هل خنق الدين الشعر في عمان ؟
و هل جنت عليه الجغرافيا؟
نقاش لأطروحات الدكتور محمد المحروقي
(2)
يبني الدكتور محمد المحروقي رأيه على مسلمتين ــ في رأيه ــ تؤديان إلى نتائج ، أولهما أن الدين و طبيعته الصارمة في عمان أدت إلى خنق الشعر و كبحه ، و ثانيهما أن "جناية الجغرافيا" أدت إلى عزله عن منابع الإبداع في "المركز الثقافي العربي"،و من الملاحظ هنا أن هذين العاملين استخدما كعاملي كبح في طرحه ، و كأنهما أداتان لا تتحركان إلا في اتجاه واحد ، إذ لا تطرح الورقة أثراً إيجابياً واحداً لهذين العاملين على الشعر العماني ، و بذا فإنها لا تحيل تاريخ هذه العلاقة بين الدين و الجغرافيا و الشعر إلى حركة تفاعلية طبيعية بين المد و الجزر الذي نعهده في طبيعة الحالة الأدبية التي تقوم على البشر، بل و على الطليعة المثقفة و المتعلمة منهم، فالطبيعي هنا ــ في أقل الاحتمالات ــ أن نرصد حالات من الاستثناء من قاعدة الاستسلام الأبدي للشعر العماني طوال 1500 عام لــ "سطوة الدين" أو لـ "جناية الجغرافيا" ، و هو ما يضعنا أمام حتمية تاريخية موهومة لا أساس لها من الصحة ، لا في أصل افتراضها و لا في واقع تحققها!
و إذا كان التاريخ يرفض الحتميات القاطعة ، فإن التاريخ الثقافي هو أشد رفضاً لها ، إذ عليه مدار التغيير و هو مرتكز التحولات في الوعي و في الواقع ، و أن لو كانت هذه الفكرة صحيحة بهذه القطعية الإلغائية فإنها ستوقف العقل الثقافي في عمان أمام احتمالين لا ثالث لهما ، إما أنها ستصيبه بالشلل و ستسلمه إلى الموات ، أو أنها ــ و بافتراض صحتها ــ في لحظة ما من لحظات التاريخ حين تصل إلى انسداد و جمود ستتسبب ــ حسب ما هو معهود من نواميس التغيير ــ في هزات ثقافية أدبية عنيفة تحاول أن توقف هذا الموات باحثة عن نسغ الحياة الإبداعي "في المركز الثقافي العربي" الذي افترض الدكتور المحروقي أننا معزولون عنه .
بيد أن كل هذا "السيناريو" المفترض سواء باستسلام الشعر لعوامل موته،أو بهبّات طبيعية لصحوه و إفاقته و فزعه نحو "المركز" هو سيناريو موهوم ، فلا الشعر مقموع بالدين في عمان ، و لا الجغرافيا حاصرته و جنت عليه ، و لا هو كائن ميت إبداعياً مستبدل بشبح من "النظم".
و كما قلنا من قبل فالحق أن الشعر العماني هو الشعر العربي في عمان بكل ما فيه من دوائر إبداع تتسع حيناً ، و تضيق حيناً لتغدوا جزراً أو نقاطاً ، و خصوصية الجغرافية و الثقافية الدينية لعمان وضعت بصمات من التمايز في هذا المنتج الأدبي ظهرت تجلياتها في عدة مناح : في اللغة الشعرية ، و هيكل و بناء القصيدة ، و بعض الأغراض الشعرية بالتوسع في أغراض أو ضمور أغراض أخرى ، واختفاء غرض فرعي أو غرضين ، و هو ما يستلزم الدراسة والبحث و التقصي ،و قد عالجت جزءاً من ذلك في دراستي المعنونة بــ "الشعر العماني في العصرين النبهاني و اليعربي . إشكالية الإبداع و الاتباع ".
· توظيف لأطروحة قديمة :
يعتمد الدكتور المحروقي في هذا الباب على فرضية قديمة تداولها مؤرخو الأدب القدامى ترى بأنه و حسب عبارة منقولة عن أبي عمرو بن العلاء "الشعر نكد بابه الشر فإذا دخل فيه الخير ضعف ولان" أي إذا دخل فيه الإسلام حسبما يرى الدكتور المحروقي الذي يقول بأن الإسلام جاء "بقيمه و قوانينه المضادة لقيم الشعر و قوانينه ، و ما استطاع الشعر التحليق عالياً ــ في الحالة العربية ــ إلا بكبح تلك الفاعلية الدينية" حين تخفف من قيود الدين في العصر العباسي ، فــ "برزت لقلب المشهد الشعري أغراض كالخمريات و المجون و شعر التصوف" و يرى الدكتور المحروقي أن الحالة العمانية كانت استثناء من ذلك إذ إن الدين "استمر في التأثير دون أن يكبح جماحه كابح" لذا فقد "ضمر الشعر و استمر ضمور الشعر بسبب العزلة الجغرافية" ، و بغض النظر عن أي نقاش حول هذه الفرضيات ، و مدى تأثيرها على شعرية الشعر و هو نقاش قد يطول ، يمكن الإحالة فيه مثلاً لدراسة الدكتور محمد لطفي اليوسفي "فتنة المتخيل"، على أن كثيراً من هذه الطروحات في هذا الباب لا تزال في حاجة إلى تمحيص ، بغض النظر عن كل ذلك فإن الذي يغنينا عنه مناقشة هذه المسألة من أساسها تلك النتائج التي ساقها الدكتور المحروقي ، و التي جاءت في سياق الاسترسال الذي يستسهل إصدار الأحكام الصارمة بقوله "كان الشعر العماني في خدمة الدين دائماً ، لم يتمرد الشعر على الدين بصورة فاعلة و مؤثرة ... فإضافة إلى سطوة الجغرافيا ،و هيمنة الدين أدى عدم الاحتكاك بالآخر صاحب التجربة الأرقى إلى تجفيف مصادر التجديد في الشعر العماني القديم و ليس غريباً من هنا أن تذوب شخصية الشاعر في شخصية الفقيه ، و ليس غريباً أن يتداخل النظم و الشعر ، و يغيب تبعاً لذلك الفن "
هذا مع ملاحظة أن هذا النقاش الذي أثاره الدكتور المحروقي حول هذه المقولات في صفحته عبر الفيس بوك قد أوصله إلى مزيد من العبارات التعميمية المرسلة من نحو أنه لا يستثني من هذه الأحكام التاريخ الشعري العماني القديم و الحديث كله وصولاً إلى أبي مسلم ، و منطقة التاريخ الوحيدة التي يستثنيها و تتوقف عندها هذه الأحكام هي الشعر المعاصر حين بدأ اتصال الشعر العماني بالتجربة الشعرية العربية و سقط ــ حسب رأيه ــ الجداران "الجغرافيا و الدين" . إن مؤدى ذلك أن التاريخ الشعري العماني بدأ للتو مع اتصاله بالتجربة الشعرية العربية! و هو ما يعني بالضرورة قطيعة مع تاريخنا الشعري ، كنا نبحث أن أسبابها باعتبارها أمراً نحاول تغييره ، فإذا بنا نجد تنظيراً لها باعتبارها الحالة الطبيعية التي تكافئ ضعف الإبداع العماني حسب هذا الزعم!
و يوجز المحروقي ــ في ورقته ــ النتيجة على مستوى الأغراض الشعرية بالقول : "لذا من المستحيل أن نطلب في الشعرية العمانية أغراضاً مما أشرنا إلى أنه عاد لقلب المشهد الشعري في العصر العباسي (يقصد الخمريات ، و الغزل ، و التصوف) سوى استثناءات متواضعة .."
و مع رفضنا الحاسم لهذا التصنيف الذي لا يستند على أساس في وصف الإنتاج الشعري العماني بأنه أقل رقياً من نظيره العربي بسبب عدم تمرده على الدين ، فإننا نبدأ مناقشة ذلك مما انتهى إليه و هو قضية الأغراض الشعرية في الشعر العماني خاصة تلك التي رأى ــ في عبارة شديدة التعميم و القطع ـــ أنه "يستحيل" أن نجدها في الشعر العماني!
· الدين و الأغراض الشعرية .. جدلية الإلغاء و الإبقاء :
أول ما نلحظه على طرح الدكتور المحروقي أنه لا يرى في الدين إلا كابحاً للشعر ، أو أنه محرض على النظم الذي خدم المعرفة الدينية بطريقة أو أخرى. و لقد كان من الطبيعي أن ينظر على الأقل لهذا العامل بكل مفاعيله المتوقعة منها تجاه الشعر ، إن لم تكن تلك الآثار مرصودة رصداً علمياً محكماً.
لكنه فضل التركيز على "النظم " و كأنه وصمة الدهر! و النظم لا ينكر حضوره أحد من الباحثين الذين يدركون حدود الفرق بين النظم و الشعر ، بل إننا نوافق الدكتور المحروقي القول بأنه خالط الأغراض الشعرية أحياناً ، و أن الرتابة النظمية تسللت إلى الشعر في بعض الأحيان و هذا ما لا جدل فيه ، و لكن هذا الأمر ليس إلا وجهاً واحداً من الحقيقة ، ففي المقابل تؤكد بعض الدراسات أيضاً أن الروح الشعرية تسللت بخفة إلى بعض عوالم النظم سواء في قالبها الإيقاعي الذي تخلى عن "الرجز" أحياناً ، أو في لغتها الشعرية التي غالبت النزعة النظمية كما هو حاضر في شعر أحمد بن النضر مثلاً ، أو في القصيدة "العبيرية"الشهيرة في وصف الجنة للفقيه الكبير محمد بن إبراهيم الكندي(ت508هـ) صاحب بيان الشرع.
و من المؤكد أيضاً أن الحضور القوي للدين في الوجدان و الوعي العماني دفع إلى توسع بعض الأغراض من قبيل شعر الإلهيات و الأذكار ، و لكننا مع ذلك نقول باطمئنان : إن هذا النمط من الشعر العماني هو بعيد عن وصف النظم في أغلب الأحيان ، بل هو شعر يمتلك طاقة الشعر و تتجلى فيه روحه الفنية ؛ إذ كيف لا نرى تلك الروح الشعرية في شعر اللواح الخروصي مثلاً ، بكل تجلياته الصوفية،واستلهامه الواضح لعناصر شعر التصوف لغة و مصطلحاً و أغراضاً و معاني و تشبيهات واستعارات؟! و كيف يمكننا أن نوافق من لا يرى في إلاهيات و سلوكيات و استنهاضيات الشيخ سعيد بن خلفان الخليلي إلا نظماً جامداً؟! و هي الشعر في أبهى تجلياته ، سواء في جموحها الثائر ، أو في توسلها الإلهي الوجداني و تأملاتها العميقة في الذات الإنسانية ،كما في الأبيات الشهيرة مثلاً :
أعيان تسبيحي بنور جناني * فأشهد مني ألف ألف لسان
و كل لسان أجتلي من لغاته * هدى ألف ألف من شتيت معاني
إلى آخر الأبيات ..
و كيف يسوغ مثلاً أن نرى في إلاهيات أبي مسلم التي استغرقت ثلثي ديوانه نظماً مجرداً و مصمتاً؟! و هي في لمحاتها الصوفية ،و في ومضاتها الفلسفية ، و في استغراقها التأملي في العلاقة بين الإنسان و الخالق،و في تساؤلاتها المشرعة على الكون و الحياة ، تمثل الشعر في أبهى تجلياته، فناً و رؤية للحياة!
أما فيما يتعلق بالأغراض الشعرية خاصة (الخمريات ، و الغزليات) تلك التي يرى الدكتور المحروقي أنها هي التي صنعت الانقلاب في علاقة الدين بالشعر و أعادت له استقلاليته في الشعر العربي عامة ، و رأى "استحالة" وجودها في الشعر العماني، فإننا نقول بأن الحقيقة الساطعة الوضوح هي وجود هذه الأغراض حاضرة ومنبثة في مدونة الشعر العماني على امتداد تاريخها ، إذ نجد الخمريات و الغزليات و الطرديات،و شيئاً من شعر المجون عند شعراء كالستالي ، و النبهاني ، و الكيذاوي ، و الحبسي ، و المعولي، و نجد الفخر بمستوياته المختلفة ، ما كان منه معتدلاُ ،و ما كان منه شاطاً و متعصباً ، عند شعراء كسليمان النبهاني و محمد بن سعيد القلهاتي و محمد بن مداد الناعبي ، و الإثنان الأخيران من الفقهاء و العلماء الكبار . و يمكننا القول باطمئنان بأن الدين لم يلغ أي غرض من الأغراض في الشعر العماني ، وجميع هذه الأغراض من قبيل الغزليات(حتى الصريحة منها) و الخمريات و شعر الفخر المبالغ فيه ، و شعر المديح الذي يجاوز الحد في الثناء ، و الهجاء ، و غيرها من الأغراض التي قد يتصور تصادمها مع الدين ، كلها حاضرة في هذه المدونة الشعرية المترامية الآماد ، كما أن هذا الحضور ليس حضورا خجولاً أو استثنائياً ، بل هو حضور يشكل ظاهرة شديدة الوضوح ، لعل راشد بن خميس الحبسي(حي إلى1150هـ ) هو بعض أمثلتها ، وهو الذي استثناه الدكتور المحروقي من قائمة "النظامين" ، بعد تنبيهنا إليه ، مع أنه ليس الاستثناء الوحيد ، لكن المفارقة التي تجعل الحبسي لافتاً للنظر هي كونه شاعر الدولة اليعربية ذات المرجعية الدينية! و مع ذلك نجد في ديوانه كل هذا الحضور الواسع لهذه الأغراض ، و لعلنا نشير هنا إلى محاضرة الدكتور هلال الحجري التي ألقيت في معرض الكتاب الفائت بعنوان "حداثة الأسلاف" و التي تتبع فيها هذه الظاهرة ، و رصد فيها بعمق كيف أن الشعراء الفقهاء قاربوا هذه الأغراض و توغلوا فيها أحياناً ، دون أن يقمع الدين حسهم الشعري الفني .
و مع ذلك فإننا نقول أيضاً بأن الغرض الوحيد الذي نفي من الشعر العماني هو "الغزل المذكر" و هو ما لا أحسب أن أحداً يأسف عليه!
· شخصيتا الشاعر و الفقيه ، بين التجاور و الاندماج :
يرى الدكتور المحروقي بأن سطوة الدين و عزلة الجغرافيا جعلت الشعر في خدمة الدين ، و دمجت شخصية الشاعر في شخصية الفقيه ، و نقول هنا :إن قضية العلاقة بين الفقيه و الشاعر قضية قديمة و مستمرة في الشعر العماني ، ابتداء بالشيخين محمد بن ابراهيم الكندي و القلهاتي الفقيهين الشاعرين ، و انتهاء بالقاضي أبي سرور الجامعي صاحب ديوان"بين الفقه و الأدب" ، و القاضي خالد بن مهنا البطاشي و الشيخ عبدالله بن علي الخليلي ، مروراً بخلف بن سنان الغافري و أبي مسلم الرواحي ، و غيرهم ؛ لكن الدراسات تثبت أن مزعم ذوبان شخصية الشاعر في الفقيه ليس صحيحا دائماً ، و أن الأمر يعتمد إلى حد بعيد على الوعي بمفهوم الشعر و الشاعرية عند الفقيه أو الشاعر ؛ و تبرهن بعض الدراسات على أن شخصيتي الفقيه و الشاعر قد تتجاوران و لا تندمجان بالضرورة ،و من أمثلة ذلك محمد بن سعيد القلهاتي(ق 6 هـ) ، و سالم بن محمد الدرمكي (ت 1224هـ - 1809م ) و خلف بن سنان الغافري (حي إلى 1127هـ)، بيد أن مثاله الأكثر سطوعاً ــ من وجهة نظري ــ هو محمد بن مداد الناعبي ، و هو فقيه و شاعر عظيم غزير الإنتاج مجايل لسليمان النبهاني لكنه لم يحض بذات شهرته ، حيث تسجل بعض نصوصه وعيه العميق بمفهوم الشعر و الشاعرية و أعلن فيه عن موقفه من الشعر و علاقته به و رؤيته لرسالته في الوجود ، و عسى أن يتيسر الوقوف أمام بعض نصوص هذا الشاعر ،وقفة أكثر روية و تأملاً .
· ما الذي حضر و ما الذي غاب ؟
وجدنا أيضا ً أن الدكتور المحروقي لم يلتفت إلى ما أضافه حضور الدين في الوجدان العماني للشعر ، خاصة في حضور القيم و المعاني الدينية في شعر المديح النبوي ، و مديح الأئمة ، و كذلك الحضور القوي للدين في شعر الملاحم و الحروب خاصة في مرحلة الكفاح ضد البرتغاليين كما نجد ذلك عند الشاعر الصارمي(حي إلى 1081هـ) ، و الحبسي (حي إلى 1150هـ) على سبيل المثال، أو تلك الروح الدينية الإصلاحية الرافضة للواقع المنبثة في نسيج شعر أبي مسلم الرواحي ، حتى في شعر الإلهيات و الأذكار ؛ لم يتطرق الدكتور المحروقي لذلك و لو على اعتبار أنه الشق الآخر من المعادلة و أثرها الطبيعي ، بينما فاجأنا الدكتور المحروقي بتركيزه على مثال شعري واحد للبرهنة على فكرة حصار الدين للشعر ، و هو مثال يشهد على عكس الطرح الذي تصوره ، فهو يستدل على ذلك بأبيات من قصيدة الدرمكي النونية الشهيرة. و الدرمكي قاض و فقيه من فقهاء مطلع الدولة البوسعيدية .
فمع ثناء الدكتور المحروقي على هذه القصيدة ، نجد أنه يومئ بأن كابح الدين لانطلاقة الشعر قد أعلن عن نفسه في بيت واحد هو :
صنم عليه الخلق أثنو كلهم * لولا التقى لعبدت ذلكم الوثن
فقد رأى الدكتور المحروقي في احتراز الشاعر بــ "لولا التقى" دليلا على أن الدين كابح للشعر،و لذا فقد مضى في انتقاد الشعراء الذين عارضوا هذه القصيدة ، و في تحايلهم على معارضة هذا البيت ذي الجرأة المحسوبة و المحتاط لها!.
و لنا أن نرى في هذه القصيدة لهذا القاضي الفقيه دليلاً على عكس ما أراد الدكتور المحروقي أن يثبت، فهي مثال واضح على تجاور شخصية الفقيه و الشاعر ، ففي قصيدة المديح هذه نجد أن الشاعر " القاضي الفقيه " انصرف للغزل الذي استوعب أكثر من ثلث القصيدة ، فقد تدفق فيها بغزل رومانسي رقيق مقتربا في لحظة ما من غزل صريح قبل أن يخلص للمديح ممدوحه السيد حمد بن سعيد ، و هذا التوسع في الغزل في غير موضعه دليل آخر على أن الدين لم يقمع الحس الشعري .
ومن غير المجدي التركيز هنا على بيت الاحتراز الآنف الذكر ، أو على المعارضات التي حاولت أن تجاري جرأة الدرمكي على التوغل في منطقة الغزل الخطرة ــ حسب ما يفيده كلام الدكتور المحروقي ــ ، فهذا التركيز على الاستثناءات و التفاصيل لا يقف في وجه الظواهر الطبيعية المطردة و القارة ، إذ أن الاحتراز الذي أعلنه الشاعر بــ "لولا التقى" هو إعلان لمقتضى الاعتقاد الإيماني و حضور التدين الحارس لثوابت الدين و الخلق ، و لا يخدش من الشاعرية شيئاً ، بل عكسه هو المشوه للشاعرية بالافتعال و الادعاء، فهو تصوير طبيعي لتجاذبات العقل و العاطفة في الوجدان الإنساني ، و هو شبيه بما نجده ــ مثلا ــ عند أمير الشعراء أحمد شوقي في رائعته الشهيرة :
خدعوها بقولهم حسناء * و الغواني يغرهن الثناء
حين رفع من درجة توتر النص الذي والى رسم سيناريو اللقاء عند قوله مصوراً صراع الذات الإنسانية بين داعي الفضيلة و نازع الإغواء :
و علينا من العفاف رقيب * تعبت في مراسه الأهواء
و هكذا فإن هذه القصيدة الرائعة (نونية الدرمكي) هي مثال آخر على أن المصادرة المفترضة للشعر من قبل الدين في الحالة العمانية هي قضية موهومة لا أساس لها .
إن المقولات المرسلة و الأحكام المفترضة يستحيل أن تستوعب أبعاد هذه العلاقة بين الدين و الشعر في الحالة العمانية، و أن الدراسات المستفيضة في هذا الباب هي التي يمكن التعويل عليها في رصد جوانب هذه العلاقة الممتدة طوال أكثر من 1300 عام ، و أنبه هنا إلى الدراسة المهمة و الموسعة للدكتور محمود السليمي و المعنونة بـ "أثر الفكر الإباضي في الشعر العماني" و هي التي رصدت هذه العلاقة في القرنين الثالث عشر و الرابع عشر الهجريين. و على مثلها يمكن التعويل و البناء .
· الإمام السالمي و الفرز المنهجي .
من الطريف و نحن أمام هذه الجدلية في علاقة الفقيه و الشاعر أن نذكر أن البعض هنا يفتعل أزمة حيث لا أزمة ، و يفترض قضية حيث لا قضية! فعلى حين يرى بعضنا اليوم أن الفقهاء كانوا زبانية عذاب الشعراء و قامعيهم! و أن الدين هو الذي سطى على الشعر في عمان فجعله بعض أدواته التلقينية في النظم! على حين ذلك نجد أن التاريخ العماني ــ فيما نعلم ــ لا يسجل مصادرة لكتاب ، أو نفياً كاتب ، أو حرقاً لمنتج فكري بسبب موقف أيدلوجي ، و لم يعرف منع كتاب من التداول ، أو تحذيراً من ديوان شعري ، أو شيئاً من هذا القبيل مما وجد في بيئات أخرى ، بينما عرف التاريخ الثقافي العماني الحديث أن دواوين الشعر العماني بما فيها ديوانا النبهاني و الستالي و غيرهما وجدت العناية بهما في بواكير حركة التحقيق و النشر على يد الفقهاء أنفسهم ، و كانوا يرون في ذلك جزءاً من متطلبات مشاريعهم الإصلاحية.
ومن الحكايات الطريفة في ذلك أن أحد قضاتنا و فقهائنا المعاصرين يؤكد لي أنه نشأ في بيت لم يكن فيه إلا كتابان أحدهما في السيرة النبوية و الآخر هو ديوان السلطان سليمان النبهاني فكان أن عكف على قراءتهما ، فقرأ ديوان النبهاني أكثر من مائة و خمسين مرة حتى حفظه بغزلياته في معشوقته "راية" و بطردياته و مفاخراته الشديدة الشطط !فأين هي الخصومة المفترضة!؟
من المدهش في هذا السياق أن الإمام السالمي في تحفة الأعيان ، على موقفه الأيدلوجي الصارم من سليمان النبهاني ، و مسلك حكمه الموصوم بالبغي و التجبر و العدوان ، نجده في وقفة منهجية فذة يخصص عدة صفحات لعظمة شاعريته و فصاحته و قدراته البيانية الفذة ،فاصلاً بحسم بين رأيه الفقهي فيه و حكمه الشرعي عليه ، و بين شاعريته التي لا يتنكر لها أحد ، بل هي بعض عناصر الفخر الوطني ، فيصف بعض قصائده بأنها "تزاحم المعلقات السبع فصاحة و تزيد عليها عذوبة و رشاقة" ثم يورد بعض قصائده معتذراً للقارئ من أنه لولا الإطالة لأوردها كاملة! إن هذا فصل من فصول العلاقة الطبيعية بين الشاعر و الفقيه في الحالة العمانية ، وهي تؤكد تهاوي تلك الأحكام و العبارات المرسلة من قبيل "أن المذهب الإباضي قمعي تجاه الشعر" و هي عبارة وجدناها تصدر من الدكتور المحروقي في ثنايا الحوار الذي جرى على صفحته عبر الإنترنت!.
و لعل لنا وقفة أخرى حول قضية الجغرافيا و العزلة التي كانت السبب الرئيسي الآخر ــ حسب رأي الدكتور المحروقي ــ الآخر في وهن الشعر العماني و تضاؤل طاقته الشعرية مقارنة بالشعر العربي عامة ، و هي دعوى نرى كيف تسقط دعاماتها ،أمام هذه المدونة الشعرية الضخمة التي كانت ولا تزال جزءاً رئيسياً من تاريخنا الثقافي العماني الخالد .