ونبدأ في الخسارة؟! ومعها نخسر الثقة وتتشنج المواقف.
هناك عنصران واضحان في نظري يبرران كل ذلك: أولهما: أن عملية “التقييم والمراجعة الشاملة” لم تتم أو لم تستكمل، وما لم تحدث هذه العملية الواسعة النطاق التي تفحص كل مفاصل المنظومة التعليمة، وتنتج سياسات جديدة ملائمة للمرحلة، فإن منظومتنا التعليمية ستظل عرضة للأزمات والمطبات الكبرى، وبكل بساطة لأن عدم إتمام “التقييم والمراجعة” يسمح ببقاء أذيال من السياسات القديمة التي صنعت المشكلة أصلاً، وهي التي تأزم المناخ التعليمي اليوم.
وثانيهما: أن الهوة لا تزال موجودة وضعف الثقة ما يزال قائماً تاركاً مساحة واسعة لنشوء الاحتقانات، سواء داخل المؤسسة التربوية بين الهياكل الإدارية والميدان التعليمي، أو بين المؤسسة التربوية والمجتمع، وهو ما يفسر اليوم هرولة كثير من العمانيين للتعليم الخاص الذي تتعاظم كلفته، وهو ما يفسر بقاء أسئلة كبرى قائمة إلى اليوم من بينها الفرق الهائل في معدلات التحصيل الدراسي بين الجنسين خاصة في الرياضيات والذي هو أعلى المعدلات عالمياً، وهو ثالث أعلى المعدلات عالمياً في العلوم، وذلك في الاختبارات الدولية 2007، وهو أيضا ما يفسر بقاء تساؤلات المجتمع دون إجابة مقنعة حول قضية التعليم التكاملي مثلاً وما جرى له.
إن القضية المثارة الآن ليست وليدة حدث، لكن الحدث الراهن الذي سمي إضراباً أو انقطاعاً ــ سمه ما شئت ــ هو ظاهرة تعبر عن بقاء مشكلة عميقة لم تتم فيها إجراءات معالجة تنطلق من مبدأ "التقييم والمراجعة الشاملة" أو أننا لم ننجح في إشراك الأطراف جميعها في القيام بمسؤولية المراجعة؛ وهو مؤشر على أننا نفتقد لمنهجية واضحة في إدارة الأزمة أو التنبؤ بها، ومن المؤسف أننا كنا نتوقع من مؤسسة الشورى أن تبادر إلى تدارك الأمر قبل وقوعه، خاصة وأن لجنة التربية والتعليم بالمجلس كانت في الميدان قبيل وقوع المشكلة تزور المدارس وتستمع للمعلمين، وقد لاحظت بوضوح مستوى التذمر والاحتقان وعدم الرضى والفجوة القائمة بين أطراف العملية التعليمية، وقد كان الجميع يعول على أن تحركاً من قبل المجلس قد يصنع انفراجة أو يقترح حلا أو يستبق الأزمة، لكن شيئاً من هذا لم يحدث للأسف.
وقد تركنا الساحة التربوية بأطرافها لتحسم أمرها خلال الأيام الماضية، ومن الواضح أن المشكلة لا تزال قائمة بدرجة أو أخرى.
والذي نتصوره اليوم أن حلها لا بد أن يأتي بتدخل جهة مرجعية ولتكن "مجلس التعليم" أو "مجلس عمان" أو بجهد مشترك بين المجلسين يؤسس بمبادرته لحل القضية من ناحية، كما يجعلها من ناحية أخرى مناسبة لانطلاق عملية "التقييم والمراجعة الشاملة" التي تضعنا على الطريق لبناء نظام تعليمي محكم ومتناغم وفاعل يكافئ عمان وطناً وتاريخاً وآمالاً وفرصاً.
وبين يدي وثيقتان مهمتان يؤسسان لمبدأ "التقييم والمراجعة الشاملة" هما "تقرير التنمية البشرية، عمان 2012" الصادر عن المجلس الأعلى للتخطيط، و"التعليم في سلطنة عمان، المضي قدماً في تحقيق الجودة" وهو دراسة مشتركة بين وزارة التربية والتعليم والبنك الدولي وقد نشرت في عام 2012م، والوثيقتان كلاهما تتيحان من التوصيف للمشكلات والتحديات، ومن البيانات والمعلومات، وتضعان من التوصيات والمقترحات ما يجعل الشروع في "التقييم والمراجعة الشاملة" متاحاً في أقرب فرصة، لتحل الإشكالات وتمكن الثقة، وتنمو الفرص وتولد الحلول الإبداعية، وتعزز الجودة، وليكون الاستثمار في التعليم وضخ الموارد فيه ضمانة لمستقبل عمان المشرق دائماً بعون الله،،، ولعل لنا وقفة لاحقة مع هاتين الوثيقتين المهمتين .